احتفت أوساط اعلامية ومدنية بدخول "ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة"، حيز التنفيذ بداية الأسبوع الجاري، في أعقاب نشر الأمانة العامة للحكومة، لبنود هذا الميثاق المصادق عليه في مارس الماضي من لدن المجلس الوطني للصحافة الذى اعتبر ذلك" ثمرة لتراكم وطني ولبنة أساسية من لبنات التنظيم الذاتي للمهنة". وإذا كان من بالغ الأهمية في هذا الظرف الدقيق، التوفر على ميثاق لأخلاقيات الصحافة، من أجل "تعزيز الالتزام بقواعد أخلاقيات المهنة وتكريسها في السلوك اليومي للمهنيين، وتفعيلها داخل مختلف المؤسسات العاملة في القطاع"، فإن قضايا التخليق من جهة وضمان حرية الصحافة والاعلام من جهة أخرى يطرحان أسئلة متعددة بهدف الحفاظ على شرف المهنة وكرامة الصحفيين وحمايتهم أثناء تأدية واجبهم المهني والدفاع عن حق الجمهور في إعلام نزيه. وبالرجوع الى التجارب العالمية في هذا الصدد، فإن المنظمات الدولية منها منظمة الاممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، تؤكد على أنه لا يمكن تقييد حرية الصحافة مهما كانت مصداقية تنظيمات التقنين والتنظيم الذاتي، إلا في إطار قانون، وشريطة أن تكون هذه القيود ضرورية لإعمال مبادئ الحرية والديمقراطية والشفافية والحكامة، وضمان الحماية والكرامة الإنسانية عموما، وهو ما يعنى أنه لا يجب اللجوء الى خطاب أخلاقيات الصحافة واستخدامه، كحق يراد به باطل كما يقال. وبغض النظر عن مضامين ميثاق الأخلاقيات، فإن اقراره يأتي في سياق ما يشهده الفضاء العمومي من متغيرات عميقة حولت هذا الفضاء الى مجال عام إعلامي بامتياز بفضل التوسع الهائل في مجال تكنولوجيا الاعلام والاتصال، وهو ما مكن وسائل الاعلام من أن تمارس هيمنة شبه مطلقة على رؤيتنا وتمثلاتنا للعالم وهو ما أدى الى أن الاعلام بسط سيطرته التامة على مختلف مناحي الحياة، وأضحت أجندة العلاقات السائدة، لا تتم وفق التجربة الفردية، بل تتم انطلاقا من الرؤية التي تقدمها لنا وسائل الإعلام والاتصال جاهزة، على الرغم من أن العلاقة بين المنظومة الإعلامية ومنظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية علاقة متداخلة، باعتبار أن وسائل الإعلام التي تعد ناقلة لأنماط التفكير والمعرفة والقيم، يؤهلها لممارسة سلطة توجيه الرأي العام وتشكيله. فأخلاقيات الصحافة وإن كانت ترتبط بصفة عامة بمدى التزام وسائل الإعلام والصحفيين، بالضوابط المهنية في اطار البحث عن الحقيقة وتعميمها خدمة للجمهور وتتباين في تفاصيلها من بيئة إلى أخرى ومن هذه المؤسسة الإعلامية إلى تلك، غير أنها في المجمل، تتصل بإشكاليات واقع الممارسة الصحفية والإعلامية وبمستوى تشدد ومرونة القوانين والتشريعات والتنظيمات المعمول بها في هذا الشأن. غير أن سياقات ميلاد المجلس الوطني للصحافة، تأتى في ظل التراجع الملحوظ لآليات الفعل السياسي والمدني والمهني، والطلب المتزايد والمفرط لأطراف اللعبة السياسية محاولة منها التحكم في وسائل الإعلام ووضع اليد عليها بطريقة أو بأخرى لدورها الحاسم في تشكيل الرأي العام، عوض تسخيرها لتلبية حاجيات الرأي العام في الاخبار والتثقيف والترفيه وترسيخ قيم الديمقراطية والمواطنة واشاعة ثقافة حقوق الإنسان وحرية التعبير. غير أن التجربة المغربية، أطهرت على مر السنوات، أن هناك اختلافات عميقة وتباينات في وجهات النظر في عملية توصيف الإشكاليات التي تثيرها قضية أخلاقيات الصحافة التي من الملاحظ أنه يتم استحضارها والاسترشاد بمبادئها في لحظات التوترات، ليس فقط داخل أوساط الصحفيين المهنيين والاعلاميين، ولكن بالنسبة لكافة المتدخلين والفاعلين من دولة وحكومة وهيئات سياسية ونقابية ومجتمع مدني ورأي عام. كما يزداد هذا التباين استفحالا في ظل التراجع الملحوظ الأداء المهني ومنسوب الاستقلالية وضعف التكوين، مما يسهم في تنامى " صحافة الاثارة" المختصة في اختلاق الأخبار، وإطلاق الإشاعات والأخبار الزائفة، والتحريض والنهش في الأعراض والاساءة للحياة الشخصية للأفراد من مواقع مختلفة، مع اعتماد أساليب الابتزاز والترهيب والتسابق المحموم على ابتكار "لغة سوقية مبتذلة"، ليتحول الاعلام بهذه الممارسات، لدى الرأي العام الى مجرد " اعلام اكشواني" حسب ما سعيد بنيس الأستاذ الباحث في السوسيولوجيا بجامعة محمد الخامس بالرباط في مداخلة بندوة " الحركات الاحتجاجية بالفضاء المغاربي" التي نظمها مؤخرا المركز المغاربي للدراسات والابحاث في الاعلام والاتصال بمشاركة عدد من الاعلامين والمختصين. إن هذا الأمر قد جعل هذا النوع من "اللا اعلام" في حقيقة الأمر إرهابا فكريا جديدا أسلحته الفتاكة المتطورة، هي شتم الأعراض والقذف والتشويه والضغط النفسي، وهي ممارسات لا تختلف في مضمونها، عما كان يمارس في مخافر الشرطة وأقبية التعذيب في سنوات الرصاص. إن مسؤولية معالجة اشكاليات أخلاقيات الصحافة، لا يمكن أن يتحملها الصحفيون والمجلس بميثاقه، وبقوانين مغلظة زجرية، وإنما هي مسؤولية مجتمعية مشتركة، اتطلب نهج مقاربة تشاركية وأدوات علمية، لرصد الاختلالات المهنية وللتصدي للانتهاكات التي تطال أخلاقيات الصحافة وحرية التعبير لجهة تمنيع الجسم الصحفي وتحصين الأداء المهني. فهل يا ترى سيتمكن المجلس الوطني للصحافة – بعد التراكم الحاصل في مجال التخليق وسباق المسافات الطويلة التي قطعها قبل إحداثه، من تحقيق تلك النقلة النوعية المطلوبة في مجال التقنين الذاتي والتخليق ومعه تفعيل مبادئ هذا الميثاق؟، وهذا يقتضى – حسب ما تعهد به المجلس في بلاغه الأخير- اطلاق نقاش عمومي وبرامج وحملات تحسيسية، وملتقيات دراسية وندوات مهنية، وانفتاح أكبر على مختلف أجيال الصحافيين والناشرين والفاعلين في ميادين الصحافة والإعلام والتواصل لتفعيل بنوده، احتراما للرسالة النبيلة لمهنة الصحافة، ولمسؤوليته الاجتماعية في اتجاه ما تعهد به ليس فقط الارتقاء بمستوى الصحافة، بل اعادة الثقة بالمهنة وبقدرات نسائها ورجالها على المحافظة على استقلاليتها وتأهيلها. تجدر الاشارة الى أن المجلس الوطني للصحافة تناط به عدة مهام منها التنظيم الذاتي للصحافة والنشر، وضمان ممارسة مهنة الصحافة واحترام أخلاقياتها، ومنح بطاقة الصحافة، والقيام بالوساطة في النزاعات، وبالتأديب، وإبداء الرأي في شأن مشاريع القوانين والمراسيم المتعلقة بالمهنة. ويتألف المجلس من 21 عضواً، منهم 7 أعضاء ينتخبهم الصحافيون المهنيون بينهم، ومثل نفس العدد ينتخبهم ناشرو الصحف من بينهم، و 7 أعضاء يمثلون كلا من المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والمجلس الوطني الحقوق الإنسان، والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وجمعية هيئات المحامين بالمغرب، واتحاد كتاب المغرب، وناشر سابق تعينه هيئة الناشرين الأكثر تمثيلية، وصحافي شرفي تعينه نقابة الصحافيين الأكثر تمثيلية. مدير المركز المغاربي للدراسات والأبحاث في الاعلام والاتصال