"لكن هل يمكن أن نقيم مونوغرافيات دون فروض عامة" بول باسكون بعض البلدان يطبعه التاريخ وبعضه تطبعه الجغرافيا، بعضه يطبعه الاقتصاد والبعض الآخر تطبعه السياسة، وسعيدة هي البلدان التي تطبعها الثقافة والناس، والمغرب ربما من تلك البلدان التي تأثرت بالجغرافيا قبل التاريخ، وبالثقافة والناس قبل الموارد والتجارب السياسية الرائدة. فمهما رفضنا المذهبية التطورية، ومهما تبنينا الاحترام المنهجي لتساوي الناس، كل الناس في المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية، رغم ذلك يبقى الاختلاف وربما التراتبية في التجارب التاريخية للشعوب أمرا لا يمكن إغفاله حتى لا يتساوى الكل مع الكل ويفرح المتقدم بتقدمه والمتخلف بتخلفه. من هذه الزاوية تعتبر الواقعية المنهجية والأخلاقية في اعتبار التجربة التاريخية للمغرب متوسطة إذا ما قورنت مع آثار أمم أخرى يجب التسليم بقوتها وعمق فعلها التاريخي والحضاري أمرا ضروريا. لكن في الوقت نفسه لا يجب أن يكون التسليم ذاك مبررا من أي نوع كان للي عنق الأمور خارجيا أم داخليا، ومآسي الاستعمار ماضيا والعولمة حاليا لازالت تحفز نحو تعميق المصير الاجتماعي. ليس المغرب مجتمعا انقساميا كما تدعي ذلك الأنثربولوجيا الأنجلوساكسونية. الانقسامية مفهوم استقي من عالم اللافقريات كفعل امكانية أن يتقسم الكائن الحي ليعيش الجزء المتقسم من الأصل ويتخذ دلالة الحياة بمفرده مستقلا عن الكائن الأصلي. الأمر الذي ينزع العضوية عن الكائنات ويجعلها جزرا مستقلة لا تشكل أي كينونة تملك الوحدة التي تعطي الوظائف وتوزع الأدوار. وبذلك الدونية في تراتب الحياة. تلك هي الصورة النموذجية التي حاولت الأنثربولوجيا الأنجلوساكسونية إقناعنا بها. وهي ليست أكثر سوءا من سابقاتها الكولونيالية التي كانت تقسم المغرب إلى بلد سيب وآخر تابع لسلطة المخزن الضعيفة التي لم تستطع أن تعطي صورة موحدة وفاعلة للمجتمع المغربي. وسواء كنا في الصورة الأولى أم الثانية فالمسكوت عنه في التصورين هوأن المغرب ليس مجتمعا بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، بل هو بالكاد تجمع بشري يختلط فيه العربي بالأمازيغي والمخزني بالقبلي والشرعي بالعرفي. هو إذا ليس سوى حشودا تجمعت في سياق ما قبل الدولة وفي مؤسسات ما قبل المجتمع. هل الأمر تحامل مغرض وتسويغ للتدخل أم أن هناك في الواقع ما يساعد على بناء التصور ذاك ولو في بعض أجزاء الواقع المغربي؟ عندما نقف عند الملاحظة العابرة لواقع المغرب اليومي نكاد نتفق مع التصورين أعلاه، إذ أول ما يباغت السائح الأجنبي ثلاث أمور بارزة حد فقء العين: الفوضى المذكرة لبازارات القرون الوسطى في الأسواق في لا توحيد الأسعار و"الغفلة بين البايع والشاري" وعدم المراقبة وغيرها من علامات التسيب والانفلات. يتجلى الأمر الثاني في الأوساخ والميكا والقاذورات في كل مكان، الأمر الذي يذكر بغياب المدينة ويحيل إلى كون المجالس المنتخبة ليست سوى تباري نحو كسب المنافع بالتقرب من أصحاب القرار المركزي والمحلي وذلك في سياقات شبه قبلية بائدة. الأمر الثالث والموجع متجل في فلول المتسولين وغير المتسولين والمشردين وأطفال الشوارع ومن ممتهني مهن انقرضت في بقع أخرى من الأرض مثل ماسحي الأحذية وحراس السيارات والحمالين وغيره من الفئات المغلقة والبعيدة كل البعد عن حقوق الطبيعة والآدمية والانتماء. هذا البارز الظاهر، وخلفه ما أن تنبش شيئا ما مظاهر أكثر خطورة من الفساد وعدم دفع الضرائب والتحايل على القانون في الصفقات بل والاتكاء على أشكال الريع التاريخية والرمزية والجاهية، أو ببساطة في القدرة على انتزاع النصيب من الصيد نفوذا أو سمسرة أو وقاحة وحتى بالقوة البدنية أحيانا. دون ذكر بيع جميع أشكال الكرامة بدء بالشهادة وصولا إلى الجسد والكينونة. هناك إذا ما يمكن للأجنبي أن ينافح به عن أطروحته الانقسامية أو عن هشاشة المجتمعين السياسي والمدني في المغرب. لكن هل هذا هو الحال كل الحال؟ إن المورفولوجيا المغربية لم تعد قبلية في التنظيم والتعاقد والمعاملات، لقد أصبح أكثر من نصف سكان المغرب يسكنون المدن نظريا على الأقل، وأصبحت تهيئة التراب تغطي المملكة إدارة وسلطة وبريدا، وهي تحاول أن تغطيه كهرباء وماء صالحا وطرقات يقال عنها أنها تفك العزلة، كما أن تعميم التعليم كاد أن يصل إلى حدوده القصوى.هذه المؤشرات الإيجابية تأتي أخرى تحيلها إلى البداية كأننا في دائرة سيزيزيفية تفك بيد ما تغزله بأخرى. قيم القبيلة والبداوة في الاندفاع الطبيعي وغياب الإستراتيجية وبناء السلوك على ردود الفعل لازالت هي المسيطرة. الناس يسكنون المدن إن لم يكن أغلبهم في السكن غير اللائق ففي العيش غير الحضري ما دامت سياسة المدينة غائبة ولم تصل بعد المدنية لتشكل فيه السياسة معناها الأصلي الذي يعني تدبير المفوضين للشأن العام المفيد لجميع الشركاء في الطريق والحديقة والإدارة. أما تهيئة التراب فما لم تنبع من تنمية محلية حقيقية تتجاوز الهاجس الأمني نحو التنمية البشرية والاقتناع في تساو الناس في الذكاء، ما لم تنبع تهيئة التراب من ذلك تبقى وسائل إدارية للمراقبة بمعناها الفوكولدي: التنوير والتفريد في إطار سياسة الجزرة والعصا. أماما يصطلح عليه بالبنيات التحتية ما لم ينظر إليها في شموليتها، ماء بدون محطات تصفية العادم تصبح مصدر الأوبئة والتلوث، طرقات تقف عند مفترق الطرق ولا تتخلل القرى ليس سوى نصف الحل بالسبة لساكنة مشتتة في الفضاء... أما الهدر المدرسي والجامعي فتأتي على مجهودات مشروع "تيسير"، كما سيأتي عدم تقنين الطب غير العمومي على مشروع "راميد"... صحيح أن ما جئنا على ذكره ليس هو الأرضية التي اعتمدها باسكون لوصف المغرب بالمجتمع المزيج. إن ما كان يقض مضجع باسكون هو الرد من جهة على الانقسامية والسوسيولوجيا الكولونيالية. المغرب على كل حال عنده مجتمع وليس تجمعا، مجتمع يملك حدا أدنى من الوحدة والتنظيم وإن كان لا بد من بدل مجهود لاكتشافهما، كما أن الخلفية الماركسية المسيطرة آنذاك كانت تضغط للإجابة عن سؤال ما إذا أمكن أن نتحدث عن طبقات اجتماعية وصراع طبقي في المغرب تهييئا لاشتراكية ما. وتبعا لإمبيريقية باسكون ما كان ممكنا إلا أن يقر بتواجد التنظيم العمودي الطبقي إلى جانب التنظيم الأفقي التقليدي. غير أن المزيجية لا يمكن أن تكون إلا عامة لأن جميع المجتمعات مزيجية بالمعنى الذي اختاره باسكون بنفسه. المغرب صحيح مجتمع مزيج، بازار، لكن كما يبدو للوهلة الأولى فحسب. لا يمكن إلا أن نقر أن في واقع حال المغرب ما يغري الفرضيات الكبرى المذكورة أعلاه، أشياء ما توحي بالسيزيفية والعود الأبدي، أشياء أخرى قوية توحي بسلسلة من الثنائية والإزدواجية، و علامات المزج بادية للعيان، مع حذر منهجي في أن تكون لقراءات التشاؤمية الخلدونية وفرضية الدائرية أثر ما في كلي هذا. المغرب في آخر المطاف بلد إفريقي التراب شبه جاف المناخ وما يتبع ذلك من القساوة والندرة وشظف العيش وضرورة الكد، كما أنه سليل ايديولوجيا متعبة لصيقة بالتلابيب، تيوسونتري بتعبير الخطيبي، تيوسونترية اجتماعية وقيمية قبل أن تكون تيوسونترية الدولة. لكن وهن الايديولوجيا سهل المأمورية لتدخل الأجنبي استعمارا وعولمة ووقع اصطفاف بنيات بجانب أخرى وسلوكات بجانب أخرى وقيم بجانب أخرى، فحصلنا على افتراض عميق هو المجتمع النضديد. مجتمع بتصورين مختلفين إلى الكون وبقيم متنافرة وهي حالة أنومية تقوي نقط الضعف وتقلص من نقط القوة. لكن في المستور العميق بقع ضوء هائلة لم تستغل بما فيه الكفاية، تجارب تاريخية مذهلة أحيانا من مثل وادي المخازن وأنوال وغيرها، تجربة في التدبير السياسي المركزي والمحلي كانا مناسبين لواقع الحال، بل وتجارب فكرية عبقرية عندما نتصفح الموروث الفلسفي، ابن خلدون وابن رشد وابن طفيل وابن باجة وابن ميمون... تراث صوفي هائل في ترشيد السلوك وتقويم علل المجتمع والناس، فتاوى شرعية مذهلة تنبئ بتجاوز البدائية وتبوئ مقام التعاقد والحضارة. هيستوغرافيا تصون الذاكرة، الزياني وابن زيدان والناصري... أخيرا وليس آخرا تراث شفهي وممارسات إثنوغرافية في المأكل والملبس والإحتفال. "احنا حسن من شي وشي حسن منا"، هذه هي شخصية المغرب، الشخصية التي لاتقارن بشخصيات المدنيات الأولى ولا بشخصية شعوب بالكاد تتلمس طريقها في الحضارة. لكن محرك ما يتجاوز الأيديولوجيا الدعوية التبريرية نحو المدنية والمواطنة لا زال شيئا ينقص هذا المجتمع النضيد حتى يصبح مجتمعا توحده قيم حقوق الإنسان والمواطنة.