في العام الماضي كنت كتبت مقالا للتنويه بهذه الذكرى العطرة وعنونته ب "مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه وعند الناس". واستدللت على ذلك بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي يقول فيه: " إن الله نظر في قلوب العباد فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب أهل الأرض، فاختاره برسالته ثم نظر في قلوب العباد فرأى أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته"[1]. وكنت قد خصصت الحديث آنذاك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأرجأت الحديث عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلى مناسبة أخرى. وها هي هذه المناسبة قد حلت هذا العام، وفي هذه المناسبة أقول: إن الصحابة الكرام رضي الله عنهم لهم مكانة خاصة في نفوس المؤمنين؛ إذ هم من نقلوا الشريعة، وكانوا أحرص الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتزام بالإسلام ظاهرا وباطنا فحبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة والأخذ، بآثارهم فضيلة"[2]. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"[3].
وقال فيهم الإمام السفاريني: وليس في الأمة كالصحابة *** في الفضل والمعروف والإصابة فإنهم قد شاهدوا المختارا *** وعاينوا الأسرار والأنوارا وجاهدوا في الله حتى بانا *** دين الهدى وقد سما الأديانا[4] وقال الإمام مالك رحمه الله فيهم: "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وما جاء عن نبيكم، وإن لم تفهموا المعنى فسلموا لعلمائكم، ولا تجادلوهم؛ فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق"[5]. فالصحابة رضوان الله عليهم هم صفوة الخلق، المقتدى بسنتهم ونهجهم؛ ولذا قال أبو حنيفة رحمه الله: "لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن ولم يزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث، فإذا طلبوا العلم بلا حديث فسدوا"[6]. وقال بن القيم جوزيه رحمه الله: "والسنة أجل في صدورهم من أن يقدموا عليها رأيا فقهيا، أو خيالا صوفيا، أو قياسا منطقيا، أو حكما سياسيا، فمن قدم عليها شيئا من ذلك، فباب الصواب عليه مسدود، وهو من طريق الرشد مصدود"[7] . هذا هو معتقدنا- نحن أهل السنة والجماعة- في الصحابة الكرام رضي الله عنهم باختصار شديد. ولكن ليس كل الناس يعتقدون هذا الاعتقاد، فقد وجدت من يقيم بيننا، ويتكلم بلساننا، ومع ذلك يطعن في أبي هريرة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وذلك في العام الماضي بتاريخ 05/03/2016 عندما نظمت الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب ندوة حول منظومة المواريث فقال أحدهم حينذاك (إن الأمة الإسلامية توجد اليوم تحت سلطة أموات وأطفال، في إشارة منه إلى الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طرف الصحابي أبو هريرة الذي كان يبلغ حين وفاة الرسول 6 سنوات وروى 2600 حديث، وعبد الله بن عباس الذي كان يبلغ 10 سنوات حين وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم) هكذا قال. ونحن نقول له: لقد أبعدت النجعة، ويظهر لي من حديثك هذا أنك لا تفقه شيئا في التاريخ، كما لا تفهم شيئا عن السنة النبوية الشريفة وبيان ذلك يكون على الشكل التالي: أبو هريرة رضي الله عنه كان مولده سنة 19 قبل الهجرة النبوية وعندما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما في السنة السابعة للهجرة يكون عنده 26 سنة وتوفى سنة 59 للهجرة في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان، وكان له يوم توفى 98 سنة ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره نحو 30 سنة[8]. بعد هذا البيان الشافي الكافي نسأل صاحبنا هذا السؤال ونقول له: هل هذا الرجل يعد صبيا عندكم، فإذا كان هذا الرجل بهذه المكانة فمتى يكون الرجل رجلا عندكم، وأما عدد الأحاديث التي رواها أبو هريرة المذكور تبلغ عند المحققين من أهل الحديث 5374 حديثا وليس 2600 حديث كما ادعى الباحث المغربي كما سمته الجريدة الإلكترونية هسبريس. ونأتي للمغالطة الثانية التي قال فيها: إن ابن عباس الذي كان يبلغ 10 سنوات حين وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول للسيد المحاضر ما مرجعك في هذه المعلومة: إذ من المعلوم أن ابن عباس رضي الله عنه ولد قبل الهجرة النبوية بثلاث سنين وأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي في بداية السنة الحادية عشرة للهجرة النبوية الشريفة؛ إذ يكون عمر بن عباس حين وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم 13 سنة وزيادة[9]، وليس كما ادعى المحاضر 10 سنوات. ثم إن رواية المميز جائزة عند علماء الحديث قاطبة فهذا محمد أبو شهبة رحمه الله يرى أن تحمل المميز الرواية قبل البلوغ تقبل روايته يدل على ذلك إجماع الصحابة على قبول رواية جماعة من الأحداث كابن عباس هذا، وعبد الله بن الزبير، ومحمود بن الربيع الخزرجي واستدلوا على ذلك بحديث محمود بن الربيع: "عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين"[10]، رواه الإمام البخاري في كتابه الصحيح في باب متى يصح سماع الصغير. وقال الإمام الموسوعي أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه القيم "الكفاية في علم الرواية" في باب ما جاء في صحة سماع الصغير وذكر في ذلك عدة أقوال: منها الحد في السماع 15 سنة وقيل: 13 سنة ثم قال جمهور العلماء يقولون: يصح السماع لمن سنه دون ذلك وقال: وهذا عندنا هو الصواب[11]. إذن بعد هذه الجولة السريعة في كتب الحديث ومصطلحه نسأل هذا السؤال: من نصدق من؟ ! هل الذين عاشوا في القرون المفضلة الذين أخذوا العلم غضا طريا من أفواه العلماء الأخيار الأطهار أم من الذين يعيشون بيننا في هذا العصر الذي كثر فيه القيل والقال واختلط فيه الحبل بالنابل. كلمة أخيرة في هذا الموضوع الحساس: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أشبه الخلق به في هديه وسمته، وأعرف الخلق بدينه فهم حقا الأئمة الهداة والناصحون الرواة دينهم عندهم أثمن من دمائهم، وأغلى من أرواحهم، كم من جاهل علموه، وكم من حائر أرشدوه، وكم من باطل أزهقوه، وكم من علم نشروه، يكفيهم أن اختارهم الله ليكونوا هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام القرافي "لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته[12]". وبقدر هذه المكانة، يكون الحفظ والرعاية، وأحق خلق الله بذلك بعد نبيهم هم الصحابة الكرام وفي الحديث القدسي: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب"[13]. ذكر الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء أن القاضي أبا الطيب قال: كنا في مجلس فجاء شاب خرساني فسأل عن مسألة المصراة وطالب بالدليل، فاستدللنا له بحديث يرويه أبي هريرة فقال: أبو هريرة غير مقبول الحديث، فما استتم كلامه حتى سقطت عليه حية عظيمة من سقف الجامع الذي كنا فيه فوثب الناس من أجلها، وهرب الشاب منها وهي تتبعه فقيل له: تب، تب فقال: تبت إلى الله، فغابت الحية فلم ير لها أي أثر بعد ذلك[14]. قلت: إن الحديث الذي رواه أبو هريرة في هذا المقام هو "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر". والمصراة معناها: هي التي صري لبنها فيه وجمع فلم يحلب أياما". راجع صحيح البخاري كتاب البيوع حديث رقم 2151. وأكتفي بهذا القدر وإلى مناسبة أخرى بحول الله والسلام. [1] – طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم. [2] – السنة للإمام أحمد بن حنبل ص 38 . [3] – شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين ص 14. [4] – جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 322. [5] – قواعد التحديث لجمال الدين القاسمي ص51. [6] – المرجع السابق الصفحة نفسها. [7] – حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ص 18. [8] – أبو هريرة راوية الإسلام وسيد الحفاظ الأثبات لعبد الستار الشيخ ص 667، 677. [9] – شرح الأربعين النووية لمحمد بن عبد الله الجرداني ص 180، 181. [10] – دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 28. [11] – المرجع المذكور ص 67. [12] – الفروق للإمام القرافي ج 4 ص 170. [13] – صحيح البخاري كتاب الرقاق باب التواضع رقم الحديث 6502. [14] – سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 2 ص 618.