الدكتور نجيب بوليف يصدر كتابه الجديد: "الانتقال الطاقي بالمغرب… اختيار أم ضرورة؟"    نتنياهو: "يوم مؤلم" ينتظر إسرائيل    جبهة الإنقاذ الوطني في سوريا تلقن النظام الجزائري دروسا في السياسة وتحذره من وهم التنافس مع المغرب    طالبي ينال الجنسية الرياضية المغربية    اندلاع حريق في سيارة نفعية بمدينة الحسيمة    اعتقال متورطين في مقتل شاب مغربي بإسطنبول بعد رميه من نافذة شقة    مبيعات الإسمنت ترتفع في المغرب    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء إيجابي    وديتان للمنتخب المغربي في يونيو    إيقاف بيلينغهام وريال مدريد يستأنف    المغرب يلتقي بمصنعِين في الصين    "الكتاب" ينبه إلى حاجيات رمضان    المغرب يوجه ضربة جديدة للتنظيمات الإرهابية بإحباط مخطط "داعش"    الأرصاد الجوية تترقب يومين من التساقطات الإضافية في شمال المغرب    احتقان بالمستشفى الجامعي لوجدة    أزمة المستحقات بين الشوبي ومالزي    "بويذونان".. دراما مشوقة على قناة "تمازيغت" تفضح خبايا الفساد ومافيا العقار بالريف    مكافحة الإرهاب.. المغرب ينتهج استراتيجية فعالة قائمة على نهج استباقي    أطلنطاسند للتأمين تفوز بجائزة الابتكار في تأمين السيارات المستعملة ضمن جوائز التأمين بالمغرب وافريقيا 2025    شراكة استراتيجية في مجالي الدفاع والأمن بين الجيش المغربي ولوكهيد مارتن الأمريكية    تحت شعار «الثقافة دعامة أساسية للارتقاء بالمشروع التنموي الديمقراطي» الملتقى الوطني الاتحادي للمثقفات والمثقفين    مجلس النواب ينظم المنتدى الثاني لرؤساء لجان الشؤون الخارجية بالبرلمانات الإفريقية    عامل الحسيمة ينصب عمر السليماني كاتبًا عامًا جديدًا للعمالة    بعد الكركرات.. طريق استراتيجي يربط المغرب بالحدود الموريتانية: نحو تعزيز التنمية والتكامل الإقليمي    المغرب التطواني يفك ارتباطه بمحمد بنشريفة ويخلفه الدريدب    وزيرة الثقافة الفرنسية: المغرب يمثل مرجعية ثقافية عالمية    إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025    الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في تحليل بيانات أجهزة مراقبة القلب    مسؤول إسباني: المغرب مصدر إلهام للبلدان الإفريقية في جودة البنيات التحتية الطرقية    مركز النقديات يطلق خدمة دفع متعددة العملات على مواقع التجارة الإلكترونية المغربية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    مندوبية السجون تعلن عن إحداث دبلوم جامعي في الطب السجني    مديرة المستشفى الجهوي ببني ملال تواجه احتجاجات بسبب الطرد التعسفي لحراس الأمن    الاستعدادات لمونديال 2030 محور لقاء لقجع ورئيس الاتحاد الإسباني    وفاة المطربة آسيا مدني مرسال الفلكلور السوداني    عمر هلال ل"برلمان.كوم": المغرب لديه الريادة في سياسة السلامة الطرقية    أبطال أوروبا .. البايرن وبنفيكا وفينورد وكلوب بروج إلى ثمن النهائي والإيطاليون يتعثرون    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    ناشر مؤلفات بوعلام صنصال: "أخباره ليست ممتازة" بعد ثلاثة أشهر على سجنه    جهة الشرق.. التساقطات المطرية الأخيرة تعزز الموارد المائية وتنعش النشاط الفلاحي    اصطدام كويكب بالأرض يصل إلى أعلى مستوى للخطورة    رشيدة داتي: زيارتي للأقاليم الجنوبية تندرج في إطار الكتاب الجديد للعلاقات بين فرنسا والمغرب    رامز جلال يكشف اسم برنامجه الجديد خلال شهر رمضان    احتجاجات في الرباط تندد بزيارة وزيرة إسرائيلية للمغرب    النفط يصعد وسط مخاوف تعطل الإمدادات الأمريكية والروسية    حصيلة عدوى الحصبة في المغرب    دوري أبطال أوروبا.. بنفيكا يعبر إلى ثمن النهائي على حساب موناكو    بحضور وزير الثقافة.. توقيع شراكة استراتيجية بين سلمى بناني وسفير فرنسا لتطوير البريكين    منتدى يستنكر تطرف حزب "فوكس"    إغماء مفاجئ يُنقل بوطازوت من موقع التصوير إلى المستشفى    بعد تأجيلها.. تحديد موعد جديد للقمة العربية الطارئة    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    دراسة تكشف عن ثلاثية صحية لإبطاء الشيخوخة وتقليل خطر السرطان    السعرات الحرارية الصباحية تكافح اكتئاب مرضى القلب    صعود الدرج أم المشي؟ أيهما الأنسب لتحقيق أهداف إنقاص الوزن؟"    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرّاكش الحمراء .. التاريخ فى سكون
نشر في لكم يوم 02 - 03 - 2020

تجدر الإشارة فى مستهلّ هذا المقال أنّ مدينة مراكش كانت قد إختيرت فى المدّة الأخيرة من طرف إحدى المواقع السياحية العالمية (Travelers' Choice Awards) كأوّل وِجْهة سياحيّة فى العالم من بين 25 مدينة، متجاوزةً مدناً ذات شهرة واسعة مثل إسطامبول،ولندن،وباريس، وروما،وسواها، والغريب أن أحد الكتّاب الإسبان وهو" فرناندو دياث بلاخا "سبق له أن تنبّأ منذ بضع سنوات بهذه الإرهاصات حيث كان قد أكّد أن مراكش نظراً لتاريخها العريق، ولعدة إعتبارات تاريخية، وثقافية،ومعمارية، ومناخية، سوف يهئ لها المستقبل إحتلال مكانة فريدة بين مختلف بلدان العالم وسيكون لها طابع سياحي رفيع ،خاص، ومميّز فى هذا القبيل ،وكان الكاتب الإسباني قد كتب مقالاً مطولًا فى هذا الشأن جاء فيه على وجه الخصوص : أنّ هذه المدينة التي تُلقّب بالبّهجة،والحمراء، وعروس المغرب، هي بالفعل من أكثر المدن المغاربية جذباً للسيّاح على إمتداد الحَوْل من مختلف أنحاء العالم، ويرى هذا الكاتب أنّ التاريخ فى هذه المدينة العريقة ما يزال حيّاً نابضاً، محتفظاً بأصالته،ونكهته، وماضيه، وبريقه، وإشعاعه، وعاداته، وتقاليده،وعوائده منذ عدّة قرون خلتْ، وهو يؤكّد إنّه إذا كان هناك مكان فى العالم أصبح فيه ماضيه حاضره، وتوقّف فيه العصر الوسيط بكلّ سِحره، ورونقه، وبهائه ،وأساطيره،وخياله فإنّ هذا المكان هو المغرب ،وهو يستدلّ بذلك على مدى حقيقة التقارب والتداني اللذين يطبعان الشعبين الإسباني والمغربي، بحكم تاريخهما المشترك،والموقع الجغرافي المتميّز للبلدين، خاصّةً بعد أن تشبّعت،وإغترفت أوربّا، وشبه الجزيرة الإيبيرية، وإسبانيا على وجه الخصوص من الإشعاع الحضاري والثقافي العربي-الأمازيغي الزّاهر زهاءَ ثمانية قرون.
وصيّة ابن رشد
من العلامات المضيئة للإنفتاح والتنوّع الحضاري، والتبادل الثقافي، والتثاقف التي عاشته مدينة مراكش فى عهدها الزاهر، وتاريخها الطويل والحافل العديد من العلماء، والمفكرين، والفلاسفة، والشعراء، والفنانين والموسيقيّين الذين عاشوا فى الأندلس ثم إنتقلوا إلى المغرب، ومنهم من إستقرّ فى حاضرة مراكش على وجه الخصوص، الأمثلة كثيرة وافرة، والأسماء لا حصر لها فى هذا القبيل، وحسبنا أن نشير فى هذا المقام إلى إسميْن بارزيْن فى التاريخ المشترك للمغرب والأندلس، وهما الفيلسوف الجهبذ، الفقيه العلاّمة إبن طفيل صاحب " حيّ ابن يقظان"، وقاضي إشبيلية ،وعالمها، وطبيبها، وفيلسوفها ذائع الصّيت أبو الوليد محمّد بن رشد اللذان إستقبلتهما مراكش بحفاوة منقطعة النظير، وبوّأتهما أعلى الأرائك، وأنزلتهما أرقى المنازل، والمراتب، وملكتهما من أعنتها وقيادتها فاستطاب لهما العيش فيها واسترغداه، وأصبحا صاحبيْ الأمر فى البلاد، ولقد وافتهما المنية فى هذه المدينة الحمراء، وحضر الخليفة أبو يعقوب المنصور الموحّدي جنازتيها رحمهما الله،ولقد مرّ بي فى قراءاتي القديمة أنّ إبن رشد هو الذي كان قد أفتى، وأوصى، وأشار على الخليفة الموحّدي ببناء سور مراكش الكبير، وإحاطتها بأشجار النخيل الباسقة التي تطوقها غابة كثيفة وارفة حتى اليوم .
إطلالة على التَّارِيخ
ويشير الكاتب:" ولنتوقّف فى القرن العشرين المنصرم ، ناسين،أو متناسين الحملة الإفريقية التي شاء وصادف الحظّ أن سُجِّلت بواسطة قلم " ألاركون"، ورُسِمت بريشة الفنّان " فورتوني" ، إنّه على إمتداد هذا القرن لا تكاد تمرّ خمس أو عشر سنوات دون أن يشعر الإسبان بوجود أو حضور جارنا فى الجنوب ( المغرب) بين ظهرانينا : ففى عام 1909، فلنبدأ بالتذكير، برّانكو ديل لوبو( وادي الذئب) أو أغزار نأوُشّن ،(حسب إسمه الأمازيغي الأصلي) وفى عام 1921 معركة أنوال الشّهيرة، وفى عام 1934 مغاربة فى أستورياس، وفى 1936 مغاربة فى كلّ مكان،(خلال الحرب الأهلية الإسبانية التي إشتعل فتيلها عام 1936وحطّت أوزارها عام 1939)، وفى 1956 هجوم على مدينة سيدي إيفني، وفى عام 1975 المسيرة الخضراء…واليوم المطالبة بسبتة ومليلية، والجزر،والجيوب المحاذية للسّواحل المغربية .
على الرّغم من كلّ ما سبق، وحسب هذا الكاتب، فإنّ المواطن الإسباني العادي لا يشعر بأيّ نوع من الحقد والضغينة نحو " المغاربة" الذين إعتاد الإسبان أن يدعوهم بشكل عشوائي ومُبهم وببساطة الإخوة " لُوسْ مُورُوسْ" ، كما لو كانت أواصر الدم أقوى، وأمتن،وأعمق من ذكريات الحرب، والمواجهة،والمناوشات .إنّ المواطن الإسباني يذهب إلى المغرب بواعز قويّ، وبفضول غريب ،وبتطلّعٍ ولهفة، وهو بذلك يبدو وكأنّه يشرئبّ بعنقه على شفا الزّمن ، ويطلّ على حافة تاريخه الشخصي،أوماضيه المشترك مع هذا البلد الجار.
بين حاضرتيْ فاسُ وقرطبة
فى معرض حديث الكاتب " فرناندو دياث بلاخا" عن حاضرة فاس نجده يشير بالحرف الواحد: " أوقفتُ المرشدَ السياحيّ عندما هممنا بالدخول فى زقاقٍ ضيّقٍ جدّاً من أزقّة هذه المدينة العتيقة،والعريقة،وأنا أشير إلى عود أو عمود من الخشب يتوسّط الزّقاق،وقلت له :
– هذا الشارع الضيّق يُغلق بالليل، أليس كذلك..؟!.
– أجل ، ولكن كيف عرفتَ ذلك ..؟
-لأنّ هذا ما كان يفعله سكّان قرطبة بالضبط فى القرن الثاني عشر !.
نعم إنّ الماضي جاثم، وقائم،وماثل وكائن هنا. إنّ المغاربة عندما يطلقون البارود فى الهواء الطلق، فإنّما هم يقومون بنوع من العروض العسكرية التقليدية التي تصفها لنا المذكرات التاريخية القديمة العائدة للقرون الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر . إنّ المغرب بأجمعه إنّما هو نقلة نحو الأمس، والتجوال فى مدينة مرّاكش على سبيل المثال هو نوع من الإنبعاث عبر نفق الزّمن الغابر. كلّ شئ فيه يبدو ساكناً،هادئاً، ثابتاً،وراسخاً فى الذاكرة والوجدان، وفى الواقع، والحاضركذلك، إنّ المغرب هو المكان الوحيد فى العالم الذي ليس فيه مجال لتكرار الصّور، وتوارد المعالم العمرانية، والمآثرالتاريخية والعمرانية، لتنوّعها وتعدّد المناظر فيه وثرائها.
يقول الكاتب: إنّني إذا ما بنيتُ قصراً فى المرتفعات والآكام الجبلية الاسبانية العالية ، فإنّ ذلك سيكون مثيراً للسّخرية، إلاّ أنني إذا شيّدتُ منزلاً من هذا القبيل فى مراكش- كما فعل بعضُ أصدقائي الإسبان، وغير الإسبان- فإنّ أحداً لن يضحك على محاولتي لإعادة إستحضار الماضي ، ذلك أنّ الماضي فى المغرب لم يمت. وهكذا فإنّ العمّال الذين سَتُسْندُ إليهم مهمّة بناء الدار لا ينحدرون فقط من أصل هؤلاء العمّال الذين سبق لهم أن شيّدوا دورَ، وقصورَ،ومنازلَ قرطبة وغرناطة ،وإشبيلية، بل إنهم سوف يقومون بهذا العمل المعماريّ بنفس صبر، وأناة، وفنيّة ،وحرفيّة ،ومهارة أولئك .
( إنّ المغربي الذي يبني ….
مائة مثقال" دُوبْلاَسْ"
كان يكسب فى النّهار….
واليوم الذي كان لا يعمل فيه …
نفس القدر كان يخسره كذلك..! ).
ويضيف الكاتب قائلاً " بل إنّهم سوف يستعملون نفسَ المواد ،والأدوات التي إسْتُعملت فى قرطبة، وغرناطة،، وسائر المدن والحواضر الإسبانية الأخرى،إنّهم سوف يعيدون نفسَ اللّمسة، والمهارة العريقتين، القديمتين، المتوارثتين سواء بالنسبة لهؤلاء الذين يشتغلون بالطّوب، أو بالفخار،أو بالرّخام، أو بالفضّة، أو الذهب،أو الخشب.
إنّ الذي يتيه فى مدينة فاس العتيقة يمكن له أن يجدَ نفسَه فى لمحٍ من العين داخل زقاق لا مخرج له، سوف يغمره إحساسٌ غريب وكأنّه ثمل ، بينما تكون لسعة رائحة الجلود المدبوغة العبقة تزكّم أنفه، وتغشى عينيه ألوانٌ قويّة مشعّة نفّاذة خضراء، حمراء، وزرقاء، تنبعث من مستودعات المياه، والحفر، والغمر حيث يتمرّغ الدبّاغون تماماً بالضبط كما كان يفعل أسلافُهم،وأجدادهم فى هذه الحرفة فى إسبانيا القديمة .
سّاحَةُ جَامَع الفْنَا..تُراث عالمي
إذا كانت " ساحة جامع الفنا" الشهيرة بمدينة مرّاكش قد أصبحت تراثاً إنسانياً اليوم، تحت رعاية منظّمة اليونسكو العالمية ، فالفضل فى ذلك كما هو معروف يعود للكاتب الإسباني الرّاحل المعروف خوان غويتيسولو،الحاصل على جائزة سيرفانتيس فى الآداب الإسبانية ( أنظر مقالنا فى " القدس العربي" حول هذا الموضوع عدد8088 بتاريخ 28 نيسان / أبريل 2015) هذا الكاتب ذائع الصّيت إختار هذه المدينة السّاحرة مكاناً أثيراً لإقامته، وعيشه، وإبداعاته ).
يقول الكاتب "فرناندو ديّاث بلاخا" ،كما قال العديد من الكتّاب العالميّين قبله من مختلف الجنسيات منهم الكاتب البريطاني الشهير سومرست موم ،: " إنه لكي نغوص فى عمق التاريخ ، ونجول فى الماضي البعيد ،ونتسربل بردائه ينبغي لنا أن نقوم بإطلالة على السّاحة العمومية الكبرى بمرّاكش التي يطلق عليها سكّان هذه المدينة إسم "ساحة جامع الفنا "، فساعة يدنا فى هذا المكان السّحري قد تتحوّل فى رمشة عين إلى ساعة شمسية، أو مائية، أو رملية، إذ نشعر ونحن فى خضمّها أنّنا قد عُدنا الزّمانَ القهقرى مئات السنين، إنّها السّاحة التي تُرْوىَ فيها قصيدة " السّيد" و" لاثيليستينا" و " كورباتشّو"، إنها ساحة شاسعة،واسعة،فسيحة، كاملة، وشاملة تماما كما كانت موجودة من قبل عندما كان عنصرعدم الرّاحة غير متوفّر فى الدّور،والقصور، وفى المساكن، والمنازل فإنّ هذه الأخيرة كانت تقذف بالناس منذ الصّباح الباكر إلى الشّارع حيث تتجسّد الحياةُ الدائمة الدّائبة اليومية للمواطن العادي،هناك يمكنك أن تأكل ، وتشرب، وتفاوض،وتبيع ، وتشتري، وتناقش،أو أن تلهو ،الكبار من أجل المال، وقوت اليوم، والصّغار من أجل التسرية والتسلّي، وفوق ذلك كلّه ترى أشياءَ مثيرة فى أغرب عروض حلقية (نسبة إلى الحِلْقة) فى العالم. حيث يغدو الشارعُ شبيهاً بسيرك كبير مباشر مقسّم إلى أطراف، وأجزاء ،إلى أناس يتجمهرون زرافاتٍ ووحداناً فى كلّ مكان ،تتوفّر فيه جميع الأذواق التي تستجيب لكلّ الرّغبات، والأهواء، وتُرضي كلَّ الأذواق والأعمار .
هناك تجد الرّجال البهلوانيين،ومُروّضي الدّببة (كذا)،والقردة، والمَعِز،هناك يوجد الباعة والمشترون تتخلّلها تلك المناقشات و"الشطارة" اليومية ،و" المساومة" الدائمة التي لا تنتهي حول الأسعار التي تشكّل جزءاً مهمّا جدّاً من الحياة الإجتماعية اليومية للمواطن المغربي ، وللأجانب كذلك فى زمننا الحاضر. ..!
– حفظك الله يا رجل، كيف ترفض شراءَ شئٍ، فقط لأنه قيل لك أنه باهظ الثمن..؟!
إنّكم سوف تهينون البائعَ حتى الموت ، هذا الذي يساوم بدوره حتّى على كأس الشّاي ، سبب وجوده، وقوته اليومي..!.
أذُنُ بشّار العَاشِقَة !
إنّنا واجدون هناك علاوةً على ما سبق كذلك هؤلاء الذين يجمعون بين ماضي الأمس، وحاضر اليوم. إنهم "الحلائقيّون" الذين يروون أبهى القصص الخيالية، وينسجون أغربَ الحكايات الأسطورية تماماً كما كان يفعلُ أجدادُهم فى القرون الوسطى. إنّ الأغلبية السّاحقة للمستمعين، المتفرّجين، والمتتبّعين المبهورين بهذه القصص – مثل سابقيهم – لا يعرفون القراءةَ ولا الكتابة ،ولهذا فإنّهم يَسْعَوْنَ إلى إشباع فضول (الأذن) بما لا يستطيع المتفرّج أو المتتبّع الوصول إليه،أوالحصول عليه بواسطة (العين)،وقد أصاب شاعرُنا الكبير البصير بشّار بن برد كبدَ الحقيقة عندما قال: ( يا قوم أذني لبعضِ الحيّ عاشقةٌ/ والأذنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا )، إنهم هناك مشدوهون ،مبهورون، مشدودون،مندهشون، يقظون، وقد كوّنوا حلقةً مستديرةً بإحكام حول الرّجل الذي غالباً ما يكون طاعناً فى السنّ،خَبَرَتْه الأيام، وحنّكته الليالي،وأحوجت سمعَه إلى ترجمان، أو نازلاً من أعالي جبال الأطلس الشامخة،أو نازحاً من صحارى القفارالبعيدة، يسرد بوتيرة مسجوعة ومنغّمة رشيقة،وبكلمات منظومة مُفعمة رقيقة،ويحكي قصصاً مثيرة، وحكايات مُدهشة،وأساطيرَ مهولة تدور حول الغواني الحِسان، ذوات الحُسْن الباهر، والجمال الظاهر،وعن أميرات حسناوات صاحبات العفّة والصّون، وربّات البيوت البواكيا ، والدلال المَصون ،ومثلما يحكي عن الأخيار، فأنه يحكي كذلك عن الأشرار الذين يرجّحون كفّة الشرّ على جانب الخير ، ويحكي عن الفوارس المغاوير، والفرسان الشجعان الذين يرفعون عالياً ألويةَ الخير، ورايات النّبل، وبنودَ الكرامة الخالدة منذ الأزل ،عن هؤلاء القوم الذين لا توسّط بينهم، لهم الصّدرُ دون العالمين أو القبرُ..!.
دريهمات أو مرابطيّات
بنفس أسلوب التغنّي الذي طبع حكايات "السّيد" يجعلون المستمعين يعيشون فى كلّ لحظة وحين الحدث المَحْكيّ، أو الموقف المَرْويّ. أتذكرون…؟ " سوف ترونَ سهاماً،وترمقون نبالاً تصعد إلى الفضاء،وأخرى تهوي من السّماء" عندما يتمّ وصف المعركة، ونعود لشاعرنا المُجيد بشّار بن برد القائل فى هذا المجال: ( كأنّ مثارَ النّقع فوق رؤوسِنا / وأسيافِنا ليلٌ تَهَاوىَ كوَاكبُه )..أو" آه لو حضر السّيد القمبيطور" ( El Cid Campeador)..أو عنترةُ ببن شدّاد، أو سيف بن ذي يزن،أو الظاهر بيبرس، هكذا يُقال عندما يكون الرّاوي يكاد أن يوشِك من الإنتهاء من روايته،أو حكايته – ومثلما كان يحدث فى القرن الثاني عشر- يمنحه المستمعون المتتبّعون فى الأخير بضعَ دريهمات ،أو " مرابطيّات" (**) ثمّ يعودون إلى دورهم،وقد أضناهم التجوال، ليحلموا بما سمعوا ، بينما يكون المتفرّجون الأجانب – نحن الغربييّن أمثالنا – ندلفُ إلى غرفنا فى الفنادق، فى تؤدة، وتأنٍّ وهدوء، لنعودَ ونسقطَ بعنف على مرتبة القرن الواحد والعشرين..!.
كاتب من المغرب، عضو الاكاديمية الإسبانية الأمريكية لآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.
(**) – في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشركانت تروج فى الأندلس العُملة "المرابطية "( EL MARAVIDI )،أو الدينار المرابطي نسبةً إلى الدّولة المرابطية المغربية التي حكمت المغربَ والأندلس ،وكانت عاصمتها مراكش فيما بين 462ه – و 540 ه و1070 م – 1146 م وكانت هذه العُملة تُستخدمُ لتسهيل التجارة مع مسلمي قشتالة ،كما إستُعمل الدينار المرابطي كوحدة نقدية في سائر أوروّبا المسيحيّة، بعد الملك الإسباني ألفونسو العاشرالملّقب بالحكيم (1221-1284) تمّ إستبدال هذه العملة بأخرى فى قشتالة أطلق عليها إسم ( دُوبْلاَسْ) الوارد فى المقال كذلك .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.