بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    التنويه بإقالة المدرب العامري من العارضة الفنية للمغرب التطواني    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    مباراة الزمامرة والوداد بدون جماهير    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة الشعبيّة الشفاهيّة وأبعَادُها الكونيَّة
نشر في لكم يوم 04 - 05 - 2019

على هامش الملتقى الدّولي لمنتدى"الشّباب والاعلام" بمدينة السّمارة حول الأدب الشعبي
لكلّ أمة عادات، وتقاليد، وموروثات، ومأثورات، وطقوس، وأغانٍ شعبية، ورقص، وأهازيج وغيرها. ويطلق على هذه الأشكال الفنية جميعها إسم " الفولكلور" ، أطلقه فى القرن الثامن عشر العالم الإنجليزي " وليم جيمس توماس"،ولقد إستحبّ العلماء بعده هذا الإسم، فصار عِلماً تُعرف به كافة هذه الألوان المختلفة من الفنون الشعبية الشفاهية المتوارثة . وهذه الكلمة فى الأصل هي كلمة جرمانية قديمة تَعني معارف الشعب، أو مأثورات، أو موروثات الشعب ، وكلّ ما يصدر عن الشعب من غناء، ورقص، وأدب، وحِكم، وأمثال،وأزجال وغير ذلك، وبمعنى إجمالي هو روح الشعب النابضة، أو ضميره الحيّ الذي يعكس لنا أهواءَه ونوازعَه وإبداعاته على إختلاف طبقاته، وتباين شرائحه، و تعدّد فئاته وألوانه، والشعب هو صاحب هذا الذي نطلق عليه إجمالاً الفلكلور .
بداية الإهتمام بالمأثورات الشعبيّة
كانت بداية الإهتمام بهذا العِلم الجديد الذي يعالج الأدب الشعبي الشفاهي فى أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر فى كنف الثورة الصناعية الكبرى، حيث بدأت الدول تشعر بالقوميات ،والرّغبة فى الإنتماء ، بعد أن تفتّح الذهن البشري على الإكتشافات العلمية فى البحوث التاريخية، والأدبية ، والانثروبولوجية وغيرها، فإتّجهت من ثمّ إلى العناية بالمأثورات الشعبية بصفتها أحد مظاهر الشعوب، ومقوّماتها الأساسية ، التي كانت فى القديم تُرْوىَ وتتناقل متواترةً من جيل إلى آخر، إلى أن جاء عصر التدوين والتوثيق والدراسة والتعليق ، فزادت العناية بهذا العلم بعد إنحسار النفوذ الأجنبي، وبعد أن قلّت أهوال الحروب، وهدأت الفتن والقلاقل ، ولإتجاه الشعوب إلى البحث عن مقوّماتها الحضارية ، والتنقيب عن تراثها الشعبي ، والعناية به وإحيائه، كلّ ذلك كان له الأثر الكبير فى الاهتمام بهذا العلم.
ومن الطبيعي أن تقيم كل أمّة من الأمم مهرجانات وتظاهرات فولكلورية إحتفاءً بهذه الفنون الشعبية التي هي فى الواقع الصّورة الحيّة النابضة لروح شعبها، وأنعكاسٌ واضحٌ لما فى بواطنها من أهواء ،وغرائز، وطموح. كلّ هذه النفائس الشعبية تحتوي على تاريخ هذه الأمّة ومعتقداتها ، وتُعبّرخيرَ تعبير عن آمالها، وآلامها، حاضراً وماضياً ومستقبلاً،وكما هو معلوم لا حاضرَ ينشأ من فراغ أو عدم، بل لابدّ أن يقوم على دعائم وأسس ، والفولكلور أحدُ هذه الأسس والدعامات بدون شك، لأنه من الشعب وإليه ،وتربطه به صلات وثقىَ نابعة منه.
دراساتنا للفلكلور كشفت لنا النقاب عن حقائق تاريخية مُذهلة لم تكن فى الحسبان . فعلى سبيل المثال وليس الحصر، بعد العثور على ملحمة " غلغامش" البابلية الشهيرة القديمة إعتبرها الكاتب العراقي الرّاحل عبد الحق فاضل ثامنة أعاجيب العالم القديم لما فيها من دهاء فنّي عجيب ، ولما تتوفّر عليه من مضمون إنساني عميق ، من أشهر مترجميها "ساندرز" الإنجليزي، و" سبايزر" الأمريكي ، وطه باقر،ثمّ أخيراً عبد الحق فاضل ، وهي أوفى الترجمات الثلاث ، ولقد كشفت هذه الملحمة عن حقائق مثيرة لعالم ما بين الرّافدين فى العصر البابلي وأزاحت الحُجب عن كثير من الحقائق المجهولة ،والأسرارالمثيرة ، مثلما كان عليه الشأن مع سواها من الملاحم الشعبية والتراثية الأخرى فى مختلف أنحاء العالم التي تُؤؤّل تأويلاً رمزياً فتعطينا نماذجَ من صور الشعوب ،وأنماط حياتها، وعوائدها، ومعتقداتها، وعباداتها، وعلومها، ومعارفها ، وفنونها ،وخرافاتها ،ومعايشاتها فى القديم .
الفلكلور ليس رقصاً فقط !
ولا ينبغي أن يقتصر أو ينحصر دور الدّولة على الإحتفال بهذه الفنون ، وإقامة المهرجانات لها التي يغلب عليها الطابع السياحي المرتجل ، بل ينبغي ان تَرصُد لهذه الفنون، والموروثات فى الوقت ذاته إمكاناتٍ ماديةً وعلمية شتّى لتسليط الأضواء الكاشفة عليها، ودراستها، وتقييمها، والعمل على تطويرها وإنمائها.
يحفل المغرب بالعديد من المهرجانات الشعبية والفلكلورية على إمتداد رقعته الجغرافية المترامية الأطراف ، حيث تُقدّم على امتداد الحوْل لوحات رائعة تعكس هذه الفنون الإبداعية الفطرية والفنية على إختلافها، وتنوّعها، وتعدّدها بشكل جليٍّ غنىٍّ ثريٍّ ومتنوّع، هذا التراث الزّاخر يكس بدوره مدى عراقة شعبنا وتعدّد إثنيياته وأجناسه ، ينبغي أن لا تظلّ هذه الفِرَق الفلكلورية فرقاً قائمة هائمةً على وجهها تعتمد على إجتهادها الشخصي وحسب، بل ينبغي أن توفّر لها جميع إمكانيات، وفرص التطوّر، والرّعاية والعناية والتشجيع ، كما ينبغي أن توفّر لها وسائل التدريب والمران والممارسة والإحترافية ، وأخذها على مناهج الدراسات الأكاديمية الحديثة فى الحركة، والإيقاع، والصّوت، والتجديد ، وتلقين هذه الفِرَق مختلف أنواع الفنون الموسيقية، و ضروب الألحان، وأصول الأنغام والإيقاع. و لا يجب حصر نشاطاتها داخل بلادنا فقط، بل علينا أن نختار أجودَها ، ونُعنيَ بها حتى تكون سفيرتنا فى الإبداع الشعبي الخلاّق فى الخارج،لتشاركَ فى مختلف اللقاءات، والمهرجانات، والتظاهرات الفولكلورية والفنية فى العديد من بلدان العالم.على غرار الفرق الفنية والشعبية العالمية الأخرى التي تمثّل مختلف دول وأمم وشعوب المعمور . العناية بهذا التراث الثريّ ولتعريف به، والمحافظة عليه، ونشره ، وإستمرارية إشعاعه، وتألّقه أمر لا مندوحة لنا عنه .
وممّا لا ريب فيه أنّ الفلكلور المغاربي والعربي بشكلٍ عام زاخر بالمواهب ، حافل بالأصالة ، ولكنه يحتاج إلى توجيه سديد، وهو مطالب بالتجديد ( إذا تكلّمنا عن الرّقص والغناء الشعبييْن بصفة عامة) فهذان اللونان محتاجان إلى مزيد من التجديد، والتطوّر ، خاصّة وأنهما يعتمدان فى الغالب على النغمات والإيقاعات المتكرّرة والمتواترة والمكرّرة، أو يقوم على الإيقعات المتشابهة المعهودة، عكس أداء العديد من الفرق الشعبية العالمية الأخرى من مختلف بقاع وأصقاع المعمور، التي تتعدّد وتتنوّع فيها النغمات ،وتتلوّن الإيقاعات لتفادي التكرار والرتابة ، فالتطوّر، والتنوّع، والتجديد،والابداع ، كلّ هذه العناصر والمُستجدّات لا مناصَ لنا عنها إذا أردنا لفنوننا الشعبية أن ترقى إلى منازل الفلكلور العالمي المنظم ،الذي يسمو فوق الذوق، والرّوعة ، والإعجاب ، والإنبهار. وما النجاح الذي أحرزته بعض فرقنا الغنائية الشعبية والفلكلورية المعاصرة الجيّدة إلاّ إنعكاس لهذا التطوّر الملحوظ فى التنغّم، والأداء، والحرص على الإبتكار، وتفادي التكرار والرتابة ، مع الحفاظ على روح المضمون الذي يقف على أرضية خصبة من التراث، والذي ينطلق ويستقي مادته الأولى ،وعناصرَه الاساسية من ضمير الشعب ، ونبض الجماهير ، ومعاناتها، وآمالها، وآلامها، ونضالاتها، وطموحاتها وتطلعاتها.
ثراء الفلكلور وتنوّعه
لهذه الأسباب وسواها نرجو أن يولي القائمون على هذه التظاهرات والمهرجانات الشعبية، والفنون الفلكلورية التي تقام فى تواريخ متباعدة فى مختلف المدن، والحواضر،المناطق المغربية حقها من الدّراسة والتمعّن، والتمحيص، والتحليل، مع العناية، والإهتمام بباقي المأثورات الشعبية الأخرى التي تدخل فى صلب الفولكلور بمعناه الواسع، وذلك بتنظيم أيام دراسية، وإقامة طاولات مستديرة ، وإلقاء محاضرات ، وعقد ندوات ، مثل ندوتنا العتيدة هذه التي نتشرّف بحظوة المشاركة فيها، وحلقات دراسية، وميدانية جادّة، وأكاديمية متخصّصة يَستقصي فيها ومن خلالها المهتمّون والمتخصّصون هذا التراث الحضاري الثريّ بقيَمِه الجمالية والفنية، التي تزخر بها فنوننا الشعبية المتنوّعة الأصيلة.
من بَدائه الأمور أنّ الأدب الشفاهي المتوارث مصطلح إستعاره المثقفون للدلالة على مفهوم الكلمة الغربية فولكلور وذلك بهدف تعريف وتحديد مفهوم الأدب الشعبي بمعناه الواسع، وهو أدب الشعب العاميّ التقليديّ الشّفاهيّ الذي غالباً ما يكون مجهولَ المؤلف ، وهو أدب متواتر،ومتناقل شفويّاً ،ومتوارث حِفظاً جيلاً بعد جيل. ومعروف أنّ هذا الصّنف من الأدب يُعبِّر عن أشكال ابداعية، وأنماط تعبيرية تقليدية من أساطير، وحكايات خرافية ، وقصص مروية، وأمثال مأثورة، وحِكم وأقوال مشهورة، فضلاً عن الأغاني، والنكت، والمستملحات ، والطرائف، والسّير، وسواها من أشكال التعابير المتوارثة التي تقوم فى الغالب على الرواية الشفوية إلأّ انها أصبحت فيما بعد تُكتب وتُدوّن وتُنقل عبر الذاكرة والمرويات اللسنيّة عن ظهر قلب من جيل إلى جيل. ويُعتبرالأدب الشعبي فى العمق من الظواهر الاجتماعية الابداعية التي تفصح عن أحاسيس مكنونة، فى الضمير الشّعبيّ، كما أنها تعبّر عن مشاعر ، وإفصاحات وإجهاشات ، وحاجات الناس ورغباتهم، وطموحاتهم ،وأهوائهم،وتطلّعاتهم،وشكاويهم،ومعاناتهم ،وتَوْقِهم للمعرفة ،ونشر الثقافة، وعناقِهِم للحرية والانعتاق .
الأدب الشعبي .. سجلٌّ للوقائع والأحداث
يضطلع الأدب الشّعبي بدور هام في دراسة التطوّرات التي تطرأ على الحياة الذهنية،والفكرية، والروحية لأجدادنا الميامين وتسجيل الوقائع والأحداث والمستجدات فى التاريخ البشري الإجتماعي فى مراحله الأولى البعيدة الضاربة فى القدم، ،والادب الشعبي فى الوقت الذي يعتمد أساساً على المرويات وسبر الخيال المجنّح يتضمّن رسائل ورموزاً وأبعاداً كونية عميقة الغور بتعرّضه للخرافات، والأساطير،والخوارق، والملاحم،والأخبار، والأحداث التي سجلها التاريخ ودوّنها ذهنياً وعن ظهر قلب أجداد البشرية فى ماضيهم السحيق فى مختلف أنحاء المعمور. فضلاً عن رواية المعتقدات الدينية القديمة فى مختلف أشكالها من تضحيات ، وقرابين وكانت غالباً ما تتخلل هذه الطقوس أهازيج الغناء ،والصّياح، والزّغاريد ، والرّقص، والسّحر،والشّعر، ولبس الأقنعة،والتحصّن بالأدرع الواقية، وتمثيل الأحداث، وتجسيم الوقائع بطرق بدائية، سحرية، فطرية، عفوية بسيطة. ولقد سجل لنا الأدب الشعبي الشفاهي المتوارث صراعات الإنسان البدائي مع أمّه الأولى الطبيعة،ووصف لنا الخوارق المفزعة، والأهوال المُرعبة ،والأحداث الرّهيبة التي تعرّض لها الانسان البدائي الأوّل وكيف واجه بضراوة الزوابع، والتوابع،والعواصف، والأعاصير، والزلازل، والطوفانات ،والبراكن، ومختلف أنواع القوى الغيبية، والتغييرات الطبيعيّة من كسوف وخسوف، وتبدل الليل والنهار، و تعاقب النور والظلام،وهطول الأمطار الطوفانية الغزيرة، والفيضانات المُدمّرة التي تأتي على الأخضر واليابس .
التراث الشعبي والرّواة
يقول الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام": " إن رواة القُصص كانوا يستمدون مادة قصصهم من الأساطير والخرافات السائرة المتنقلة بين الأمم، ومن الأخبار والأحاديث الخرافية والتاريخية المأثورة، عن العرب وعمّن جاورهم. وعلى الرغم من أننا لا نملك أصول هذه القصص، فإن اللغويين والرواة في العصر العباسي، دوّنوا ما انتهى إليهم منها،ولبعض قصص العرب عندهم أصول تاريخية، لكنها لم تحافظ على نقاوتها، بل غلب عليها الخيال والأسطورة. ولبعض القصص أصول أعجمية، دخلت إلى المجتمع العربي من منابع خارجية يونانية وفارسية ونصرانية". وأوضح د. طقوش:" أن أكثر ما كان يتناقله العرب الجاهليون على ألسنتهم، أيامهم وحروبهم وانتصارات أبطالهم، وما مُنيت به بعض قبائلهم من هزائم، بالإضافة إلى قصص عن ملوك المناذرة والغساسنة والحميريين. وكانت هذه القصص تخالف الواقع التاريخي أحياناً، ولا تتفق مع وثائق التاريخ الروماني"، ومعروف أن هذه القصص والحكايات وصلتنا عن طريق التراث الشعب الشفاهي المروي أيّ أنها وصلتنا عن طريق الرواة ، إذ يخبرنا التاريخ أنه كان هناك رواة متخصّصون فى حفظ الشعر فى المرحلة الزمنية التي تُسمّى بالجاهلية ،من قبيل خلف الأحمر،وحمّاد الراوية وسواهما من الرواة الكبار الذين حظوا بشهرة واسعة ممّن يسمّون "حملة التراث الشعبي الشفوي"، وقد جعل الجاهليون الرواية مطيّةً لحفظ أشعارهم،ومعلّقاتهم، هذا التراث غالباً ما يكون أصحابه مجهولين مثل الحكايات، والحِكم، والأمثال، والأقوال المأثورة ،والأحاجي، والألغاز، في حين هناك مرويات يبقى أصحابها معروفين مثل (نصوص الشعر) على سبيل المثال.
ويرى الدارسون أنه ليس كلّ ما يُكتب بالفصحى يعتبر أدبا رسميا فهناك كثير من الآثار الأدبية المشهورة رويت بالفصحى البسيطة وهي مع ذلك يتمّ تصنيفها في الآداب الشفوية أو الشعبية وأشهرها فى هذا المجال ألف ليلة وليلة والسير العربية القديمة .ويرى البعض الآخر:" أنه ليس كلّ ما يكتب بالعامية يعد أدبا شعبيا، ذلك أن ما يكتبه المثقفون من مسرحيات وروايات وشعر الغناء بالعامية التي لا ينضوي تحت الأدب الشعبي. وهو التراث التلقائي الشفاهي المتوارث، جيلاً بعد جيل المرتبط بالعادات،والأعراف، والتقاليد".
ولقد أسهم الرّواة في نقل التراث العربي الشعبي العريق ، وكان القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف يتمّ روايتهما فى البداية شفاهياً، و معروف انّ التراث العربي وصلنا عن طريق الرواية قبل أن تظهر أو تتوفّر وسائل الطباعة والنشروالتدوين. ومعروف أن الشعر الجاهلي القديم ظلّ غير مكتوب نحو قرنين من الزمان وظل الرواة يتناقله شفاهيّاً ممّا جعل منه عرضةً للخطأ، والتحريف، والتغيير ومع ذلك فهو يندرج ضمن الأدب الرسمي، حتى وأن كان أدبا مروياً ومسموعا بالتواتر .
وقد توارث الأجيال الأدب الشعبي من من أفواه الشيوخ،واصحاب الحلقات في الساحات العمومية أو من فم المداحين وهم المغنيون في الأسواق حيث يتم ترسيخه في الذاكرة البشرية الجماعية ،واشهر هذه الساحات الكبرى عندنا ساحة " جامع الفنا" بمراكش التي أصبحت تراثاً ثقافياً انسانياً لا ماديّاً معترفاً به من طرف منظمة اليونسكو العالمية . الإنتاج الشفاهي يمكن أن يتحول إلى انتاج مكتوب والعكس صحيح وللدلالة على هذه العلاقة الموضوعية بين الادب الشفاهي الشعبي بعض الأعمال الشعبية الشهيرة كالحكايات والأغاني والسّير التي انتقلت من مرحلة الأدب الشفاهي إلى مرحلة الأدب المكتوب نذكر سيرة عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي،والظاهر بيبرس، والأميرة ذات الهمة. وسواها من الحكايات.
الأدب الشعبي الشفاهي ينتمي للماضي البعيد ومع مرور الزمن يطرأ عليه التغيير والتبديل والتحريف ، له احتكاك مباشر بالواقع الذي عاش فى كنفه وانبثق منه، وهو يعبّر عن الوعي الفردي والجماعي للشعوب، وهو ينتقل من جيل إلى جيل شكلاً ومضموناً ، وهو محمّل بمبادي وقيم وحكم وفلسفة الأقدمين الموغلة في الأزمان السّحيقة ، وهو يرسخ فى الذاكرة الجماعية المشتركة كتابةً وتدويناً، وحفظاً شفويّاً. والشعوب هي التي تصنع وترصّع النصوص التي تعكس وجدان مختلف شرائح المجتمع.
الأدب الحَسّاني ومَحَاسِنُه
يعتبر "الأدب الشفوي" بشكل عام مكوناً أساسيًا لثقافة الأمم ويتمّ تناقله عبر الكلمة المنطوقة أوالمروية أو المُغناة . فالمجتمعات القديمة لم تكن تمتلك أدباً مكتوباً حينها إلاّ أنه كان لها تراث شفهي متوارث من قبيل الأساطير، والحكايات والملاحم الشعبية، والفولكلور بشتى ضروبه، والأمثال والأغاني الشعبية. فى هذا السياق يندرج الأدب الحسّاني كغرَضٍ من أغراض الإبداع، وكعِلمٍ قائمٍ الذات، من حيث موسيقاه الصادحة، وشعره العميق، وألحانه الرخيمة التي تعبّر عن روح سائر شرائح السكان فى أقاصي جنوب المغرب وضواحيه وأرباضه ،ويؤكد الدارسون لهذا الفن الإبداعي الشعبي المتوارث أننا واجدون فيه مقوماتٍ موضوعيةً وقواعدَ وضعية ومنهجية ونظرياتٍ دقيقة، وليس مجرد مقطوعات فنية جمالية شعراً، ولحناً ،وصوتاً ،وإيقاعاً،وبلاغةً، ومضمونا..فالشعر الحسّاني كما هو معروف له بُحوره ،وعَرُوضه، وقواعده ، ولهذه البحور مُحسّناتها البديعية، و مَحاسنها اللفظية، وأبعادها المعنوية الموفية والموحية التي تزيدها رونقاً وجمالاً، مثله فى ذلك مثل الشعر العربي المُقفىَّ الأصيل.وللشعر الحسّاني خصائص ومميزات تاريخية،واجتماعية وسواها ، ولاستيعاب الموضوع من طرف المتلقي يُفترض أن يكون من مشارب ثقافية معينة،وعلى مستويات عليا من النضج، أمام هذا الزّخم الشعبي الابداعي الزّاخر فانه من الضروري للمتتبعين لهذا الجانب الثقافي الهام الحفاظ على قيم التراث الشفوي على اختلاف مشاربه، وضروبه وأنواعه باعتباره تراثاً حيّاً وشكلاً من أشكال التعبيرالشفاهي فى مختلف المناطق والأصقاع .
الأخَوَان جْرِيمْ
من الحكايات ذات المسحة الرومانسية التي اشتهرت فى العصر الحديث فى المانيا على وجه الخصوص كمثال لما نقول قصص الأخَوَان" غْرِيم" جاكوب، وويلهيلم اللذان طفقا فى كتابة هذه القصص عام 1806،كانا يتردّدان على النساء الطاعنات فى السنّ،والبايعات المتجوّلات، والجنود، والفلاّحين، ويرتادان الأسواق العامّة لمدينة كاسل ومواخيرها لجمع القصص والحكايات الشعبية الشفوية المتوارثة ،هذه الحكايات العجيبة رأت النور عام 1814 بمساعدة بعض أسر النبلاء ، وراوية القصص الشهيرة بائعة الخضر" دوروثي فيهمان" التي كانت تبهرالأخوين غريم إذ كان فى مقدورها أن تتلو قصصهما بنفس الكلمات حفظاً عن ظهر قلب، وبدأت شهرتهما تنتشر إنتشارالنار فى الهشيم . وكانت الغاية من وضعهما لهذه القصص هي الغوص فى أعماق الجذور الجرمانية القديمة، والتطلّع نحو هويّة ألمانية وطنية موحّدة، ورسالتها هي بسط العدالة ،وتعميق القيم والترهيب ، هذه القصص منتشرة بصيغ متباينة فى مختلف الأصقاع الأوربية-الأسيوية، بل إنّ لها صيغاً أخرى فى مختلف بلدان العالم فهي تنتقل من بلد إلى آخر مع الرحّالة والتجار والبحّارة والمحاربين والمسافرين . وهكذا أصبح الكبار والصغار فى مختلف أنحاء المعمور يعرفون السّندريلاّ، وبيضاء الثلج،والحسناء النائمة إلخ. وأصبحت الحكايات التي كانت الجدات ترويها لاحفادهنّ قبيل الخلود الى النوم تحتلّ حيّزاً مهمّاً فى مختلف بلدان العالم.
وتحظى القصص والحكايات المستوحاة من التراث العربي الزاخر مثل " ألف ليلة وليلة " باهتمام القرّاء فى مختلف أنحاء المعمور مثل " مصباح علاء الدين" الذي أصبح عندهم " ألادينو " ، و" صلاح الدّين" الذي أصبح عندهم " صلادينو"،أو " علي بابا وأربعون حرامي"،أو قصص مستوحاة من " كليلة ودمنة" لعبد الله ابن المقفّع وسواها ، كلّ هذه العناوين أو ما هو مقتبس أو مستوحىً أو مستعار منها ، لا نجدها فى الكتب وحسب فى حلل قشيبة رائعة، بل إنّنا نجدها كذلك على الشاشة الكبيرة والتلفزيون ، وما فتئت هذه الأعمال تستحوذ على قلوب الصّغار والكبارعلى حدّ سواء وتُسحِر ألبابهم ،وتنتقل من لسان إلى آخر.
إشكالية الثابت والمتحوّل
وتواجهنا فى الأدب الشفاهي الشعبي إشكالية الثابت والمتحوّل، أو الأثيل والدخيل وهو موضوع سال من أجله مداد غزير، فهناك من يتشبّث بالأصول لا يرضى بها أو لها بديلاً تحت ذريعة حفظ الهويّة والجذور، وهناك من يعانق كلّ جديدٍ وافدٍ كَسِمَةٍ من سمات الإنفتاح، والتطوّر ،والتحديث ،والعصرنة، وهناك من يحاول الجمع ،أو التقريب بين هاذين التيارين الذين يبدوان للوهلة الأولى وكأنّهما يقومان على طرفيْ نقيض. وينطبق هذا على مختلف مجالات الفكر، والثقافة، والآداب،والعلوم ،والشعر، والشريعة، والتاريخ .فالثابت معناه الرّسخ أوالرّاسخ ،ومعناه الديمومة، والإستمرارية، ،والبقاء وأمّا المتحوّل ، أو المتحرّك ،أو المتنقّل فمعناه التبدّل،أو التغيّر.. ويؤكّد الناقدان الإنجليزيان " ريتشاردز و أوغدن" فى كتابيْهما المعروف " فى معنى المعنى" أنّ الأدب (مخلوق حيّ يدبّ على قدمين) وهو ليس جامداً، أو هامداً بل إنه فى تبدّل وتطوّر دائميْن ،وهو فى نموّ مطّرد، وتغيّر متواصل . وإلقاء نظرة على تاريخنا وثقافتنا ولغتنا فى مختلف العصور يؤكّد لنا مصداق هذا القول. فالإنفتاح الذي طبع ثقافتنا هوالذي كفل لها الغِنىَ والثراء، والتنوّع والتعدّدية، وبشكلٍ خاص التطوّر والإستمرارية اللذين تتميّز بهما اليوم متشبّثة بماضيها التليد .
*كاتب وباحث من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.