قد يقول قائل ماذا ترك أجداد عاشوا حياة متواضعة بين ضنك العيش و قساوة الطبيعة لجيل اليوم، جيل التواصل بامتياز، غير بضعة أمثال وقصص أسطورية. وهو تساؤل يجب أخذه محمل الجد بالنظر إلى عزوف الشباب عن كل ما هو تراث و التهميش الذي لحق الأدب الشعبي ببلادنا و التقزيم الذي جعل حضوره رهين بعض المهرجانات الهجينة والتي تدرجه ضمن أجنداتها من باب التنويع فقط أو تحت ذريعة رغبة الجمهور، لا غير ، لاختتام حفلات تتبنى فلسفة الافتتاح بالأهم و الختم "باش جاب لله". لقد تم تغييب البعد الثقافي في الفلكلور الشعبي ببلادنا على حساب الرقص و الموسيقى. فلا أحد منا عاد يستمع و يتذوق الكلمات لقد غلبت الصورة والحركة على كل ما هو فني. فبدأنا نسمع بالحنين إلى الزمن الجميل والمقصود به الماضي، و كأن الزمن انتهى بنا إلى ما نحن عليه و انقضى معه كل ما هو جميل. إن التراث الشفوي المتوارث عن الأجداد، والذي يندرج في إطار التراث اللامادي، يشكل ثقافتنا وجذورنا و هويتنا و ارتباطنا بهذا الوطن، فهو ذاكرة جماعية غنية بأشكال تعبيرية تعكس وجدان الشعوب في إطار اجتماعي و ثقافي يميز خصوصيات شعب عن آخر. كما أنه أدب شعبي بسيط و تلقائي يعكس اتجاهات الناس و اهتماماتهم ومستوياتهم الحضارية، و هو أيضا عريق متجذر في الذاكرة الشعبية يتجلى في أشكال أدبية مختلفة كالموسيقى و أغاني المناسبات والأزجال والأمثال والحكايات، وغيرها من الفنون الشعبية الأصيلة التي تعتبر بمثابة وثيقة تاريخية لذاكرة كل منطقة. إذا كان التراث المادي ( مآثر، أطلال...) يرسم البعد المكاني للإنسان، فإن التراث اللامادي (تاري، أدب، موروث ثقافي... ) يرسم بعده الزماني. لقد فطن العالم مؤخراً إلى أن الرأس المال ليس فقط عبارة عن تكديس للأموال والشركات و الاستثمارات وإنما الرأس المال الحقيقي هو الإنسان الذي يمكِّن من الحصول على هذه الثروة و يضمن استمرارها، فأصبح القول "الرأسمال البشري"، لكن هذا الإنسان ليس مجرد آلة للإنتاج و الاستهلاك، بل ينبغي العمل على تنميته في بعده الاجتماعي والحضاري، وهذا لا يتاح إلا بالارتباط بالمقومات الحضارية و الثقافية. فلا تنمية بالقطيعة مع الهوية و إرث الأجداد. يتميز الأدب الشعبي ببلادنا بمجموعة من الخصائص أهمها: التنوع من حيث الشكل (رقص، زجل، أغناني، استعراض...) و كذا المضمون (غزل، ذم، فخر، احتفال، تربوي) ، كما أن هذا التنوع يرتبط بالمجال الجغرافي، فكل قبيلة تمتلك فلكلورا خاصا بها "ماركة مسجلة" يعكس خصوصياتها و ذاكرتها. الشفاهية، ينتقل الأدب الشعبي من جيل إلى جيل عبر الحكي المباشر، فهو في متناول الجميع دارساً كان أو أمياً، باللهجة العامية التي يتقنها الكل، و هو في الغالب يُنقل من الأجيال القديمة إلى الحديثة، مما يجعله محملاً بالحكمة و التجربة الاجتماعية و خبرة الحياة، إلا أن طابعه الشفوي يجعله صعب الدراسة و عرضة للإتلاف خصوصا في عصر العولمة و الإستيلاب الثقافي. الخاصية الثالثة للأدب الشعبي هي التلقائية، فالأدب الشعبي بعيد عن التكلف والتصنع و ينبني على الارتجال، فتلقائيته مرتبطة باللغة البسيطة التي يوظفها و بالمجال الجغرافي الذي يدور في فلكه إضافة إلى أنه انعكاس لثقافة معينة و تجارب حياتية ووضعيات يومية معيشة، كل هذا يجعله أقرب إلى محاورة روتينية بين صديقين. الأدب الشعبي بسيط من حيث اللغة، فهو في متناول الجميع ومن حيث التركيب، فلا بلاغة في الأدب الشعبي و لا قواعد تقيده و تكبح العنان لإبداعاته. يلعب الأدب الشعبي دورا مهما في المجتمع، فهو يضمن الخصوصية الثقافية للأفراد عن طريق توارث مجموعة من القيم و التجارب "الوظيفة التربوية" وكذا التماسك الاجتماعي، باعتبار أن الأدب الشعبي مهما اختلف في الشكل أو المجال الجغرافي فهو يتحد في الاعتزاز بمقومات الوطن كالدين و الوحدة الترابية... "الوظيفة الاجتماعية". إن الذي ينظر للأدب الشفوي بعين الحداثة قد يعتقد أن كل ما هو تراث فهو مرادف للتخلف، وأن كل ما هو فلكلور له جمهوره من الشيوخ والعجائز أكل عليه الدهر و شرب، لأنه لا يساير العصر و التطور. فإذا كان الغرب من يقود الركب الحضاري فكل ما يتبناه هو الصحيح صناعة و لغة و ثقافة و حتى قشورا. فمن مظاهر الاستلاب الحضاري أن نجد أبناءنا يعرفون جل الفنانين الغربيين و سيرهم و يحفظون أغانيهم التي قد تكون في بعض الأحيان أشبه بزمجرة الضباع و في المقابل يجهلون الكثير عن أدبنا الشعبي الذي يشكل تاريخنا و هويتنا. إن التكنولوجيا و وسائل التواصل المتسارعة قد تُعدِمُ البعد الإنساني في التواصل وتحوله من فاعل في العملية التواصلية إلى أداة تؤرخ لأدواتها السريعة التطور. فالموروث الثقافي المتواتر عن الأجداد عبر كل هذه السنين هو انتقال لمجموعة من الأنساق الاجتماعية و الثقافية و الحضارية لقبائل عاشت التواصل بكل حميميته بين أفرادها و مع بيئتها بطرق مباشرة دونما وساطة، تواصل ارتبط شديد الارتباط بالواقع اليومي وقوت العيش والعلاقات المتينة بين الأفراد. فإذا كان تواصل الأمس نقل لنا نحن جيل اليوم الحكمة والقيم، فإن تواصل اليوم مع تعدد آلياته وتشعبها وتطورها السريع يركز فقط على الوسيلة (أنترنيت، هاتف محمول، بلوتوت...) أكثر من الخطاب في ذاته، وهنا يطرح السؤال ماذا سنترك لجيل الغد؟ وهل سيتوقف التاريخ بحضرتنا، باعتبارنا لم نعد ننتج وإنما نستهلك فقط كل ما يعرض علينا فقط لأنه براق ؟ * باحث في التراث الشعبي