كانت ميزة البيضاء دائما وعلى غير ما هومعتاد في باقي المدن المغربية الكبرى أنها ملك لمن يعشقها وليس لمن يعلن انتماءه إليها ب "الأصل"، إذ الدارالبيضاء مدينة لا تعترف بمفهوم الأصل أوالجذور أوالأعراق أوغيرها من الاستعارات "الأصولية"، البيضاء ملك لمن يحبها ويقطنها، أكان هذا المحب أعرابيا من أحواز تامسنا أوأمازيغيا من هضاب أليغ، كل من يقطن البيضاء كان يباهي ب "بيضاويته" وعصريته. لكن، من يفتخر اليوم بانتمائه للبيضاء؟ من يا تراه اليوم بالذات يستطيع أن يباهي بهذا الانتماء؟ لست أعتقد أن الكثيرين سيفعلون وحتى من سيفعل ذلك فسيتحجج لتبرير ذلك الحب بحديث عن ماض سابق للمدينة، عن معالم دكت وعن بساتين "كانت" وعن أسلوب عيش "كوسموبوليتي" مفتوح افتقد وحلت محله حالة أشبه ما تكون بحالة الطبيعة والبداوة الأولى، حيث كل فرد يقاتل ضد الآخرين لأجل ذاته، chacun pour soi et casa contre tous حب الدار البيضاء اليوم هوفعل لا يصرّف إلا بصيغة الماضي. قد يقول أحد إن هذا حال مدن مغربية أخرى كثيرة، فمن سيسعد لحال فاس أوسلا أوطنجة اليوم؟ كل هذه المدن، هذه "التجارب" العمرانية البديعة التي احتاجت قرونا لتنحت اسمها وطابعها في الأذهان انكسرت وهذا سيكون قولا صحيحا تماما، مع فرق بسيط وهوأنه في مدينة يقطنها ثلث المغاربة تقريبا وتقوم بما يبلغ 80 في المائة من الاقتصاد المغربي، الآثار والنتائج دائما تكون دائما مضاعفة وخطيرة. هناك حرب شرسة "فعلية" مشنونة اليوم على الدار البيضاء، على معمارها وعلى إنسانها، هناك رغبة ما لاواعية في محوالبيضاء، هذا ما أحسه شخصيا وبشكل مأساوي عندما أمر بحي لافيليت أوروش نوار أوبيلفيدير ويا حسرة على بلفدير بساحاته ومحطة قطاره الكبيرة وحمامه الذي لم يبق منه اليوم "إلا ريشه" بلغة الفقيد عبد الله راجع؛ هذا ما أحسه حين أمر بدرب غلف أوبورغون أوأقف عند نهاية "غيتو" الهجاجمة المتاخم لقصور فال دوأنفا حيث التناقضات تبلغ أقصاها، هذا ما أحس به عندما أمر ليلا أمام "أطلال" لينكولن وشارع محمد الخامس الذي صار مرتع "المشاش" بعد العاشرة ليلا والمشاش بلغة البيضاويين ليس المقصود بها "القطط" فقط، بل أيضا بعض البشر ممن يتسافد واقفا على أعمدة ما تبقى من البنايات وأبواب العمارات القديمة؛ وقوف يكون فيه على المرأة أن ترفع جلبابها مستدبرة متكئة على الحائط تراقب بعينيها المارة في انتظار أن ينتهي الزبون من قضاء حاجته بأقصى سرعة ويعطي الدراهم العشر قبل أن ترخي أطراف الجلباب بسرعة البرق وتصد عنه دون تحية أوكلام. حسرة أشعر بها حين أمر أمام زنقة أغادير أوأزقة المعاريف، هذا الحي الذي صار سوقا معمّمة لا بداية لها ولا نهاية، حسرة أشعر بها حين أمر أمام ما كان يوما قاعات سينما وصار اليوم واجهة لمتاجر "أسيما" أوحين أعرّج على بن تومرت أوالفيردان أوباب مراكش فتطالعني رائحة الفضلات البيولوجية النثنة التي تعمر المكان. أما عن الضواحي والملحقات "الريفية" التي تزنّر بأحزمة فقرها وقهرها المدينة من أهل لغلام إلى الهراويين، فالأمر أدهى. بيضاء "ميكاييل كورتيز" و"همفري بوغارت" في فيلم Casablanca صارت اليوم سوداء "كازانيغرا" و"الباي نايت"، وليدات كازا الأنيقين "اللّبّاسا" بالأمس صاروا "بوعارة" وشفارة بأوصاف غيرهم اليوم. من المسؤول عن هذا الخراب؟ من أعلن الحرب ومازال على الدار البيضاء حتى صارت ما هي عليه اليوم : جريمة ومزابل ودعارة رخيصة الثمن؟ مجموعة الجهلة السُرّاق الذين تعاقبوا على تسيير المدينة منذ عقود، عدوالبيضاء مسيروها الذين هم في الأصل حفنة من المضاربين العقاريين الذين اقتطعوا ملكيات بسيدي مسعود وكاليفورنيا وشيدوا قصورا محاطة بالاسوار العالية وشركات الحراسة وقطعوا الصلة بباقي "كحل الراس"، المسؤول هوهؤلاء الذين فكروا في السلطة والشأن العام بمنطق "الغنيمة"، فما وجدوا ساحة أوأثرا معماريا أوساحة خضراء إلا و"مسحوه" وأدخلوه في تصاميم "تجزئات- أقفاص السكن الخاص التي ستباع بثمن دقة لنيف"، حتى يسهل عليهم أداء فواتير ماء حدائق فيلاتهم الفخمة بكاليفورنيا وعين الذياب وإطعام كلاب الحراسات التي تطلق ليلا لتحول بين إقطاعياتهم وبين باقي "بوزبال".