ليس هناك من شك في أن النقاش حول تعديل منظومة الإرث ضمن القوانين المدنية الإسلامية العربية، هو من طبيعة صحية، طالما أن مساحة الظن في أحكامها -وبالتالي الاجتهاد- أكبر من مساحة القطع فيها والتسليم بقبولها. وأول شرط يفترض لصحة ذلك، هو أن ينضبط النقاش إلى القواعد العلمية المقررة في العلوم ذات الصلة بعملية الاجتهاد، من قبيل: المنطق، الأصول، الفقه، الاجتماع، النفس .. إلخ. غير أن تغليب الهوى في خضم هذا النقاش، بالابتعاد عن تلك القواعد من جهة، والتمسح بالانتماءات الإيديولوجية وما تخلفه من تجاذبات من جهة أخرى، من شأنه استحالة الأمر إلى "مرض" فكري لا صحة فيه ولا فائدة. ولعل من مظاهر "مرضية" النقاش المذكور، أن يقتدي البعض بالثقافة الغربية البعيدة عن المجال التداولي الإسلامي العربي، ويجعل من إسقاطها عليه بطريقة تلقائية دونما أي اعتبار لخصوصياته المجتمعية ؛ الدينية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية ؛ حلا لكل معضلات قضاياه، فيدعو إلى المساواة المطلقة بين الجنسين في الإرث، مع ما في ذلك من تناقض صارخ بين مقدمة الاقتداء والدعوة الناتجة عنها. وبيان ذلك من وجهين اثنين: أولهما: أن الاقتداء بتجارب الدول الغربية في هذا الشأن، يستلزم منه الاقتداء بها، أيضا، في مجال تشبثها بالتقاليد والأعراف الراسخة المتحكمة في ثقافة مجتمعاتها (المملكة المتحدة نموذجا)، وهو ما نعدمه بالمرة لدى الجهة المقتدية، التي لا تفتأ تعبر عن تحررها الكامل من تعاليم دينها الإسلامي، وتقاليد وأعراف مجتمعاتها. ثانيهما: أن الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الجنسين في الإرث، وربطها بالثقافة الغربية، تقتضي استحضار الواقع المعاش في ظل هذه الأخيرة، إذ إن معظم دولها، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالامريكية، تميز بين الرجل والمرأة بسبب الجنس حتى في منظومة الأجور، ولا تساوي بينهما في ذلك، فما بالك بما هو متعلق بتقاليد المجتمع وأعرافه. لذلك، فلكل قانون تربته المجتمعية الخاصة به، بها تُفسَل أصول مواده وقواعده، وبها تنمو وتتشكل، فتتطور، ثم تتغير، وإلا كان غريبا في محيطه، وعاملا مباشرا في توسيع الهوة بينه وبين المجتمع المراد تطبيقه فيه، كلما اقْتُبس من بيئته الأصلية إلى بيئة أخرى لا توافقها ألبتة.