عبر المغرب عن استغرابه من عدم دعوته إلى مؤتمر برلين حول ليبيا، الذي استضافته الحكومة الألمانية اليوم الأحد، مؤكداً أن المغرب كان في طليعة الجهود الدولية الرامية لإنهاء الصراع الليبي، والتي توجت باتفاق الصخيرات الذي يعتبر الإطار السياسي الذي تدعمه الأممالمتحدة ويحظى بقبول جميع أطراف النزاع. إن الرد المغربي على إقصاءه من مؤتمر برلين هو أمر متوقع فالمغرب من دول المنطقة، كما أنه قام بدور كبير في التوصل لاتفاق الصخيرات الذي يعد أبرز إطار سياسي للتسوية في ليبيا حتى اللحظة، إلا أن الرد المغربي يطرح العديد من التساؤلات. أول هذه التساؤلات هو لماذا لم يبد المغرب أي تفاعل مع التحركات الدبلوماسية التي قامت بها تركيا منذ شهر نوفمبر الماضي، والتي توجت بالتوقيع على اتفاقين بين أنقرة وحكومة الوفاق الوطني: الأول بخصوص ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في شرق الأبيض المتوسط والثاني اتفاق عسكري وأمني التزمت بموجبه أنقرة بتقديم الدعم العسكري لحكومة طرابلس لمواجهة قوات الجنرال المتمرد خليفة حفتر. فمنذ الإعلان على هذين الاتفاقين، ظهر بوضوح بأن أنقرة أصبحت تلعب دورا رياديا في الملف الليبي وتمتلك اوراقا سياسيا من شأنها ان تجعل من أنقرة طرفا رئيسيا في أي مفاوضات سياسية لإنهاء النزاع وبالتالي الحصول على مزيد من النفوذ في المشهد الليبي. لتحقيق هذا الهدف، تحركت الدبلوماسية التركية على جميع الأصعدة وكثفت من تصريحاتها أنها لن تترك المجال فارغاً أمام الدول الداعمة لحفتر (الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية والأردن وفرنسا) لتفرض أجندتها السياسية في ليبيا وتزيح حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً منذ اتفاق الصخيرات. وكنتيجة مباشرة للحملة الدبلوماسية التركية، عقد الاجتماع الثنائي بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان والروسي فلاديمير بوتين، الذي قررا فيه إعلان وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم الأحد 12 يناير، وهو ما حصل. ويوم الإثنين الماضي استضافت موسكو المحادثات الثنائية بين حكومة الوفاق الوطني والجنرال حفتر تحت رعاية كل من روسيا وتركيا. وبالرغم من عجزهما على دفع طرفي النزاع إلى توقيع اتفاق إطلاق النار، إلا أن موسكو وانقرة نجحتا في التحول الى لاعبين اساسيين في العملية السياسية الليبية. وقد استغل البلدان تقاعس الإدارة الأمريكية وعدم توفرها على موقف واضح بخصوص السبيل نحو تحقيق السلام في ليبيا، بالإضافة إلى انشغالها بالتصعيد الذي شهده الملف الإيراني في الآونة الأخيرة. ففي الوقت الذي عبر الرئيس ترامب عن دعمه الضمني لحفتر بعد المكالمة الهاتفية التي أجراها معه في شهر أبريل الماضي، إلا أن الموقف الأمريكي لا زال يتميز بنوع من الغموض والتخبط، ذلك أن الإدارة الأمريكية استمرت في عقد لقاءاتها مع حكومة الوفاق الوطني، كان آخرها الحوار التجاري الأمريكي-الليبي الذي عقد في تونس في شهر ديسمبر الماضي. أما الاتحاد الأوروبي المعني الأول بالملف الليبي بحكم القرب الجغرافي والتأثيرات الأمنية التي تشكلها ليبيا على دول الاتحاد، على رأسها مسألة الهجرة السرية، فلم يعد له أي دور بسبب تعارض المصالح ببين كل من إيطاليا التي تدعم حكومة الوفاق الوطني وفرنسا التي تدعم الجنرال حفتر. وتأتي المساعي التي قامت بها ألمانيا خلال الأشهر الماضية لتنظيم مؤتمر برلين، الذي تم تأجيله لعدة مرات، كمحاولة من الاتحاد الأوربي للاضطلاع بموقف رئيسي في الملف الليبي. في غضون كل هذه التطورات التي وقعت خلال الأشهر القليلة الماضية، لم يقم المغرب بأية تحركات سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى المتعدد الأطراف في الأممالمتحدة أو على مستوى علاقاته مع الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةالأمريكية للحفاظ على الدور الذي لعبه في الملف الليبي في السنوات الأولى من النزاع، والذي توج بالتوقيع على اتفاق الصخيرات في شهر دجنبر 2015، والذي وضع اللبنات الأولى للحل السياسي في ليبيا. كما لم يصدر عن المغرب موقف بخصوص المباحثات التي استضافتها موسكو الإثنين الماضي، في الوقت الذي أصدرت من فرنساوإيطاليا والمملكة المتحدةوألمانياوالولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي بياناً مشتركاً أكدوا فيه دعمهم لهذه الخطوة ودعوا طرفي النزاع لاستغلال هذه الفرصة لتدارس المشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية الكامنة وراء الحرب الأهلية في البلاد. كل ما قام به المغرب هو الاكتفاء بتصريحات بين الفينة والأخرة أنه يدين التدخل الأجنبي بأي شكل من الأشكال في ليبيا ويؤكد أن الحل السياسي هو الوحيد الكفيل بوقف سفك الدماء. وكان آخر تصريح للمغرب حول الملف الليبي هو التصريح الذي قام به وزير الخارجية ناصر بوريطة يوم 7 يناير، والذي قال فيه بأن المغرب يرفض أي تدخل أجنبي في ليبيا وأن الحل لن يمر إلا عبر توافق كل القوى السياسية الليبية والتوصل لحل سياسي للحفاظ على المصالح العليا لليبيا ومصالح الشعب الليبي. إن الصمت المغربي تجاه آخر التطورات في ليبيا كان مثيراً للاستغراب، بالنظر لتواجد الصراع الليبي في إطار جغرافي من شأنه التأثير بشكل كبير على مصالح المغرب وأمنه الإقليمي، بالإضافة إلى الدور المركزي للمغرب في اتفاق الصخيرات، الذي يشكل الأساس القانوني الذي تستعمله تركيا لتبرير تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة وعزمها تقديم الدعم العسكري لليبيا وإن كان ذلك يتعارض مع قرارات مجلس بدءً من القرار 1970 (2011)، وصولاً للقرار 2473 (2019) التي تفرض حظر توريد الأسلحة لليبيا. ويرجع الصمت المغربي وتفاعله المتأخر مع إقصاءه من اجتماع برلين لتعارض موقفه الرسمي بخصوص ليبيا مع مواقف دول تجمعه معها علاقات قوية، وهي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وفرنسا، والتي تعتبر من الدول الداعمة الرئيسية للجنرال حفتر. فمن المعلوم أن الإمارات العربية المتحدة تعتبر أكبر داعم رئيسي للجنرال حفتر، حيث تعتبر ممونه الرئيسي بالأسلحة والعامل الرئيسي الذي ساعده على تحقيق تقدم ميداني كبير في مواجهاته العسكرية ضد حكومة الوفاق الوطني، خاصة منذ شهر أبريل الماضي. كما أن فرنسا، التي تعتبر الشريك الاستراتيجي الرئيسي للمغرب وداعمه الأول في قضية الصحراء في مجلس الأمن، تعتبر من الداعمين الرئيسيين للجنرال حفتر. وبالتالي، فالتفسير الوحيد لصمت المغرب حيال الملف الليبي خلال الأشهر القليلة الماضية يرجع إلى تواجده بين المطرقة والسندان: مطرقة دعم حكومة الوفاق الوطني والحرص على تطبيق مقتضيات اتفاق الصخيرات الذي يعتبر الراعي الرئيسي له وسندان الوقوف في وجه دول تعتبر مبدئياً شركاء استراتيجيين للمغرب، إلا أنها تريد فرض أجندتها السياسية في المنطقة وإن كان ذلك يتعارض مع مصالح شريكها التقليدي المغربي. بالنظر إلى الحالة على الأرض في ليبيا في الوقت الراهن وبالنظر لتشدد مواقف طرفي النزاع والدول الداعمة لها، بالإضافة إلى غياب الدور الأوروبي والأمريكي للأسباب المشار إليها أعلاه، فليس هناك آمال كبيرة بأن يسفر مؤتمر برلين عن أي اتفاق جوهري من شأنه تعبيد الطريق نحو وقف إطلاق النار بشكل فوري والدخول في مفاوضات بغية التوصل لحل سياسي يحفظ مصالح جميع الأطراف ويضمن استقلال ليبيا ويحفظ مصالحها. فقد أظهرت مباحثات موسكو أن الجنرال حفتر والدول الداعمة له حريصين على عدم التفريط في التقدم الميداني الذي حققه على الأرض منذ شهر أبريل الماضي. فإذا لم يكن هناك انخراط مباشر من الولاياتالمتحدةالأمريكية عن طريق التلويح بفرض عقوبات على أي طرف يرفض الانخراط بشكل كلي في العملية السياسية أو ضد الداعمة لهما، أو إذا قام مجلس الأمن بإصدار قرار ملزم لفرض منطقة الحظر الجوي في ليبيا تمهيداً للدخول في عملية السياسية، فليس هناك أي أمل في وقوع أي انفراج أو في تغيير مختلف المتداخلين الداخليين والخارجيين في ليبيا. وبالتالي، فإن فرص نجاح مؤتمر برلين تظل شبه منعدمة، بل سيضاف هذا المؤتمر للقائمة الطويلة من المؤتمرات التي عقدت حول ليبيا ولم تسفر عن أي نتيجة ملموسة. في ظل هذه الظروف، فربما قد ضيع المغرب فرصة الحفاظ على دوره في ليبيا والاستفراد بلعب دور الوسيط الذي يحظى بثقة كل الأطراف. ومع ذلك، وبسبب الوضع المعقد للملف الليبي، فيمكن للمغرب استرجاع دوره في هذا الملف عقب انقضاء مؤتمر برلين في حال التحرك بسرعة واستعمال الأوراق التي قد تمنحه نوعا من الأفضلية والمصداقية بالمقارنة مع باقي المتداخلين للعب دور محوري في التوصل لحل سياسي. فتركيا التي فرضت نفسها كأحد اللاعبين الرئيسيين في ليبيا تنظر لها دول الاتحاد الأوروبي بارتياب شديد، خاصةً بعد توقيعها على اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني دون الأخذ بمصالح قبرص ومصر واليونان. فقد عبر الاتحاد الأوروبي عن رفضه وشجبه لهذا الاتفاق واعتبره مخالفاً للقانون الدولي. بالإضافة إلى ذلك، فهناك عداء كبير بين تركيا والإمارات العربية المتحدة، التي تعتبر أنقرة الراعي الرئيسي للإسلام السياسي في المنطقة العربية وتعتبرها الحاجز الرئيسي الذي يقف أمام تنفيذ مخططها في ليبيا. كما أن الولاياتالمتحدة عبرت عن انشغالها من الاتفاقين الذين وقعتهما مع حكومة الوفاق الوطني ومن نشرها لقواتها في ليبيا. فعلى الرغم من أن تركيا تدعي أن الدافع الرئيسي وراء دعمها لحكومة الوفاق الوطني هو دعم الشرعية الدولية المنبثقة عن اتفاق الصخيرات، إلا أن كل الأطراف تعي أن لها أجندات إيديولوجية واقتصادية. وبالتالي، لا يمكن لأي من الأطراف الدولية أن تنظر بعين الرضا أو الثقة لأي دور وساطة يمكن أن تقوم بها تركيا. نفس الشيء ينطبق على الإمارات العربية المتحدة التي تسعى مهما كلف الثمن لفرض أجندتها في المنطقة من خلال فرض الخيار العسكري وجعل انتصار الجنرال حفتر السبيل الوحيد لوضع حد للنزاع الليبي. على النقيض من ذلك، فإن المغرب تجمعه علاقات استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي مبنية على الاحترام المتبادل والتشاور بخصوص القضايا ذات الاهتمام المشترك. كما تجمعه علاقات متميزة مع الولاياتالمتحدةوروسيا ومع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، على الرغم من حالة الفتور التي تعرفها العلاقات بين الرباط من جهة وأبو ظبي والرياض من جهة أخرى. فمن خلال العلاقات المتميزة التي تجمعه مع هذه القوى الدولية، فإمكان المغرب أن يستعيد دوره وأن يحظى بثقة كل الأطراف للعب دور الوسيط ومساعدة الأممالمتحدة على التوصل لحل سياسي. إلا لن ذلك يتحقق عن طريق الاكتفاء ببعض التصريحات بين الفينة والأخرى لن تجدي نفعاً ولن تدفع أي طرف من الأطراف لأخذه في عين الاعتبار. فينبغي للدبلوماسية المغربية التحرك بشكل مكثف وتكثيف اتصالاتها مع مختلف اللاعبين الرئيسيين سواء تعلق الأمر بالاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةالأمريكيةوالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر والمبعوث الأممي لليبيا، غسان سلامة، لإقناعهم بأن المغرب هو الطرف الوحيد القادر على لعب دور الوسيط في الملف الليبي وإقناع كل الأطراف بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. كما على المغرب أخذ المبادرة مرةً ثانية والتنسيق مع الأممالمتحدة للدعوة لعقد مؤتمر دولي حول ليبيا للبناء على اتفاق الصخيرات. فإذا كان المغرب قد تمكن من إنجاح مؤتمر الصخيرات، فينبغي التأكيد أن له كل المقومات لإنجاح أي مبادرة جادة تسعى لوقف إراقة الدماء في ليبيا والتوصل لحل سياسي يرضي جميع الأطراف ويحفظ ماء وجهها. صحيح أنه في ظل الفتور غير المسبوق في العلاقات بين الرباط وأبو ظبي خلال الثلاث سنوات الماضية بسبب موقف الحياد الذي اعتمده المغرب حيال الأزمة الخليجية، لا يمكن لأي أحد التكهن بمدى توفر المغرب على أي هامش من المناورة لاستمالة أبو ظبي للقبول بالحل السياسي، وما إذا كانت هذه الأخيرة ستنظر بعين الرضى لأي دور للمغرب في الملف الليبي، إلا أن انخراط تركيا عسكريا قد يحرك التوازنات على الأرض في ليبيا بما يجعل داعمي حفتر مضطرين لإعادة التفكير في حساباتهم. وربما يدشن اللقاء الذي جمع الملك محمد السادس مع ولي العهد أبو ظبي لإعادة الدفء في العلاقات بين البلدين ويكون مؤشر على نيتهما العمل سويا لما يخدم مصالحهما ويحفظ استقرار المنطقة. إن التطورات الأخيرة التي شهدها الملف الليبي تفرض على الرباط الخروج من تقوقعها وصمتها وإبداء موقفها بشكل واضح والتأكيد أنه لا يمكن التوصل لأي حل في ظل غياب دول الجوار، التي تعتبر المتضرر الرئيسي من التأثيرات الأمنية والاقتصادية للملف الليبي. كما أن هذه التطورات ستشكل اختباراً بالنسبة للمغرب ومدى مرونة وحنكة دبلوماسيته وقدرتها على الحفاظ على مصالح المغرب من خلال إشراكه في لعب دور ريادي في القضايا الإقليمية التي لها ارتباط وثيق باستقراره ومصالحه الأمنية والاقتصادية.