الباشا من الشخوص الآدمية والشخصيات الودودة في بلدتي ،اسمه الذي اشتُهر به، والمُدَون في أوراقه الحكومية هو: " عبد الحليم " ،وكان حقا حليما ذكيا نجيبا ،لم يحدث أن تعثر في مسيرته الدراسية رغم قساوة مسلك الطريق ووعورته نقطع السبيل جميعا راجلين بردا وحرا ،ريحا ونسيما ،غبارا ورملا ،...ينحدر الرجل من أسرة فقيرة كبُرت وشبت على " أحْرير" صباحا، يُعد من أمه ، "خالتي خيرة "،في الصباح الباكر، قبل أن يؤذن ويصيح ديك الصباح ،إعلانا بدنو الفجر،... تابع دراسته الجامعية بشعبة الحقوق ،ولم أدر سبب اختياره هذا المسلك، رغم أننا لم نتشبع بثقافة حقوقية، أو سمعنا عنها، بل تشبعنا بقيم وخلال رفيعة ،نتوارثها من الجنوب الأخلاقي المنسي ،لا الجنوب غير المنتج، كما يسميه الجاهلون الجاهلون، تعلمنا من أرضنا المُحجرة أدب السيرة، باحترام الكبير ،والعطف على الصغير، والتعاون والتوادد، وتعلمنا ألا نعلي من أصواتنا، لأن أنكر الأصوات هو صوت الحمير، كما جاء في الفرقان الحكيم ، ...قلت اختار مسلك الحقوق، وتفوق به وفيه ، وولج المدرسة الإدارية الحكومية، وتخرج منها قائدا، وتم تعيين بعيدا عن البلدة بمنطقة سوس العالمة، وبالضبط بأحواز تارودانت ،....انخرط بسهولة في سلك الوظيفة العمومية ،وأتقن العمل وأحسن استعمال الدمغة،.. ويمضي ويوقع أسفله ،وله أعوان من شيوخ ومقدمين ،ومخبرين بسطاء،ما شاء الله، ما شاء الله ،ابن البلدة "عبد الحليم"ا بن عمي ابراهيم صار قائدا ، يتواصل مع الساكنة بطريقة فريدة عجيبة ،وأصبح محبوبا مفضلا لدى كل الساكنة ، حسب رواية أمه لجاراتها ،رقية، وفْضيم، وعبيشة.
ارتقى عبد الحليم السلم الإداري، وأصبح باشا المنطقة ،أصبح أيضا أنيقا وظهرت النعمة عليه ، وجهه لم تعد فيه تلك الكظة، التي عهدناها فيه ،ولم يعد لونه مائلا الى السواد ،بل البياض فيه ظاهر واضح ، أسنانه المفلجة، أصبحت مصففة مستقيمة ،وشعره الذي كان على الدوام منكوشا أصبح مسرحا لينا، أليست النعمة هي تلك ؟ ورغم التحول فهو ابن أصول، لم يقطع الصلة بالأصل ، مازال يحن لتراب الحقل وغريد الطيور، ورائحة التأبير والنخيل والتين والزيتون ،ورائحة روث الدواب التي نتقاسم معها البيت الطيني الكبير رأفة ،ومعاشرة ورحمة ، لم ينسَ أبدا أنه ابن جارنا الملقب ب "بوخبزة" حيث كان الأب المسكين الفقير في كل الولائم رغم بساطتها يحمل معه خبزته في " قُب" جلبابه ويحشوها بنصيبه من اللحم ولا يمسها، إلا باجتماع أفراخه الذين ينتظرون عودته وحتى لو تأخر كثيرا إذا أطال الفقهاء قراءة القرأن الكريم ،فإن الكل ينتظر الوليمة الصغيرة المتبقية من الوليمة الكبيرة ، ويجتمع الجميع على الحلو والمر ،والشديد المرارة ، ويقصد كل واحد فراشه دون تنظيف الأسنان.....
يزور عبد الحليم البلاد في كل عيد ديني ،وأحيانا دون انتظار مناسبات رسمية بل يحدث ويزور خلسة وإذا حدث ، فإن ذلك يحدث يوم الجمعة، عيد المؤمنين ليلتقي مع كبار أهل البلد من "إمْغارن" ،أما لقاؤه ب" تمغارين " فيكون من أجل العب ،بالدعاء الصالح الذي لا ينضب ، ويجري الحديث بباب البلدة أو "إمي نيغرم " بعد الانتهاء من الصلاة حول بعض المطالب البسيطة: كترميم بعض الأبراج ،أو تفريش المسجد استعدادا لعيد الأضحى، أوحفر ساقية أو تغريق حفر بئر المسجد أو كنس رحبة التجمع... الكل يقترب من عبد الحليم ،ليشم رائحة عطره النفيس، ومس جلبابه المراكشي الأنيق ،وما يثير فضل الواقفين والجالسين، والمقردين والمقرفصين ،و"المُكَرفصين " والمراهقين والشباب هو لون "صباط الباشا،" البني اللامع الرقيق الجلد ،الذي لا تكاد تسمع لمشيه وسواسا إذا انصرف، حذاء يثير الدهشة والإعجاب في منطقة ينتعل فيها جميع الناس، نعال من نوع "هارون" أو ميشلان ذات الصنع المحلي التي تدوم وتدوم وبها يتطاير الحجر أثناء المسير في الطرقات ....
دخل الباشا عبد الحليم لأداء صلاة الجمعة ترقبه القاصر، "علي أعَلْبون " المتفقه في الشيطنة والسطو على أدوات أصدقائه، أتقن المراقبة جيدا، خبِر المكان تحسبا وتوجسا وترقبا ، نظر ذات اليمين و ذات اليسار، لا أحد هدوء في هدوء ،صمت مرعب ،مخيف ،الدرب فارغ، إلا من بعض القطط التي شمت رائحة الكسكس، الذي جاد به أحد المتطوعين، وغطاه بخرقة بيضاء ينتظر انتهاء المصلين.... نصب علي ،على الباشا، فسرق الحذاء وخبأه بعناية فائقة بينه وبين سرواله ،وأرخى عليه الجلباب وأطلق ساقيه للريح نحو بيت أبيه الإسكافي الفقير" المَبْلي " بتدخين القنب الهندي ( الكيف)، وصل أعلبون للبيت خبأ الحذاء بإحكام ب "أحانو نواليم" في كيس بلاستيكي أسود وغلفه بقطعة من كيس للزرع أزرق اللون ،ولفه من جديد حتى لا يظهر أويشم منه أحد رائحة سنبلة القنب الهندي التي سرقها من أبيه ،وليُحفظ من قضقضة الفئران ذات الحجم الكبير والتي تطوف المكان متأنية متراخية بعضها حامل، وبعضها يبحث عن اللذة من أجل حمل جديد، ليستمر نسلها الأصيل ،وتحافظ على جودة عرقها ، وتتجول في المكان دون ردع أو إزعاج أو خوف أو لوم ،أو محاسبة من احتلال مِلك الغير ..،الحذاء الآن في أمان ،وينتظر المهاجر المعروف ب "امبارك ويشو " الذي يقايض السلعة البالية الخارجية بسلعة بالية تراثية محلية ،سواء أكانت خشبية أو نحاسية أو حجرية المهم أن تكون ناذرة ،ليحملها معه إلى إسبانيا ليبيع هذه التحف لهواة جمع القطع الناذر بثمن زهيد وكان" مَبْلي" أيضا بدوره بتدخين الكيف لذلك وضع "علي أعلبون" قطعة منه داخل الحذاء لتكون المقايضة غالية بحذاء كروي، يحمل ماركة مسجلة في السنة المقبلة أو بعض شهور قلائل لأنه يتقن اللعب في كل شيء حتى في كرة القدم ...
خرج الباشا من المسجد ولم يجد الحذاء وانقلبت الدنيا وشاع الخبر عبد الحليم سُرق حذاؤه وسار لبيته بنعل" مشلان" جاد به أحد المصلين عليه ، حيث نقصت هبته وعاد للبدء، فلو سُرق جلبابه لعاد الباشا، رجلا من رجال البلدة العاديين ، يا سبحان الله في رمشة من الزمن انتهت الهبة، فكم من رجل صنعه خياط عصري، وكم من رجل صنعه خياط تقليدي، وكم من رجل رجل لم يجد خياطه بعد ليصنعه ،هي الدنيا كذلك ....حز الأمر بعض الشيء في نفسية الباشا ،ففقد بعض الهبة، لكنه كتم غيظه وتأسف، على السلوك الدخيل، ولم يدرك بأن الحال وضعفه، قد يجرفان الصواب والسلوك القويم ، وقد امتعظ قليلا لأن الصباط هدية من صديق له يلقب ب "لمْسافر " من منطقة تارودانت وهو مشهور بكثرة سفره ،وتاجِر في الفضة والجلود ولا علاقة لاسمه باسم العالم الجليل "أحمد لمْسافر "المشهور بتقواه وعلمه وورعه بضواحي تنغير بالجنوب الشرقي الممتد....
طال الأمد وانتهى الحديث عن الصباط إلا ناذرا أو حين رؤية الباشا بالبلدة ، ... حل الصيف وعاد المهاجرون محملين بالخرداوات باع مهاجر البلدة امبارك سلعته بالمقايضة كالعادة بسرعة فائقة حيث كانت نقية جدا هذه المرة، تهافت عليها الكل، منهم من قايضه بأجهزة صالحة ومنهم من تقايض بسلعة" على الله" ربما تعمل وربما لا ...حان وقت العودة وحانت رحلة الطيور المهاجرة للعودة الى أوكارها في الشمال ،وغافل علي أعلبون أهل البيت وأخذ الحذاء وخبأه بإتقان بين ملابسه وأطلق ساقيه للريح من جديد ،تجاه بيت المهاجر الذي قبل البضاعة بقلب مفتوح وابتسامة عريضة لأن الحذاء من خلال منظره تحفة غنية ناذرة، ولن يلبسه طبعا، بل سيقدمه هدية لمشغله هناك، ليعلو به شأنه و يزيد في احترامه ،أخذ البضاعة ولم يقبض علي أعلبون شيئا بل وُعد بالعطاء ، ووعد الحر دين عليه فلا هو حفظ حذاء الباشا ولا هو نال سلعة المقايضة ،وعاد بخفي حنين يضرب اليد في اليد ،ونسي أن يخبره بسنبلة القنب الهندي وسط الحذاء، وسيبقي مدة طويلة، من الزمن يحلم بالحذاء الكروي الأنيق الذي يساوي فعل السرقة ويساوي قيمة الصباط المحترم جدا.
سافر المهاجر وببوابة الميناء قصة أخرى.. دخل المهاجر امبارك ويشو كالعادة ، بدأت الدوريات التفتيش دورياتها بكلابها المخيفة المدربة طافت بالمكان" وبالفاركو " التصقت ،لعقت ألسنتها فتحت أعينها كشرت عن أنيابها ،كثرت حركاتها من اليمين إلى اليسار وإلى الخلف والأمام ،شمت شيئا ما ،وتأكدت الشرطة أن الأمر فيه جلل ،أخلوا المكان وأغلقوا باب الميناء ،أطلقوا صفارات الإنذار ،حلت قوافل جديدة من الشرطة ،قيدوا المهاجر المشوك الرأس، وردد بصوت عال "مَيْدجران" ماذا وقع ؟ لم يعلم أنه يحمل أسفارا ما قرأ سطورها ،ولم يحسب عددها ،دخلت الشرطة للسيارة فوجدوا الغريب : مغازل صوف أمازيغية ، رحى من حجر ، مدقاق "مهراز "من عود خشب العرعار ،وأقراب جلدي، وكتاب صغير مكتوب بماء الزعفران، وساعات قديمة كانت تستعمل لضبط وقت توزيع ماء الخطارات على الحقول ،ومحراث خشبي، وقُفة سعفية مثقوبة من جوانبها، و"زير " للسمن المُعتق .وكيس بلاستيك محشو بتراب" أورْتي" أوْصَاهُ به واحد من أقربائه الذين هاجروا سرا، وطالت غربته دون وثائق ، ورغب في شم رائحة البلدة ورائحة التراب الوطني، كما وجدوا " صبّاط الباشا "المحشو بالقنب الهندي، وبعد ساعات من العمل المضني حللوا المحجوز، فدونوا في المحضر ، أن التراب تراب الوطن، وأن الصباط مصنوع من جلد الغزال الناذر الممنوع صيده ،لأنه محمي بقانون .. فبدأت الحكايات....
بدأ تدوين المحاضر بداية مع المهاجر فسُئل : من أين لك هذا، وماذا وماذا؟ فأجاب ماذا ماذا ؟ولم يفهم ما حدث حققوا معه ووعدوه بمحاكمة عادلة، فقال: حول ماذا؟ اعترف بأنه ينقل هذه الأشياء ولا يدري لماذا يُقبل عليها بعض الإفرنجة هناك، أذلهم الله ، بلهفة شديدة ، لم يتردد بالاعتراف، وتم نداء جميع الأظناء للسماع إليهم ، واعترفوا بالمنسوب إليهم جميعا ،وتوقف الضابط عند الباشا طويلا ،لأنه رجل قانون وقال الباشا عبد الحليم بالحرف : الصباط قُُدم لي هدية وليس رشوة، والهدية،كما تعلمون سيدي الضابط : مكانتها في النفوس عظيمة، وسنة محمودة حسنة ،اجتمعت على فضلها الألسنة ،وهي شعار الأصدقاء، وعنوان التذكار، فكم جددت بين الأصحاب عهود التحاب ،وقد ارتحتُ لهذا الجميل ،كما يرتاح للكرم النزيل،وللشفاء العليل ،وهي اعتراف بي و بخدمة المنطقة ، ولم أحس يوما بأنها رشوة لأني أشتغل بالقانون ،وفي القانون وأطبق بنوده على مساكين المكان الذي عُينت فيه .. واعترف الإسكافي الفقير ،بتدخين الكيف لا الاتجار فيه، واعترف الطفل بالسرقة غير المقصودة ، وبقي لمسافر مسافر ومازال البحث عنه جاريا لحد الساعة .
في يوم الثلاثاء قُُدم الاظناء للمحكمة ومَثلوا أمام أهل البلدة داخل قاعة مكتظة حتى الأبواب الأخيرة ،الشرطة من كل الجهات لضبط الأمن ، خوفا من الانفلات الأمني ،هم في حالة استنفار شديد والموضوع صباط الباشا، الذي جلب الويلات لعدد كبير من الناس، حيث شاع الخبر في الجرائد الوطنية والدولية ،وعلى القنوات الإعلامية، وأصبح الصباط، وعلي أعلبون ،مشهورين شهرة البوعزيزي في تونس، وشهرة الخادمة، في وجدة ومحمد الدرة في فلسطين .....
دخل القاضي وطالِب الحق المدني ..والأظناء مكبلون ،مندهشون ،محتشمون ،مرتعشون وجوههم مصفرة متعبة ، رؤاهم منكسرة ثم سمعنا ضربا قويا بمطرقة كبيرة على لوح غليظ ،وقف الجميع تحية للعدل والقضاء النزيه وبدأت المحاكمة بمناداة المتهمين :
الباشا عبد الحليم بن بوخبزة : قال :حاضر، قال القاضي : أنت متهم بالرشوة والمساعدة على اصطياد الوحيش الوطني ، دون ترخيص والتقصير في محاسبة الصيادين ، ولم تحمِ الثروة الوطنية ،من خنازير وغزلان.....وحذاؤك مصنوع من جلد الغزال الناذر المهدد بالانقراض وغير المرخص باصطياده.
الإسكافي : أنت متهم بتدخين" الكيف "وبممارسة عمل دون شواهد ، في دكان غير مرخص له ومتملص من أداء الضرائب.
المهاجر : تهمتك أخطر : أنت متهم بالمتاجرة في القنب الهندي "الكيف " وفي القطع التراثية الناذرة التي تشكل ثروة من ثروات الأجداد ،والمجد الحضاري،لأمتنا فأردْتَ محو جذورنا وقطع صلتنا بالماضي التليد، إضافة إلى كونك تتاجر في الجلود المغربية، وبيع وتهريب التراب الوطني بالتقسيط إربا إربا في أكياس بلاستيكية سوداء .
علي أعلبون: أنت طفل قاصر سرقتك هي شيطنة صغار، ولعب عيال، وحسب المحضر، أنت مشهود لك بالتميز في فريق بلدتك الكروي ، ونحن نشجع المواهب الشابة ولا نقهرها أو نقتلها أبدا فيمكن، ومن يدري أن تحمل القميص الوطني، وتعلي راية الوطن، خارج الوطن ذات يوم ،فأنت حر طليق .
لمْسافر : مازال مبحوثا عنه وتهمته اصطياد الوحيش الوطني، دون ترخيص كذلك ، وبيع جلوده في الأسواق السوداء، والمتاجرة في الفضة الخالصة دون إذن....
وطالبت النيابة العامة بتشديد العقوبات على المتهمين ،ورُفعت الجلسة للتداول، في الأحكام والغرامات في صمت رهيب، والكل يلتمس التخفيف للمتهمين، سكوت فيه دهشة واستغراب من تحول صباط الباشا من حذاء ملمع لامع ، إلى قضية وطنية ودولية،فيها متابعات قضائية وغرامات مادية عالية ...
بعد قليل سيعود القاضي للنطق بالحكم الابتدائي في حق كل الأظناء ، والكل خائف ومذعور من جلد صباطه ...
وبقيت قضية واحدة لم يَصدر فيها الحكم : فما حكم وتهمة كاتب قصة صباط الباشا؟ وما هي تهمته وعقوبته ؟....وللقراء طبعا رأي آخر في المحاكمة والقصة ، ولسان حالي يقول : احذروا جلود أحذيتكم خوفا من المتابعات والغرامات والسلام عليكم.... وإلى قصة أخرى بحول الله . إضاءة:
* القصة هي قصة حدث بسيط تناسلت منها أحداث معقدة ،ولم أهتم باللغة الرمزية والشعرية كثيرا تجنبا لتعويم المتن في دبلجة اللغة،وليَسهل تتبع المتن الحكائي بيسر وليونة .
*القصة طويلة جدا في المشروع القصصي الذي أشتغل فيه وعليه ، وحذفت منها الكثير لكنها حقا مازالت طويلة. *الشخوص والأحداث من نسج الذاكرة والخيال ، وإذا تصادفت الأسماء و أسماء حقيقية واقعا، فذاك مجرد صدفة وتصادف، وإذا حدث فعلا أطلب الصفح والعفو.