صراع نفش كل ديك ريشه ، وهزجناحيه ، ومد عنقه ، وفتح منقاره ... متأهبا للإنقضاض على أخيه / عدوه ، ليمنعه من الظفر بدودة تزحف على الأرض . لم يعبأ أي واحد منهما بحبات الدرة ، ولا بقطع الخبز ، وبقايا الطعام ... المتناثرة أمامهما ، فكل ذلك لا يساوي تلك الدودة ، خاصة إذا تمكن من الحيلولة دون وصول منقار أخيه إليها ، وحرمانه منها... ينقض على عنق أخيه ، يغرس فيه منقاره ، ولا يسحبه حتى يسيل دمه ويتطاير الريش معه ... تبادلا النقر والعض أرضا وسماء ، واقفين ، ومستلقيين على الأرض ، ومرتفعين في الهواء... وهما يتنقلان بين أرجاء الحضيرة ، والريش يتطاير منهما ، أحمر وقد بللته وخضبته الدماء التي تسيل من عنقيهما ... وبينما هما على تلك الحال كان الديك الرومي ينقر الطعام ويبتلع حبات الدرة ... وحيدا مطمئنا على مهل ، دون منازع أو منافس ينغص عليه عيشه أو يقتسم معه رزقه ...ومرة مرة ينفخ ريشه ، ويحوم حول الطعام راقصا رقصته المعروفة الدالة على البهحة والإطمئنان على الرزق ، وعدم الخوف عليه ... والدودة المتقاتل عليها تنسحب من ميدان القتال ، حتى غابت عنهما ... إستمرا على تلك الحال حتى تعرى عنقاهما من الريش ، وملأت الدماء جسديهما ، وخارت قواهما ، ولم يعد أي واحد منهما يقوى على الوقوف ، فتمدد غير بعيد عن الآخر، وهو ينقل عينيه بين أخيه/عدوه والديك الرومي الذي ينقر الحبة تلو الحبة ... ولكنه لا يستطيع الوقوف أو الإقتراب من حبات الدرة ...
تناطح تدافعا برأسيهما على حزمة البرسيم ، فكل واحد يريد أن يستفرد بأكلها ، ولا يقبل أن يتقاسمها معه أخوه ، كل واحد يسعى لإبعاد الآخر بقرنيه ليسيطر وحده على المدود ، ويظفر بالكلأ وحده ... إبتعدا عن المدود متراجعين ، وقد ركز كل منهما عينيه في عيني أخيه ، وصوب قرنيه تجاهه ، وجمع قواه ... لينطلق بعد ذلك بسرعة فائقة تحمل معها قوة النطح والدفع والإيقاع بأخيه/عدوه ... تتالى التراجع والإنطلاق والنطح ، ولم يعد يسمع إلا صوت القرون والرؤوس تتناطح ... فكل واحد من الخروفين يريد إثبات قوته ، ويساير نزوته في السيطرة على المدود والإستفراد به... ولو كلفه ذلك فقدان قرنيه ... بل إن كل خروف منهما يود القضاء على أخيه حتى لا ينافسه ، ولا يضيق عليه عيشه ... تبادلا النطح طويلا حتى انكسرت القرون وسالت الدماء وضعفت القوى... فانزوى كل واحد منهما في زاوية من زوايا الحضيرة ، وهو ينظر إلى أخيه/عدوه وهو يلهث ، دون أن يقوى على الإقتراب من المدود ، فقد سيطر عليه الثور ، وأشرف على إتمام ما به من برسيم ... بصقة إبليس وشى بينهما ومشى بالنميمة ، ووسوس إلى كل واحد منهما ، مستغلا صغرهما ، واندفاعهما ، وقلة تجربتهما ... إستشاط كل واحد منهما غضبا وحنقا ورغبة في الإنقضاض على الآخر والقضاء عليه ... قربهما ، وقابلهما وجها لوجه ، كأنهما ملاكمان على حلبة الملاكمة ، وباقي الأطفال محلقون حولهما ، ينظرون إليهما بحماس وشوق لمشاهدة مقابلة تجمع بين الملاكمة والمصارعة ... مجانا ، على حساب طفلين غرين قليلي التجربة ... توجه إلى عمربالسؤال : هل تستطيع غلبة زيد ، والقضاء عليه ؟ نعم ، رد عمر بحماس واندفاع ، وسأمرغه في التراب ، وأمسح به الأرض . "بزاف عليك" صاح زيد منتفضا ، متأهبا للإنقضاض على عمر ... لإثبات أن الغلبة له ... تيقن من أنه نجح في إذكاء فتيل المعركة بينهما ، وأن حماس كل واحد منهما ، واندفاعه نحو المعركة قد زاد عن حده ... ولم يبق له إلا إعطاء إشارة الإنطلاق ، لينهال كل واحد على الآخر ضربا ... أخذ حجرا صغيرا وبصق عليه ، ثم ألقاه بينهما على الأرض وهو يقول : الذي يأخذ هذا الحجر ويمسحه في الآخر هو الغالب... إنقضا جميعا على الحجر ، وكل واحد منهما يريد أن يكون هو السباق لتناول الحجر ، ومسحه بثياب الآخر ، وكان ذلك بمثابة صافرة انطلاق المبارزة بين المسكينين ، فبدأ تبادل الضرب والركل والصفع ... دون هوادة ، وهو وباقي الأطفال يتفرجون ، ويشجعون ، ويصفقون ، ويصفرون مبتهجين بمشاهدة مقابلة تجمع جميع أنواع رياضات فنون الحرب والدفاع عن النفس ... بدون قوانين منظمة ولا ضوابط ضابطة ... نال كل واحد منهما من الآخر ، إرتفعت درجة حرارتهما ، وسال العرق منهما دون انقطاع ، خدش وجهاهما ، وسالت منهما الدماء ، و"رعف " الواحد منهما الآخر ، وامتلأت ثيابهما دماء وأتربة ، ومنها ما تمزق ... من شدة رغبة كل واحد منهما في "افتراس" الآخر ، وإثبات قوته وقدرته على الغلبة ... وإبليس ذاك صاحب البصقة يزيد من إذكاء حماسهما ...حتى أفرغ كل واحد ما به من قوة وجهد ، ولم يعد يستطيع أن يدنو من الآخر ، ليتراجع رغما عنه ، وهو يتوعد خصمه بالقضاء عليه في معركة أخرى ...
المعاكسة استدعى عمرا وزيدا لتحليل وتفسير وتأويل حلم من أحلامه المرعبة التي رآها ، وتمنى لو يعرف معناها ومغزاها ... ممن يراه كفؤا لذلك مختصا في ذلك ... بعد أن حاول تفسيرها ،هو ، والتنبأ بما ستحمله في ما سيأتي من الأيام من خير أو شر ، من يمن وسعادة ، أو شؤم وتعاسة ، مستعينا بكتب تفسير الأحلام ، ومرموزات كل الأشياء المرئية في الأحلام ، وألغازها ... بدأ يقص حلمه عليهما أمام الملأ : رأيت ، خيرا وسلاما إن شاء الله ، أني أحمل معولا في فمي ... وقد استفسرت العديد من الناس ، فكان منهم من بشرني بأنه رؤيى خير وسعادة في المستقبل ... ومنهم من فسر ه على أنه حلم سيئ الطالع ينم عن تعاسة قادمة ... لم يكد يتم كلامه حتى بدأ كل واحد منهما في الحديث عن الحلم والرؤيى ... إرتفع صوتاهما ، وتعالى ضجيجهما ، ولم يعد الناس الحاضرون المتتبعون من أجل الإستفادة يسمعون إلا صياحا ، ولا يميزون بين ما يقوله زيد ولا ما ينطق به عمر . حاول إسكاتهما لتنظيم الحديث بينهما . لا أحد يسكت ، لا أحد ينصت له ولا للآخر ، علا صراخه هو كذلك طالبا منهما الصمت وتنظيم الحوار ... بالكاد استطاع اسكاتهما . قرر أن يقسم الوقت بينهما بالتساوي ، على ألا يقاطع الواحد منهما الآخر أثناء حديثه ... : ليتحدث المتدخل منكما كذا دقائق ، حتى يبدي رأيه ... لنبدأ بزيد إذن ( قال ) إنتفض عمر ، وقام من مكانه محتجا : أنت قاسم غير عادل وغير ديموقراطي ، وأنت تميل إلى زيد ، عليك أن تبقى محايدا ... لماذا أعطيته أسبقية التدخل ؟ لماذا لا نلجأ إلى القرعة لتحديد من سيبدأ الحديث . يا أخي ليس في الأمر مشكل ، أن يبدأ هو أو تبدأ أنت فلا فرق ولا ضير . لا يا سيدي لا بد من القرعة ، إذا كنا فعلا ديموقراطيين كما ندعي ... أجريت القرعة ، فأسفرت عن البدء بعمر . لم يقبل زيد هذه النتيجة ، رفض فسح المجال لزيد من أجل البداية بدعوى أن الكلمة أعطيت له في البداية ، ولا داعي إذن لإجراء القرعة ... حار في أمره ، ماذا سيفعل ؟ حاول إقناع زيد بالإنصياع للقرعة ، وعدم تضييع الوقت ، إستعطفه ، توسل إليه ... كان له ما أراد . بدأ عمر بالكلام قائلا : ضيفك هذا يا سيدي ليست له علاقة بالأحلام ، ولا يعرف معنى الأحلام ، لأنه ببساطة لايحلم ، فكيف لمن لايحلم أن يكون مفسرا للأحلام ، أومحللا لها ، عارفا بمعانيها ، وألغازها ، وما تنطوي عليه من خير أو شر استقبالا ... فهو إذن لا يستحق كلمة خبير هذه ، هو فقط مجرد متطفل ... دعنا يا أخي من هذا الكلام ، لا نريد تجريحا ... ادخل في صلب الموضوع... قاطعه زيد مخاطبا عمر : أنت الذي تحلم بأن تكون خبيرا في تفسير الأحلام ، لأنك كثير النوم و الحلم ، لا تستيقظ أبدا من نومك ، وتعيش سباتا دائما ، والأحلام لا تفارقك وأنت لا تفارقها ، وحتى عند استفاقتك تعيش أحلام اليقظة ، وأنت تعاني تضخما في الأحلام ، حتى أنك لا تستطيع التمييز بين الحلم والواقع ، ولا تستطيع تحقيق أحلامك لأنك دائم النوم ، ونادرا ما تستيقظ ، وهذه صور لك وأنت تغط في نومك ، والناس من حولك مستيقظون يقظون ... قام عمر من مكانه ، وانقض على عنق زيد بيده اليسرى ، بينما يده اليمنى تمتد إلى الصور لتنزعها من يد زيد ، فما كان من هذا الأخير إلا أن أحكم مسك الصور بيد وعنق عمر باليد الأخرى ... تمزقت الصوربين يديهما وشوهت ... وانسحب الحاضرون دون فائدة تذكرفي ما حضروا من أجله ، وفي أذهانهم تلك الصور المشوهة نتيجة المعاكسة ...