لعل أكثر ما يثير القلق. أزمة السلطة ، ويرجع ذلك إلى استقلال الدول في عالم تحاول فيه المؤسسات المتعددة الأطراف تنظيمَ عملية صنع القرار اللازمة على نطاق عالمي. وهي أزمة تمثيل تؤثر أيضا على ممارسة السلطة وضمان الحريات المدنية وشرعية السلطات، ولا سيما في الديمقراطيات. ولكن ليست الأزمة الصحية ووباء كوفيد-19 هما المسؤولان عن نشأة هذه الأزمات. فهي لا تكشف إلا عن نقاط الضعف الموجودة أصلا ل على نطاق واسع. والأزمة تلقي الضوء على النسبية الشديدة لسيادة دُولنا. وهي تسلط الضوء على الاعتماد المبالغ فيه على التكنولوجيا والذي نميل إلى التقليل من شأنه ، عن جهل أو بدافع الاعتزاز الوطني،. ومن الواضح أن هذا ينطبق على المجال الصحي. لقد انتبهنا ونحن مذهولين إلى أن الكثير من إمداداتنا من الأدوية تعتمد على الصين. لقد سمحنا لهذا البلد أن يصبح هو مصنع العالم وبذلك تخلينا عن مجالات ضرورية لضمان أمننا؟
هناك دلائل مثيرة للقلق داخل مجموعة متكاملة جدا مثل الاتحاد الأوروبي. يبدو أن النقص في مادة الكيراراللازمة لتهوية الأشخاص الذين يعانون من حالة تنفسية خطيرة يرجع جزئيًا إلى المصدر الإيطالي والإسباني لبعض مكوناته . ومن الواضح في الاتحاد أن هذا الوضع يمكن أن يجد حلولا في المستقبل والأمر أقل بساطة عندما يتعلق الأمر بالأجهزة ذات التكنولوجيا المتقدمة حيث يكون الاعتماد على الولاياتالمتحدة سائدا ولكن هذا الاعتماد في المجا الصحي يحيل على اعتماد آخر تكنولوجي أوسع نطاقاً. قد يكون الرأي العام على وعي بهذا الوضع ولكنه لا يبالي كثيرا بالمستوى المنخفض لسلامة المكالمات والاتصالات عبر الهواتف الذكية. ماذا نتعرف عن العقود بين أجهزة استخباراتنا وشركة (بالانتير) التي أسسها (بيتر ثيل Peter Thiel) المتخصصة في تحليل المعطيات؟ إن الذكاء الاصطناعي مرعب، عن حق أو خطأ، ولكن من المحتمل أن يفضل المواطنون ألا تعتمد الضمانات التي يقدمها المسؤولون الذين انتخبوهم على الدول الأجنبية إلى هذا الحد، وعلى أقل تقدير، من المرجح أنهم يرغبون في أن يتم خبارهم بالتفاصيل. ماذا نقول عن استخدام منظومة برامج ويندوز في وزارة الدفاع؟ وإذا لم نستطع استعادة السيادة الرقمية المفقودة، يمكننا توجيه استثماراتنا إلى البرمجيات الحرة التي توفر ضمانا للاستقلال. أوروبا، أو على الأقل فرنسا وحدها ، يمكن أن تسهم بسرعة في هذا الرصيد الرقمي المشترك وهذا يتجاوز بكثير المسائل الأمنية وحدها. يركز دانيال كوهين في مقاله بجريدة لوموند يوم 2 أبريل الماضي على التحول نحو الرأسمالية الرقمية التي يمكن أن تسرّع به هذه الأزمة. ولا يمكن قياس الاستقلال الوطني، أوالأوروبي، فقط بوجود قدرة نووية. إن الأزمة الصحية تؤجج المشاعر القومية القديمة. وللتخلص من هذا الانزلاق، لا يكفي لأن نذكر بأهوال الفاشية وفظائعها أو بأدبيات وحدة المصير البشري،فإذا كنا أضعف من أن نتسابق لقهر الوباء على مستوى دولنا، فإن الاتحاد الأوروبي يستعيد جدواه ومعناه ه. وبدلا أن نعلن موت هذا الاتحاد كما سمعنا هنا وهناك ، فإن الاهتمام الجديد الذي أظهرته الشعوب الأوروبية لمفهوم السيادة يمكن أن يمنح أوروبا فرصتها الثانية. إن الضربة التي أصابت العولمة بعد هذه الأزمة من المرجح أن تصبح فرصة غير متوقعة للإمساك بزمامها . هناك حاجة إلى إرادة شعبية، وقد أصبحت هذه الأخيرة ضعيفة إلى حد لم يعد معه ممكنا تصور أي شيء إيجابي في هذا الاتحاد الذي أثقلته البيروقراطية ب الذي لم يكن هناك ما يبدو ممكنا في هذا الاتحاد، وأعاقته البيروقراطية وفقد شرعيته بسبب طابعه غير الديمقراطي ، إن العودة التدريجية للأنانية الوطنية تقتل ببطء حلم المؤسسين. لقد أغفل المدافعون عن السيادة الوطنية أنن يقولوا المواطنين إنه لا عودة إلى السيادة إلا من خلال تقاسمها مع الأوروبيين الآخرين كما أظهر إنشاء اليورو. ولكن المحاسبة المستحيلة لفوائد التكامل الأوروبي فشلت في إقناع المواطنين الذين يزدادون تشكيكاً في جدواه وعزوفا عن الاهتمام بمصيره لدرجة أنه في هذه الأزمة فإن عدم فعالية العمل الأوروبي يعزز موقف كل منتقديه. في القطاع الصحي والمجال الاقتصادي عمل غياب الرؤية السياسية يعرقل كل إجراء وقائي و تنامي الشعور القومي يؤخر التدابير اللازمة. لقد كنا في حاجة إلى صدمة لكي تطفو الطبيعة الحقيقية للاتحاد على السطح من جديد؛ وهي رفض التخلي عن القيم الجماعية ونموذج مجتمعي يحدد الهوية. هذه الهوية هي التي ذابت في العولمة، وهي التي يمكن أن تولد من جديد من تشرذم العولمة أيضا .وها قد حصلنا على الصدمة المنشودة ولذلك فالميلاد الجديد للاتحاد أصبح ممكنا في ظل شرطين: أن يتم الاعتماد على التضامن الأوروبي في تسوية الأزمة الصحية، وأن يبرز نساء ورجال يحملون من جديد حلم تجديد ملامح أوروبا السياسية والأيام والأسابيع والأشهر المقبلة ستخبرنا ما إذا كانت هذه الشروط قد استُفيت. إن التحدي كبير جدا ، حيث فقدت أوروبا مصداقيتها. وسيكون من الضروري الاقتناع والإقناع باقتراح طريقة تشبه مخطط مونيه Monnet لما بعد المعركة الصحية، مخطط قادر على تحقيق إنجازات واضحة للجميع تبرر عمليات نقل السيادة. وتثير الأزمة أيضا مسألة الديمقراطية من منظور جديد : لقد عانى نموذجنا الديمقراطي، الذي نشأ من الثورة الصناعية، من عدة توترات وهو في جوهره نموذج للديمقراطية التمثيلية: فهو يقوم على الموافقة على تفويض السلطة التي يمنحها الحق في التصويت للرجال والنساء الذين سيمارسونها بالنيابة عن المواطنين . إننا ننتخب ممثلين نعتقد أنه سيتمكنون من تنفيذ السياسة التي نطمح إليها ونثق بهم. ولكن هذه الموافقة، مثل هذه الثقة، تتعرض لتقويض متزايد، حيث أن الموضة الحالية أصبحت هي البحث عن خدمة المصالح الذاتية المتراكمة على حساب المصلحة العامة. لقد احتجنا تضافر عدة عوامل للوصول إلى هذه النقطة. أولا، وقبل كل شيء، خيبة الأمل المرتبطة بنتائج أقل إيجابية مما كان مأمولا؛ ثم أيضا تطور الشبكات الاجتماعية التي تمنح كل واحد منا شعورا زائفا أنه يعرف أفضل من أي شخص آخر ما ينبغي فعله؛ إنه تحول بطيء من ولاية التمثيل إلى ولاية حتمية من خلال الضغط المباشر والمادي في بعض الأحيان، الذي تسمح به هذه الشبكات الاجتماعية نفسها؛ والاختفاء البطيء للهيئات الوسيطة مثل النقابات أو الأحزاب السياسية. كل شيء ساهم في تراجع وفشل الديمقراطية التمثيلية. يبدو وكأن هذه الأزمة جاءت في الوقت المناسب لكي تجهز على نموذج الديموقراطية البرلمانية التي ولدت منذ قرنين من الزمان. إن الأزمة الصحية أدت إلى ظهور أزمة تمثيل. وإذا كانت “الدولة، كما يقول ماكس فيبر، هي مجموعة بشرية تحتكر استعمال القوة المشروعة في مجال جغرافي معين” فإن هذا الاحتكار يجد شرعيته في شرعية التمثيل وقد كانت هذه الشرعية موضوع تساؤلات قبل الأزمة . قد يمكن القبول المبدئي بسهولة بأنه في أوقات الأزمات، يمكن للديمقراطيات أن تلجأ “بصورة استثنائية” إلى التدابير القسرية، ولكن مسألة حدود هذه التدابير يطرحها جزء من الجمهور. في كل مكان، عاد إلى المشهد ذلك السؤال الذي كان في صميم تفكير جورجيوآغامبن Giorgio Agamben: “هل يمكن تعليق الحياة لحمايتها؟” ووجد إجابة مؤقتة: إن استمرار الحياة (ودورة الاقتصاد) يأتي قبل الحريات المدنية. ولكن هل سيكون الأمر كذلك في المستقبل إذا كانت التدابير القسرية ، بدءاً بالحجر الصحي ،سوف تدوم أو تستمر؟ تستمد الديمقراطية شرعيتها من طريقة الوصول إلى السلطة أكثر من ممارستها. ومع ذلك ، فإن تدابير الطوارئ هذه لها نتيجتان. الأولى هي أن الخط الفاصل بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية يصبح غامضا. والثانية هي أن الحكومات المنتخبة ديمقراطياً قد تميل إلى استخدام الأزمة لأغراض متنوعة: محاولة الانتقال إلى نظام أقل ديمقراطية (حالة المجر) أو استغلال الفرصة لتدبير مشاكل داخلية أخرى (حالة الهند والجزائر). في العديد من البلدان ، يتم تعطيل الحياة الديمقراطية بسبب تأجيل الانتخابات كما هو الحال في بولندا أو بوليفيا. كثيرا ما كانت أوقات الأزمات مناسبة لاستدعاء الوحدة الوطنية. وإلى حد ما، تدفع الرغبة المُلحّة في البقاء على قيد الحياة إلى تعزيز الولاء للسلطة بين المواطنين. وفي أغلب الأحيان، يصطف الناس وراء قرارات قسرية اتخذتها حكومتهم ويتقبلونها بسهولة إن لم يكن بحماس . ومع ذلك، ففي معظم النظم الديمقراطية، يوجد من يتساءل عن مشروعية تلك القرارات و التعليمات التي ترافقها وقد يؤيدها بعض “الخبراء”. لدرجة أنه يمكن للمرء أن يتساءل بشكل مشروع عما إذا كانت فكرة البرنامج السياسي الذي جرت على أساسه الانتخابات لا تزال منطقية. وبما أن المسؤولين المنتخبين غير قادرين على القيام بما وعدوا به، فإن المواطنين لم يعودوا يثقون بهم ويعتزمون التدخل في جميع الأوقات في صنع القرار؛ ثم يبتعد النظام العام شيئا فشيئا عن الديمقراطية التمثيلية ويميل نحو الديمقراطية المباشرة. والخطر إذن هو طغيان الشعبوية لأنه مع الشعبوية يتوارى العقل والتفكير الهادئ تحت ضغط العاطفة، وعلى العكس من ذلك، فإن شرعية السلطة في معظم الأنظمة غير الديمقراطية تمنحها قدرة الحاكمين على حماية شعوبهم والحفاظ على النظام الاجتماعي بدلا من ضمان الحريات. وفي معظم هذه البلدان، فرضت السلطات استجابة قوية وسريعة للأزمة، وفي المقابل هناك شعور بالمساندة والوحدة الوطنية بين السكان (الصين، وفيتنام، والأردن وغيرها). وبعبارة أخرى، لا يشكل الخروج من الأزمة إضعافاً لشرعية السلطات في الديمقراطيات فحسب، بل إنه في الوقت نفسه يعزز السلطة الحاكمة في الأنظمة الاستبدادية. لقد فرضت الأزمة الصحية المفاجئة تدابير تشريعية وتنظيمية لم يسبق لها مثيل في ديمقراطياتنا، بسبب سرعة حدوثها وانتشار الفيروس السريع . في العديد من البلدان، شعرت السلطة التنفيذية بأن من حقها اتخاذ تدابير مراقبة شاملة أو قامعة للحريات مستعملة من أجل ذلك التكنولوجيات التي كانت من قبل محصورة على مجال ً الاستخبارات العسكرية أو مقومة الإرهاب! وبوجه عام، فإن هذه التدابير المضادة للحريات المدنية تلقى قبولاً بل وتحظى بترحيب المواطنين الذين يعتبرونها ترسانة واقية من أجل أمنهم. ستراوس كان: أزمة "كورونا" ستغرق ملايين الناس من "الطبقة المتوسطة الناشئة" في براثن فقر مدقع (1/2) والتركيز على الفعالية ليس استثناء تختص به الأزمة الصحية. ومما لا شك فيه أن عدم الاهتمام بحماية حقوقهم الأساسية من طرف الناس يعكس شعورهم بالفزع إزاء الآفة الجديدة بعد عقود من الرخاء الجماعي. ويجب أن تظل هذه التدابير المتخذة على أساس استثنائي ومؤقت كذلك. بيد أنه من الواضح في السنوات الأخيرة أن التدابير الأخرى المتخذة باسم مكافحة الإرهاب قد انتقلت بفضل اللامبالاة العامة من وضع التدابير الاستثنائية والمؤقتة إلى صميم القانون العام. يجب أن نحرص بشدة على عدم إضعاف سيادة القانون بشكل دائم باسم الحاجة الملحة إلى مكافحة الفيروس. وفي الخريف الماضي (ولكن هذا يبدو بعيداً جداً)، أشار فرانسوا سوروFrançois Sureau إلى أن “سيادة القانون، في مبادئها وفي تجلياتها، كانت مصممة بحيث لا تُهدد رغبات الحكومة ولا مخاوف الشعب أسس النظام العام، وفي المقام الأول الحرية”. وفي أعقاب الأزمة، ستطرح العديد من القضايا السياسية. ما هي الأنظمة السياسية التي سيُنظر إليها على أنها أدارت الأزمة بشكل جيد؟ ما هي نوعية الانتقال للعودة من التدابير الاستثنائية إلى الحياة الطبيعية؟ وإذا لم تنجح في العمل في انسجام خلال الأزمة الصحية، فما هي المصداقية التي ستتمتع بها الأنظمة الديمقراطية في التعامل مع أزمات أخرى مثل تحدي المناخ أو قضية الهجرة؟ وإذا كانت الأنانية الوطنية تهيمن أثناء إدارة الأزمة الصحية، فكيف يمكننا عندئذ أن نمنع موجة الشعبوية الوطنية من أن تأتي على الأخضر واليابس؟ ولذلك، فإن التعاون الدولي ليس عنصرا من عناصر الإدارة الفعالة للأزمات فحسب، بل هو شرط للبقاء الديمقراطي بعد الأزمة ملامح عالم جديد تلوح في الأفق.. الاقتصاد الجديد والعودة إلى تدخل الدول إن الفترة الحالية تطبعها الفوضى والسؤال الذي يُطرح بإلحاح هو نوعية الاتجاه الذي سوف نتبعه عندما تتراجع الأزمة الصحية. على مدى السنوات الثلاثين الماضية، شهدنا انتصار الليبرالية الاقتصادية تمشياً مع حكاية فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ . ولكن النظرة البعيدة الأمد إلى التاريخ تعلمنا أنه يجب إعادة النظر في الفكرة القائلة بأن الليبرالية قد سادت بشكل نهائي. إن الدرس الذي قدمه كارل بولانيKarl Polanyi قبل ثلاثة أرباع القرن هو أن الليبرالية الاقتصادية هي مرحلة من الارتباك بين فترتين أكثر تنظيماً. وكأنها فترة بين قوسين يحتاجها الاقتصاد من حين إلى آخر لكي يعيد ترتيب بيته وينتج تنظيمات جديدة لأن الظواهر الاقتصادية ليست مستقلة عن بقية مظاهر تطور المجتمعات. على مدى 150 عاما، شهدنا ثلاث دورات رئيسية لتنظيم الرأسمالية. الأولى بدأت في القرن التاسع عشر وانتهت بالحرب العالمية الأولى ثم أفسحت المجال لدورة أخرى تقوم على الإنتاج والمردودية في عالم تستغله ولادة القوميات من جديد ويهتم ببناء النظام الديمقراطي. ثم جاءت مرحلة ثالثة لأنه، على عكس تصورات بولاني، لم تنهار السوق مع أزمة 29 أو بعد الحرب العالمية الثانية. بعد عام 1945، شكل تعميم دولة الرفاه وظهور الهيمنة الأميركية وسقوط الفاشية الملامح الجديدة في العقود التالية. في أواخر السبعينيات حدثت قطيعة جديدة لامست عالم الإنتاج والأفكار السياسية وكذلك تطورات الساحة الدولية ثم ظهرت تكنولوجيا المعلومات وجاءت الموجة الليبرالية حاملة معها رفض الضرائب ثم انهيار الشيوعية وهو ما اختتمت هذه الدورة أخيرا بنهاية الديموقراطية الاجتماعية. نحن نعيش منذ قرنين على إيقاع تتابع فترات التنظيم الاقتصادي والمجتمعي وفترات حرجة تتراجع فيها التنظيمات السابقة وتفسح المجال إلى أخرى و آخر هذه النماذج هي نموذج مجتمع الرفاه l'Etat providence التي أشرفت على نهايتها وبين دورتين من هذه الدورات يتراجع التماسك المجتمعي وتبرز النزعات الفردانية إلى أن تأتي صدمة تاريخية تعيد ترتيب الأوراق على أسس جديدة وهذه الأسس الجديدة هي التي نحتاجها اليوم لإعادة البناء بعد الأزمة. وهذه الأسس الجديدة تشمل كل الأنشطة البشرية وهناك عدة مجالات يلزم فيها التقنين والتدخل الحكوم ولعل أولها المجال الصحي وهو المجال الذي تجلى فيه التعاون الدولي منذ عام 1851مع أو ل نظام صحي دولي Règlement Sanitaire International. إن إصلاح سنة 2005 عزز استقلالية منظمة الصحة العالمية ولكن يجب المضي قدما لتعزيز التعاون والتنسيق بين هذه المنظمة و منظمة التجارة الدولية. وعلى وجه الخصوص، يمكن أن يكون دور منظمة الصحة العالمية مهماً في تنفيذ سياسات وقائية أكثر نجاعة ً. وبما أن الأوبئة لم تعد تبدو مخاطر طواها النسيان، فإن الحاجة إلى أخذ هذه السياسات في الاعتبار في الخيارات العامة تفرض نفسها بقوة. إن قرار الرئيس دونالد ترامب القاضي بتفكيك خلية الأمن الصحي الأمريكي في البيت الأبيض يؤكد على ضرورة هذه الفكرة حول ضرورة السياسات الوقائية. من جهة أخرى ألا يمكن أن تكون الأزمة الصحية مناسبة لإعادة التفكير في التغيرات المناخية و وراء العلاقة بين المناخ والمجال الصحي والطبي فإن التدابير المرافقة للأزمة الوبائية تعيد النقاش حول الإكراهات المالية التي نفرضها على نفسنا في مجال السلوكيات الفردية. ولكن هناك أيضا صلة مع مجالات أخرى للحفاظ على البيئة، ولا سيما الحفاظ على التنوع البيولوجي. إن تدمير النظم الإيكولوجية بسبب التلوث، أو التقييد التدريجي للسكن في بعض المناطق أو حظر بعض الأعمال التجارية يساهم في بروز بؤر جديدة للأمراض الحيوانية كما أظهرت العديد من الأمثلة الحديثة. ولكن حتى لو افترضنا انهيار نظام العولة الحالي ، فإن هذه السياسات المختلفة لا يمكن إلا أن تكون دولية ة. ثم يأتي السؤال المزعج الذي يرافق كل تساؤل حول عواقب الأزمة الصحية: هل لا زال هناك مجال للعمل المتعدد الأطراف؟ وعلاوة على ذلك، هل يمكننا أن نتصور عملا متعدد الأطراف لا تكون أطرافه هي الدول بل ربما المناطق أو المدن الكبرى؟ تحولات العلاقات بين الدول و التوازن الجيوسياسي الجديد إذا كان هناك أمل في أن تؤدي الأزمة إلى تجديد التعاون على الصعيدين العالمي والأوروبي، فمن المهم دراسة عواقبها الأكثر إلحاحا على العلاقات الدولية. العاقبة الأولى تنبع من فراغ السلطة الذي سيجعله التركيز على الأزمة الصحية للحكومات الرئيسية أكثر وضوحاً كل يوم. وما دامت، مثل أي شخص آخر، غارقة في مقاومة الوباء، يبدو أن الجماعات المسلحة والإرهابية اختارت التراجع إلى الوراء في هذه الحقبة . ولكن بمجرد أن تسمح الظروف بذلك، لا شك في أن الصراعات ستستأنف على الرغم من أن الأطراف الرئيسية في الحياة ستيهتم أساسا بوضعها الداخلي. ويُخشى أن يكون هذا هو الحال في كل من سوريا وليبيا واليمن. والأمر الأكثر صعوبة هو أن العديد من الدول التي هزتها الأزمة سوف تجد صعوبة أكبر مما كانت عليه في الماضي في ممارسة مسؤولياتها السيادية على أراضيها. وفي هذا السياق، من المرجح أن يكون هناك إغراء قوي لدى بعض الدول لزيادة نفوذها الدولي. وقد اغتنمت الصين وروسيا بالفعل هذه الفرصة بدرجة أقل من خلال توزيع المساعدات الطبية بشكل رئيسي على الدول الأوروبية. وفي نهاية الأزمة الصحية، سوف يستأنف التنافس الإيديولوجي بقوة في وضع يكون فيه السكان مطالِبين بتدخل الدولة واستخدام القوة. إن الولاياتالمتحدة، العالقة بين ترددها في اتخاذ أي إجراء متعدد الأطراف ومواجهتها مع الصين ، سوف تكافح من أجل تجنب إعادة توزيع الأوراق، ولكن الحالة المقبلة سوف تعتمد على نتائج انتخابات نوفمبر المقبل والصين ليست في وضع يمكنها من ممارسة القيادة العالمية، ولكن ليس من المؤكد أن الولاياتالمتحدة لا تزال قادرة على لعب هذا الدور الريادي والخلاصة أن تلاشي العولمة التي عرفناها آتية لا مفر منها وهي فرصة لأوروبا إذا أرادت أن تغتنمها. هل سينتج عن الأزمة تحول في العلاقات البشرية؟ لكي ينتج عن الأزمة تحول جذري في العلاقات وإعادة توزيع للأوراق لابد أن يشمل الخطر الوبائي بشكل مستدام كل المجموعة البشرية ولا يمكن الاستفادة من خطاب التعبئة الحربية التي استخدمت على نطاق واسع، إلا في وقت التعبئة: فغالبية الدراسات تشير إلى أنه لا يمكن أن تكون هناك هدنة، ناهيك عن توقف في المعركة. ولذلك فلسنا أمام مجهود حربي طويل الأمد فحسب، بل عملية إعادة تشكيل الوعي الجماعي لكي يستشعر دوام خطر الجائحة . وفي مواجهة هذا التهديد العالمي، من المرجح أن نشهد تغيرا عميقا في الأفضليات الجماعية وعلى رأسها علاقتنا بالزمان وأحداثه إن دخول عالم يتميز بالمخاطر المعدية يعني تصحيح أوجه القصور لدينا وإدراك عدم قدرتنا ، خاصة في أوروبا ، لتجسيد واقعي الوقائي وزرع النهج الوقائي. إن دمج الأنظمة الصحية في البلدان المتقدمة ليس إلا عرضًا من أعراض الرؤية السياسية قصيرة المدى التي تشعر بأنها محصنة من أي أحداث غير متوقعة مادية فقط بسبب وجود أسواق مترابطة ومتفاعلة للسلع والخدمات. لا يمكن أن تتفادى القرارات المستقبلية من ولا سيما المتعلقة بالميزانية ، على المدى الطويل ،من الأخذ في الاعتبار الاستراتيجي مختلف المجالات ذات الأولوية لمعيشة السكان. وإلى جانب هذا الجانب الأول، يذكرنا الخطر المعدي بقوة الترابط الواضح بين الأفراد. هذه هي مفارقة الحجر الصحي الحالي: فالأفراد المعزولون في منازلهم لم يجدوا أبدا أنفسهم مجبرين على العناية بالعلاقات الاجتماعية . ولم تعد صحة كل فرد من الأفراد ، كما هو الحال في أمراض القلب والأوعية الدموية وغيرها نتيجة مباشرة للسلوكيات الفردية: فهي تعتمد على مسؤولية كل شخص تجاه الجماعة، وعلى العكس من ذلك، على قدرة الجماعة على تولي مسؤولية صحة أضعف أفرادها. إن تفرد الفيروسات التي يذكرنا بها هذا الوباء هو عدم الاعتراف بأي حدود، لا اجتماعية ولا سياسية: لا يوجد أي حاجز يوقفها، ولن يحمي أي جدار المجتمعات بشكل دائم من خطر العدوى. وبالإضافة إلى التعزيز الضروري لدور منظمة الصحة العالمية في تنفيذ سياسات الوقاية النشطة، يجب أن يكون هذا الشعور بالترابط الإنساني مواكَبا ومسنودا حتى لا يبرز مجتمع يسود فيه انعدام الثقة على نطاق واسع. لقد أظهرت دراسة ميدانية حديثة حول مقبولية تطبيق الهاتف النقال من أجل تتبع شركات الاتصالات لحركة الفيروس Covid-19 أن ما يقرب من 75٪ من المستجوبَين عبروا عن استعدادهم لتحميل هذا التطبيق في هواتفهم إن هو وُجد بالفعل . ما هي النظرة الاجتماعي إلى الفرد الذي سيرفض تحميل واستعمال هذا التطبيق؟ هل ينبغي السماح بهذا الرفض ببساطة عندما يحتمل أن يعرض الجماعة للخطر؟ ومن المرجح أن هذه الأزمة الصحية وتغلغلها في الخيال الجماعي سيشجع على ظهور مجتمع الشفافية الطبية: وبالتالي فمن الممكن أن تكون حركة الناس في المستقبل عرضة لإظهار نتائج اختبارات المناعة، مثل دفتر التلقيح الدولي حالياً المطلوب في الحدود ولكن هناك فرق شاسع بين دفتر ورقي و الهاتف النقال الحامل لمجموعة من المعطيات. ولكي لا يصبح النظام المتصور للشفافية الفردية مجتمعاً يتسم بغياب الثقة، يجب على الحكومات أن تلعب دوراً نشطاً في ضمان عدم الكشف عن هوية المستخدمين و أن تضمن أيضا محو المعطيات ويجب أن يشكل هذا الوضع العام الراسخ الأساس “لنظام الرفاه ” الجديد الذي يمكن بناء الثقة عليه واعتماده لتأسي ميثاق جديد للمواطنة . * الجزء الثاني من مقال حول التحولات الناجمة عن أزمة كورونا نشره يوم 5 أبريل 2020 لدومينيك سترواس كان وزير المالية الفرنسي السابق و المدير السابق لصندوق النقد الدولي. المقال الكامل سيصدر في عدد الربيع 2020 لمجلة السياسة الدولية.