إبريق الشاي، ذاك النموذج من رياش المنزل العربي والمغربي على الخصوص، الذي استأثر بسحر خاص كتحفة تغنت بولهها حناجر المطربين، وأغدقت في مدحها أقلام الشعراء والزجالين، وأبدعت في تشكيلها ريشة الرسامين، وإزميل النحاتين حتى غدت أيقونة تنفرد بإدمان الملايين من المحبين. الإبريق نجم ساطع يتلألأ في سماء الولع، لا غنى عنه في تأثيث فظاءات المنازل، المطاعم وكذا صالونات الشاي بكل أنواعها ومستوياتها. تجده قابعا هنا وهناك بمختلف الأشكال والحلل، فتارة تراه وقد أخد حلة من أفخم ركاز اللجين، المنمق بأحجار كريمة تسر الناضرين، وفوق عمامته وضعت خرزة قرصية الشكل، براقة اللون تضفي عليه نوعا من الوقار والبورجوازية المخملية. وتارة أخرى تجده يرتدي حلة قصديرية أو ألمونيومية تعكس وضعيته الاجتماعية، حيث يغلب عليه طابع الشعبية التي لا تخلو من وقار كذلك. وفي كل الأحيان، هو عاهل..! عاهل لمملكة مستديرة الحدود، مترامية "القطر" تسمى "مملكة الصينية". رعاياها كؤوس زجاجية مختلفة أشكالها وألوانها بحسب اختلاف قيمتها الاجتماعية. فمنها من هو بلوري المعدن ذو شخصية مرموقة ومحصنة من كافة الشوائب المفترضة، لا تطله إلا نخبة خاصة من الأيادي التي ألفت التعامل معه. أما الصنف الثاني من الرعية فيمكن تصنيفه من الكؤوس العادية ذات الزجاج الشفاف. منها من له القدرة على المقاومة، تجده متداول بكثرة بين أياد متوسطة الشأن، ومنها من لا مقاومة له على الإطلاق، تتداو له كل الأيادي لمختلف فئات المجتمع. على العموم، كل الرعايا (الكؤوس) خاضعة لحكم الإبريق، فهو الملك الذي منه تتفرق السياسة الداخلية، وهو الوحيد الذي يخول له القانون والدستور الجاري به العمل على تزويد رعاياه بسائله الحيوي لتغدو ذات قيمة بين الجلساء، مثله في ذلك مثل خلية النحل التي لا تستغني عن ملكة تسوس قفيرها بما أوتيت من حكمة ربانية. ففي مجتمعنا لا تخلو الجلسة الحميمية من مملكة الصينية يتوسطها إبريق عادل غنية بطنه بسائل قراح اسمه الشاي. إلا أن الشاي هذا، أصناف متنوعة، فمنه "المنعنع" نسبة لعشبة النعناع، "المشبشب" نسبة لعشبة الشيبة، "المعنبر" نسبة لمادة العنبر المستخرجة من بطن الحوت و"المصكصك" (صيك..) الذي لا يحوي أي معطر مما ذكرنا بخلاف نوعية عشبة الشاي التي هيئ بها. كل على هواه، يرتشف كأسه كما ألفه ويبقى عاهلنا الإبريق سيد القعدة دون منازع. فبالرغم من مكانته المرموقة، إلا أنه يخضع بدوره لسلطة مستعمله، فنجد مثلا: إنسان له دراية بخبايا وأسرار الوصفة، والتي غالبا ما تكون سحرية حتى تمكنه من تهيئ هذا السائل بالنكهة المثالية التي تضفي عليه طابع الجودة، ويشترط أن يكون له باع طويل في ممارسة عملية تسمى "التشحير" وتستحسن أن تكون على وطيس ذو نار هادئة، ومتى تمت هاته العملية في أحسن الظروف، استطاع على إثرها العاهل "الإبريق" أن يصب عبر خرطومه محتوى بطنه، في أحد رعاياه شايا بزبده يغري بالرشف والإشادة، فتسمع المستهلك يقول - "واليني براد هدا".. فتعود الإشادة إلى عاهلنا الإبريق، بغض النظر عن نوعية انتمائه. الأكثر من هذا وذاك، استطاع الإبريق أن يستحوذ على مزاج عشاقه، لدرجة الإدمان.