لقد ذكرني مقال الأخ على العنبوري "في المصالحة الاتحادية" (انظر "فروم الاتحاديات والاتحاديين"، 26 دجنبر 2019) بهذا العنوان الذي كنت قد وضعته لمشروع مقال، بنية التفاعل، من خلاله، مع بعض ردود الفعل التي أعقبت "نداء الأفق الاتحادي: المصالحة والانفتاح". لم يكتب لهذا المقال – الذي صيغ عنوانه قبل الاحتفال بالذكرى الستين- أن يرى النور لأسباب حكيتها في "تجربة ألم". ولكون موضوعه لا يزال ذا راهنية، فلا بأس من العودة إليه والخوض فيه. نتذكر جميعا الإطار الذي جاء فيه نداء المصالحة. لقد تم إطلاقه رسميا في ندوة صحافية بالمقر المركزي للحزب بالرباط يوم 6 شتنبر 2019 (الذي يوافق تاريخ تأسيس الحزب سنة 1959). وقد أعلنت القيادة الاتحادية خلال هذه الندوة عن انطلاق عملية التحضير للاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. لن أخوض في مفهوم المصالحة إلا بقدر ما يفرضه المقام. وأبادر إلى القول بأن المصالحة، بالمفهوم الذي تحمله في سياقنا هذا، تعني طرفين اثنين: الطرف الذي ينادي بالمصالحة (وهي القيادة الاتحادية المنبثقة عن المؤتمر الوطني العاشر) والطرف المقصود بهذا النداء (وهي، في الواقع، أطراف تشكلت على امتداد التاريخ النضالي والتنظيمي لحزب القوات الشعبية؛ وهذه الأطراف هي التي تشكل ما يطلق عليه "العائلة الاتحادية"). وفي نظري المتواضع، فإن الطرف الأول قد أخلى مسؤوليته الأخلاقية والسياسية والتاريخية، ولو جزئيا، بتوجهه للطرف الآخر طلبا للمصالحة؛ وبهذا المعنى، فهو، من جهة، يعبر عن الإرادة السياسية في التجاوز والتجميع ولم الشمل؛ ومن جهة أخرى، يقدم ضمنيا وصراحة نقدا ذاتيا بعد تحليل وتقييم الوضع الحالي – الذي هو نتاج تراكمات لمحطات تاريخية، لا يتسع المجال للحديث عنها (وقد أشار إليها بتركيز علي الغنبوري في مقاله السالف الذكر)- واستحضار الرهان السياسي والاجتماعي بنظرة استشرافية تجعل من الأفق الاتحادي أفقا وطنيا مفتوحا على المستقبل بأمل وثقة (انظر "الاتحاد الاشتراكي وخطاب الأمل بعمق فكري وأفق وطني: قراءة سريعة في ‘نداء الأفق الاتحادي'"، محمد إنفي، "فاس نيوز"، 12 شتنبر 2019). "طرح فكرة المصالحة، اليوم، و رغم كل ما يمكن ان يلاحظ أو يقال عنها، إلا أنها تبقى توجها تنظيميا وسياسيا جديدا على الممارسة النضالية الاتحادية، لم تعرفها من قبل الذات الجماعية للحزب" (علي الغنبوري). فالمصالحة، بالمفهوم الذي قدمنها به وفي السياق الذي جاءت فيه، جعلت الكرة في ملعب الطرف الثاني المعني بهذه المصالحة. فهل يستطيع تجاوز ذاته والتحلي بإرادة سياسية تُقدِّر هذا التوجه التنظيمي والسياسي الجديد للانخراط فيه بفعالية وصدق نية خدمة لوحدة الحزب ومستقبله؟ في الواقع، ما يميز هذا الطرف، هو التعدد والاختلاف. فرغم انتماء الجميع لنفس الفكرة ونفس العائلة السياسية (العائلة الاتحادية)، فإننا نجد أنفسنا أمام تعدد التوجهات وتباين المصالح والمواقف. ويتبين ذلك من خلال ردود الفعل المعبر عنها صراحة أو ضمنيا. ويمكن تصنيف ردود الفعل هذه إلى مؤيدة ومشككة ورافضة ومحتمية بالصمت المطبق… لن أطيل في الحديث عن المؤيدين لخطوة المصالحة (ولن أطيل حتى بالنسبة لردود الفعل الأخرى). فالاتحاديات والاتحاديون (وهم كثر) الذين لبوا نداء حزبهم واستجابوا لمطلب المصالحة، بدون قيد أو شرط، انخرطوا في الدينامية الجديدة بكل فعالية وجدية. وقد كان مسرح محمد الخامس بالرباط يوم 29 أكتوبر 2019 شاهدا على ذلك. كما يشهد على ذلك انخراطهم في الدفاع عن حزبهم، من جهة، بمساهماتهم الفكرية في النقاش الدائر حول المصالحة؛ ومن جهة أخرى، بحضورهم الفعال في الأنشطة السياسية والثقافية والفكرية التي ينظمها الاتحاد. هناك صنف من أبناء الاتحاد الذين ابتعدوا عن حزبهم، إما لأسباب تنظيمية أو سياسية أو شخصية، لاذوا بالصمت المطبق وكأن مصير حزبهم لم يعد يعني إليهم أي شيء، باستثناء قلة قليلة منهم اعترفت بارتباطها الوجداني بالمدرسة الاتحادية؛ لكنها، عبرت بكل وضوح عن كونها وجدت مصلحتها الشخصية في الابتعاد النهائي عن الحزب (ونحن نفهم السبب، خاصة حين يأتي هذا الموقف من شخص أو أشخاص استفادوا من الريع الحزبي ولم يعد بإمكانهم التطلع إلى الاستفادة منه من جديد). الصنف الثالث، أضع فيه المشككين والمترددين. ويعبر أصحاب هذا الصنف عن تشككهم أو ترددهم بأساليب مختلفة؛ وكلها (أو أغلبها) تطرح مسألة الثقة. فهم يعبرون عن توجسهم من أن تكون المصالحة مجرد خدعة سياسية أو مطية لتحقيق مصالح شخصية، الخ (وللتحليل النفسي ما يقوله في هذا الموضوع). ولمن تتبع ردود فعل هذا الصنف، لا شك أنه صادف سؤولا حول الضمانات أو تساؤلا حول الخلفيات أو مطلبا حول أولوية النقد الذاتي…؛ وقد يكون قرأ شهادة أو أكثر تحكي عن لقاءات خاصة في الماضي لحل بعض المشاكل الخلافية؛ لكن دون جدوى؛ وغير ذلك من الأساليب أو المواقف التي تبحث كلها عن مبرر معين يسيغ عدم الانخراط في المصالحة. وهناك صنف رابع؛ وهو الرافض لدعوة المصالحة. وقد عبر عن ذلك صراحة؛ وهو في الواقع، رفض للقيادة الحالية المنبثقة عن المؤتمر الوطني العاشر. وهذه الفئة التي أعلنت وتعلن عداءها للكاتب الأول، لم تكتف بإعلان الرفض؛ بل تخوض حملة شعواء بشتى الوسائل (يستعمل فيها الافتراء والتغليط…) لمحاولة النيل من القيادة والتقليل من آثار الدعوة إلى المصالحة. وتتحكم في هذا الموقف رؤية ضيقة للغاية: الهدف هو إفشال المصالة حتى لا تحسب نتائجها الإيجابية لصالح لشكر. ولتعزيز موقفهم، ينتقد أصحاب هذا الصنف (وهم قلة لكنهم لا يتورعون عن الحديث باسم الاتحاديات والاتحاديين) تارة غياب تقييم فترة ما بعد المؤتمر العاشر، وتارة غياب النقد الذاتي؛ والمقصود به، بالطبع، النقد الذاتي في اتجاه واحد؛ أي أن القيادة الحالية هي التي عليها أن تقدم نقدا ذاتيا؛ أما هم، فهم، في نظرهم، ملائكة يحرصون تاريخ الحزب وخطه السياسي والنضالي من التحريف والتخريب ويحمون الديمقراطية الداخلية من التزوير، وغير ذلك الكلام الغليظ…الذي يسيئ إلى أصحابه أكثر مما يسيئ إلى القيادة. وأود أن أشير، فيما يخص مطلب النقد الذاتي الذي يطرحه البعض كشرط لقبول مبدأ المصالحة، إلى استحالة تحقيق هذا الشرط لسبب بسيط لأنه، بالطريقة التي يطرح بها، فهو شرط غير منطقي وغير موضوعي. لنتساءل، في سياقنا الحالي: من عليه أن يقدم النقد الذاتي؟ الاتحادي (والاتحادية) الذي بقي وفيا لحزبه وواصل العمل في صفوه رغم كل الظروف أم الذي (والتي)، لسبب تنظيمي أو سياسي أو شخصي حتى، ترك حزبه وراح يبحث له عن موقع آخر، ما لم يكن من الذين أخذوا المعاول وشرعوا في تقويض البنيان على من فيه؟ يقول على الغنبوي: "تبني المصالحة داخل الاتحاد، لا يجب أن يغرق في منطق الحساب و ‘شكون اللي مسؤول على الوضع'، لأن الحزب إذا فتح هذا النقاش، ربما لن يستطيع حصر لائحة المسؤولين على ما وقع داخل ردهاته طيلة عقود من الزمن، فالمصالحة لا تعني انهزام طرف وفوز آخر، بل المصالحة هي إقرار جماعي بضرورة القطع مع ثقافة الحسم التنظيمي وشيطنة الآخر، وأن تكون هذه المصالحة متوجهة بشكل أساسي و حصري إلى المستقبل، وأن تجعل التراكمات الحزبية السلبية خلف ظهرها". أود أن أعزز هذا الطرح بمثالين يبرزان استحالة نجاح النقد الذاتي في وضعنا الحالي. المثال الأول أسوقه من لقاء مع أخ لنا بمدينة مكناس، شاركنا معا لحظات ومحطات تنظيمية (في الحزب وفي النقابة) وسياسية، اتفقنا في بعضها واختلفنا في أخرى. وفي العشرية الأخيرة، افترقت بيننا السبل. بعد نداء المصالحة، وفي خضم التحضير للذكرى الستين للحزب، جلسنا مع هذا الأخ، أنا وأحد الأصدقاء، في أحد مقاهي مدينة مكناس. وخلال هذا اللقاء، استعرضنا، بكل أخوة، شريط الأحداث، فاكتشفنا أننا أسائنا إلى بعضنا البعض، ويستحيل، لو أردنا أن نحاسب بعضنا، أن نخرج بنتيجة. فكلنا أخطأنا في حق بعضنا؛ ولا أحد يمكن أن يزعم أنه بريء مما حدث. المثال الثاني، حكاه لي أحد الأصدقاء على لسان الأخ الكاتب الأول أثناء زيارته للأخ محمد اليازغي. فعندما فاتح الكاتب الأول القائد الاتحادي الأسبق حول موضوع المصالحة، بادره هذا الأخير بمطلب تقديم النقد الذاتي قبل الحديث عن المصالحة، فأجابه الكاتب الأول بسيل من الأسئلة: في أي شيء علي أن أقدم نقدا ذاتيا؟ هل في المجهود الذي بذلته لإحياء التنظيم الحزبي؟ أم في استرجاع المملكات الحزبية من الأشخاص وتسجيلها في اسم الحزب؟ أم علي أن أقدم النقد الذاتي على إخراج الحزب من الوضعية التي كان يتجه فيها إلى الانتحار الجماعي؟… أليس من الضروري أن يأتي النقد الذاتي منك أولا كقائد سابق؟ أليس لك دور أساسي في سلبيات الوضع الحالي؟… خلاصة القول، المصالحة انطلقت باستجابة عدد كبير من أطر ومناضلي الحزب الذين يثقون في المستقبل؛ والباب لا يزال مفتوحا أمام الجميع، إلا من أبى . فالحزب، كالوطن، غفور رحيم. وهو يسع الجميع. ولا ننس أن المصالحة أُقرنت بالانفتاح. وقد ظهرت، في هذا الباب، مؤشرات مشجعة جدا. فلا يعتقِدَنَّ أحد أن القافلة لن تسير بدونه أو أن بإمكانه أن يوقف تقدمها.