إذا كان حزب العدالة والتنمية استطاع خلال العقد الأخير الحفاظ على شعبية، فإن الفضل في ذلك يعود لتربّعه على كرسي المعارضة طوال هذه الفترة، بسبب الفراغ الذي تركه حزب الاتحاد الاشتراكي بعد دخوله في تجربة التناوب سنة 1998، وخلو الحقل السياسي من أحزاب ذات رصيد شعبي وازن، وقد عزّز من تجذر حزب "المصباح" في المجتمع، التضييق والحصار الذي تعرّض له من طرف قوى نافذة في السلطة كانت ترى في الحزب رقما غير قابل للقسمة. لكن بعد اجتياح "تسونامي" الثورة عددا من الدول العربية، وإسقاطه لعدد من الأنظمة الاستبدادية، وانتقال "حمّى" الاحتجاجات إلى المغرب، قادتها حركة شباب 20 فبراير، وخشية من أن تتحول هذه الاحتجاجات إلى انتفاضات، اضطر النظام إلى الانحناء للعاصفة، وتقديم بعض التنازلات، كان أهمها تعديل دستور 1996، وإجراء انتخابات تشريعية قبل موعدها، في سعي حثيث لاحتواء تحرّك الشارع، ثم جاءت "الوصفة السحرية" التي قلبت حسابات من كانوا يراهنون على الشارع لإحداث تغيير حقيقي في بنية النظام، الوصفة كانت تمكين حزب العدالة والتنمية من الفوز بالانتخابات، بعدما حيل بينه وبين هذا الفوز لسنوات عديدة. وهكذا، جاءت نتائج الانتخابات التشريعية فوق توقعات قيادة الحزب، بعدما كان طموحها لا يتخطى الحصول على لمقاعد إضافية بمجلس النواب، وبالتالي يطرح سؤال جوهري: هل استُخدم حزب العدالة والتنمية كدرع واقي ضد ارتدادات ثورات الربيع العربي؟ ذهب بعض المراقبين إلى أن النظام المغربي لم يكن أمامه إلا ورقة وحيدة يلعبها لتجنب العواصف القادمة من دول الجوار العربي، والورقة كانت هي عدم الوقوف في وجه فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات التشريعية، لبعث رسالة للرأي العام الداخلي والخارجي أن هناك طريقا ثانيا لإحداث التغيير من داخل النظام، وهو ما اصطُلِح عليه ب "ثورة الصناديق"، فإلى أي حدّ تحمل هذه القراءة السياسية وجاهتها؟ رغم قصر المدة التي قضاها حزب العدالة والتنمية في الحكومة – والتي لا تسمح بالتقييم النهائي لأداء الحزب - إلا أن ذلك لا يمنع من إبداء ملاحظات أولية، بناء على بعض الوقائع والمبادرات التي اتخذها وزرائه خلال هذه الفترة. بداية، هناك حقيقة لا بد من التأكيد عليها قبل الخوض في التفاصيل، وهي أن النتائج غير المتوقعة التي حققها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية، كانت عاملا حاسما في إنهاء الحراك الاجتماعي، بعد قرار جماعة "العدل والإحسان" الانسحاب من حركة 20 فبراير، وهي التي كانت تشكل القوة الكاسحة داخل الحركة، وقد انعكس انسحابها بشكل كبير على الزخم الشعبي للتظاهرات التي كانت تخرج في عدة مدن مغربية. فقد بعث فوز حزب العدالة والتنمية وانتقاله من المعارضة إلى إدارة الشأن العام، الأمل لدى فئات اجتماعية عريضة، وعزز الشعور العام بكون الحزب سيقود إصلاحات جوهرية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، على اعتبار أنه حزب ظل محافظا على عذريته السياسية واستقلالية قراره، لكن السؤال يبقى هو: هل لا زال الحزب يحظى بالشعبية، بعد مرور أكثر من 5 أشهر على تسلّمه قيادة الحكومة ؟ تميزت الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية بتبني شعار خرج من رحم الشارع، ويتماهى مع المزاج الشعبي العام وهو: " صوتنا فرصتنا ضد الفساد والاستبداد"، ومنذ تسلُّم الحزب لمهامه الحكومية، أخذ الجميع يرقُب تحركات وزراءه، إلى درجة أن هناك من أخذ يهتم بتفاصيل أنشطتهم الوظيفية والمعيشية: ركوب القطار، استعمال سيارات الدولة في المهام الوظيفية فقط، الحفاظ على العادات الاجتماعية... والتي صنفها خصوم الحزب في خانة "الشعبوية" ، لكن الذي يهمنا من كل ذلك، هو بعض المبادرات الإيجابية التي اتخذها وزراء في الحزب، ولقيت صدى طيبا داخل المجتمع، لكنها توقفت في نصف الطريق. سنكتفي بأهم مبادرتين اتخذها بعض وزراء حزب العدالة والتنمية، وأسالت كثير من المداد، وأثارت ردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض، المبادرة الأولى تتمثل في نشر وزير النقل والتجهيز عبد العزيز الرباح لائحة المستفيدين من رخص النقل العمومي، والتي بقدر ما خلفت استحسانا لدى الرأي العام، وعززت الاعتقاد لديه بأن حزب "المصباح" ماضٍ في تنفيذ وعده بمحاربة الفساد، إلا أن هذه المبادرة أثارت امتعاض بعض الأحزاب المشاركة في الحكومة، فضلا عن استياء المستفيدين من هذه الرخص. تضاف إلى هذه المبادرة، مبادرة وزير الاتصال مصطفى الخلفي، والذي سعى لإدخال بعض الإصلاحات على دفتر تحملات القطب الإعلامي الرسمي، وما أعقب ذلك من ضجة إعلامية وسياسية قادتها كتائب "المخزن الإعلامي". هناك مبادرات أخرى أقل أهمية لا يتسع المجال لذكرها، لكننا سنكتفي بالمبادرتين السابقتين لأهميتهما، وهكذا فقد خلّف اتخاذ وزير النقل والتجهيز قرارا بنشر لائحة رخص النقل العمومي صدى طيبا في المجتمع، إلا أنه قرار يبقى غير كاف، إذ ما الفائدة التي سيجنيها المواطن من إعلان لائحة المستفيدين من مأذونيات النقل، إذا لم يصاحب ذلك إجراءات عملية بمراجعة هذه الرخص، وسحبها ممن لا يستحقها أو الذين لديهم أكثر من رخصة؟ كما هناك سؤال لا يزال يتردد داخل المجتمع: لماذا لم يتم لحد الآن نشر لوائح المستفيدين من رخص المقالع والصيد في أعالي البحار كما وعد بذلك وزير النقل؟؟ كما أن المبادرة التي اتخذها وزير الاتصال مصطفى الخلفي، بإدخاله بعض التعديلات على دفاتر تحملات القطب الإعلامي الرسمي، خلفت ارتياحا في صفوف المهنيين داخل هذا القطب، لكن الخروج المثير لبعض مدراء هذا القطب وإعلان معارضتهم على هذه الإصلاحات، ونجاحهم في تجميد المبادرة، ترك إحباطا واسعا داخل المجتمع، باعتبار ذلك مؤشر سلبي على أن الوزير لا يمتلك القرار داخل قطاع الإعلام الذي هو المسؤول عنه أمام المواطنين. كثير من الناس يخشون من أن تتحول قضية محاربة الفساد (التي كانت في صلب البرنامج الانتخابي للحزب) إلى مجرد شعار فارغ من كل مضمون، القضية ليست سهلة، لكنها تحتاج لجرأة سياسية وإرادة قوية، لا تلين أو تخضع للضغوطات والمساومات، وذلك حفاظا على مصداقية العمل السياسي الذي تعززت مع صعود حزب "المصباح". إن منح المواطن صوته لحزب معين يعني تعاقده على تحقيق مطالبه، طبعا بشكل تدريجي، لكن الأهم هو شعور المواطن بأن هناك مجهود يبذل لتحسين وضعه الاجتماعي المأزوم، وأي فشل أو إخفاق في تدبير ملف أو قطاع، لاشك ستكون له كلفة سياسية باهضة، سيؤديها الحزب من رصيده الشعبي لأنه من يقود الحكومة، لكن الغريب أن يخرج علينا الأمين العام للحزب السيد عبد الإله بنكيران بتصريح غير مسؤول بعد زيادته في المحروقات، ليؤكد فيه على أنه لا يخشى على شعبيته، وأنه مستعد للتضحية بها في سبيل المصلحة العامة؟؟!! أية مصلحة عامة هاته التي تناقض مصلحة الشعب، الذي أوصل الحزب للحكومة لتقوية قدرته الشرائية وليس إضعافها؟؟؟!!! مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن مسؤول حكومي يدرك أن مستقبل حزبه هو رهين بوفائه بالتزاماته أمام الناخبين، وأن الرهان على إرضاء الماسكين بالسلطة في البلاد هو رهان خاسر، لأن البقاء للشعوب وليس للحكام. للأسف، يلاحظ المتتبع أن الأمين العام لحزب "المصباح"، يقود حزبه إلى مصير شبيه بمصير حزب الاتحاد الاشتراكي، فهو غير مستشعر أنه أصبح مسؤولا حكوميا وليس فقط مسؤولا حزبيا، وأن ما يلفظ من قول إلا لديه "رقيب عتيد" من الصحافة والرأي العام والخصوم(...)، فهل يدرك السيد بنكيران أن مقايضة شعبية حزبه بالمنصب الحكومي هو نهاية حتمية للحزب؟؟؟ يعلم الجميع أن المواطن الذي صوّت لصالح حزب "المصباح"، كان يحدوه أمل في أن يُصلح هذا الحزب ما أفسدته الأحزاب التي سبقته إلى تدبير الشأن العام، وهو لأجل ذلك ينتظر حلولا واقعية وعاجلة لمشاكله الاجتماعية، وليس إعادة إنتاج نفس الممارسة السياسية البائدة التي أنتجت واقعا بئيسا لا زال المواطن يتلظى بناره، هذه الممارسة تقوم على خطاب سياسي يستعين بالشعودة السياسية، والتي تقوم على التضارب في المواقف والتصريحات،وهكذا نجد مثلا وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر السيد لحسن الداودي يعلن أمام أعضاء حزبه في لقاء للكتابة الجهوية بالرباط في 19 ماي المنصرم أنه وقف على مظاهر كثيرة لاستشراء الفساد داخل الوزارة، ثم بين عشية وضحاها يتراجع الوزير عن اعترافاته وينفي ما صرح به، أليس في هذا ضرب لمصداقية الحزب الذي ينتمي إليه؟ في حين نجد وزير الشؤون العامة والحكامة السيد نجيب بوليف في حوار سابق مع محطة إذاعية، يخلي مسؤولية حزبه عن الوعود الانتخابية التي قدمها للناخبين، مبررا ذلك بقوله: " لو أعطونا (الناخبين) الأغلبية المطلقة لكان برنامجنا الحزبي هو برنامج الحكومة"، وهو يعلم أن النظام الانتخابي في المغرب لا يسمح لأي حزب سياسي أن يحصل على أغلبية مطلقة، أليس هذا تملص من المسؤولية؟ عندما كان حزب "المصباح" في المعارضة اشتهر بمواقفه السياسية القوية، لكن لاحظ الجميع كيف تراجع عنها بمجرد ما انتقل إلى الحكومة، وأصبح يبحث لها عن تبريرات، مثلا معارضته لمشروع القطار الفائق السرعة، ومناهضته لمهرجان "موازين"،وفي هذا الصدد يوضح السيد بوليف في نفس الحوار: " لا يمكن أن نطلب من أحد أن يظل يردد نفس الكلام طوال حياته..."، ماذا يعني هذا؟ يعني أننا دخلنا في منطق التبريرات والتهرب من تحمل المسؤولية. صحيح أن ممارسة المعارضة ليس هو تدبير الشأن العام، لكن التعاقد الانتخابي مع المواطنين، يقتضي الوفاء بالوعود التي تضمنها البرنامج الانتخابي، وفي حالة عدم القدرة على الوفاء، يجب مصارحة الرأي العام، والتخلي عن المسؤولية بالاستقالة، وهذا من شأنه أن يحافظ على سمعة الحزب ومصداقية أعضائه، أما التلويح بالاستقالة في كل مرة دون تنفيذها، فإنه يضرّ بسمعة الحزب. إذا غابت الأخلاق عن الممارسة السياسية، فإنها تفقد نُبلها وجديتها، وتصبح مجرد عبث، وللأسف بعض الممارسات التي أشرنا إليها، والتي ظهرت بعد دخول الحزب للحكومة، تضعه أمام إعادة إنتاج نفس التجارب الفاشلة، لأحزاب سياسية كانت قوية ومتجذرة في المجتمع، لكنها اليوم تحولت إلى مجرد "مقاولات انتخابية"، والمثال البارز هو حزب الاتحاد الاشتراكي الذي أدى فاتورة سياسية باهضة الثمن، لأنه لم يكترث لمصير شعبيته، في مقابل تمسكه بالمناصب والمصالح الذاتية لأعضائه، على الأقل هذا الحزب لم تكن أمامه تجربة يمكنه الاستفادة منها والبناء عليها، ولم يكن يتوفر على الشروط الموضوعية (الربيع العربي) التي يتوفر عليها حزب العدالة والتنمية. فهل سيستفيد الحزب من أخطاء سابقيه، أم إنه سيعيد إنتاج التجارب الحكومية الفاشلة؟