في البداية هل ما زال هناك متسع للكتابة؟ ولماذا تكتب؟ ما دام في الإنسان قلب يتأثر بمشاهد الجمال وضمير لا يتوقف عن طرح السؤال فهناك دوما متسع للكتابة. وما دام من طبيعة الإنسان أن يتشوف إلى مراقي الكمال فستبقى الكتابة حاجة وجودية وضرورة إنسانية لا محيد عنها. الحياة من دون كتابة لحظة عابرة متفلتة. الكتابة تمنحك مبررا للاستمرار في عالم يقف على مشارف الانهيار، لأنها تتيح لك إمكانية إعادة تركيب وترتيب وجودك الخاص وكذا عناصر الكون من حولك؛ فمن المؤكد أن الكتابة مهما تجذرت في الواقع فإنها لا تنقله كما هو ولكن كما ينبغي أن يكون. وهي من هذه الناحية تكوين وتشكيل لعوالم رمزية غير متناهية تجعل من الوجود الواقعي مجرد إمكان وإبدال لأشكال عديدة ولانهائية من الانوجاد الإنساني المنذور للتحطم والانهدام. إنها إرادة العيش في اللغة باعتباها "مسكن الكائن" إن اللغة لتغدو بالنسبة إلى الكاتب هي الوجود عينه والكينونة ذاتها. فهي وسيلته لمقاومة الغياب والانمحاء. انطلاقا من هذا التصور الخاص لمفهوم ووظيفة الكتابة يمكنني القول إنني أكتب لأني بكل بساطة لا أحسن شيئا غير الكتابة. ولم أعرف لي هواية ولا حرفة سواها. الكتابة بالنسبة إلي حبل سري يربطني بالحياة كما تصورها الموهوبون من الكتاب والشعراء وجسدوها في نصوص أدمنت معاشرتها فأصابتني بعمى الألوان. إذ لم أعد أصدق غيرها رغم النصائح التي ما فتئ المقربون يوجهونها إلي عندما يصرون على تذكيري بأن الحياة الحقيقية لا توجد في المكتبة. أنا لا أكتب من أجل المجد، لأن من حدق طويلا في الهول مثلي لا يمكن أن يطمع في أي مجد زائل أو شهرة زائفة. الكتابة بالنسبة إلي كانت وستظل فعل وجود، التحاما بالكينونة ومعانقة لما لا نرى. يلحظ المتتبع لبحوثكم ودراساتكم أنكم تنشغلون بحقول معرفية تبدو متباعدة، حيث تخوضون في مسائل الإبداع وقضايا الفكر وتحليل الخطاب. بم يمكن تفسير هذا التوجه لديكم؟ شخصيا لا أرى في المسألة ما يبعث على الاستغراب؛ فالمعارف مهما تنوعت وتغايرت في الظاهر فهي تلتقي حتما وتتحاور في العمق. إذ المعارف ليست جزرا مستقلة أو أرخبيلات منفصلة ولكنها على الحقيقة شبيهة بمحيط هادر لا يمكنك الفصل فيه بين عناصره المختلفة والمتغايرة (مياه، رمال، صخور، كائنات حية) فهي جميعا تكون "الهوية" المفترضة للبحر. كذلك الإنسان في تصوري. إنه النقطة التي تلتقي عندها وتتفاعل مختلف المعارف والعلوم. ولذلك أطمح لأن تمثل المعارف بالنسبة للمثقف المعاصر "متصلا" إنسانيا لا انفصال بين عناصره مهما بدت في الظاهر متنافرة ومتباعدة. كم هي رائعة تلك اللحظة التي تصبح فيها المتعة الناجمة عن قراءة قصيدة مماثلة للمتعة الحاصلة عن حل معادلة رياضية. بالنسبة إلى تجربتي الشخصية أجدني مدينا إلى المصادفة التي تكاد تقترب من القدرية؛ فقد وجدتني أقرأ عندما تفتق وعيي أول مرة كل ما يقع بين يدي. لا أفرق بين نصوص المؤلفين القدامى وكتابات المبدعين المعاصرين. كما أنني لم أكن أميز بين كتب الأدب أو الدين أو الفلسفة. وحدها المصادفة تقودني إلى هذا الكتاب أو ذاك. لم أكن أقرأ وفق خطة محددة. كل ما كان يهمني هو "فعل القراءة" الذي مثل بالنسبة إلي في هذه المرحلة ممارسة فريدة تستمد قيمتها وأهميتها من ذاتها وليس من أي شئ آخر خارجها. لم يكن لي مرشد أو موجه في هذه الفترة يعين لي ما أقرأ. فكنت أقرأ من دون برنامج مسبق ولا أهداف محددة. وإلى هذه المرحلة من "القراءة الحرة" أدين بهذا التنوع الذي يطبع اهتماماتي الأدبية والفكرية، لكنني للأسف لم أعد أتمتع اليوم بهذه الحرية. فقراءاتي أصبحت خاضعة لطبيعة المواضيع التي أنشغل بالبحث فيها. لقد أصبحت القراءة خاضعة لمتطلبات "الكتابة" ولم تعد "سباحة حرة" كما كان الأمر في السابق. يرى البعض أننا نعيش "زمن الرواية" بعد تاريخ طويل من "زمن الشعر". كيف تنظر إلى مسألة المفاضلة بين أجناس الخطاب المختلفة؟ من يتتبع السجال الطويل الذي دار بين نقادنا القدامى حول الشعر والنثر يتأكد أن المفاضلة بين أنواع الخطاب نهج فاسد ولا يصدر عن فهم سليم لنظرية الأجناس الحديثة التي تقر بأحقية كل جنس أدبي في الوجود ما دام يتملك خصائص بنائية وأسلوبية فارقة تميزه عن غيره من أجناس الخطاب الأخرى؛ فالمعاينة الدقيقة لتاريخ الأنواع وما عرفته من تقلبات في سياق الثقافة العربية تكشف أن النوع يتسيد غيره عندما تكون هناك حاجة ثقافية وحضارية تدعو القراء والمتقبلين إلى الاستجابة لما يجترحه من جماليات وما يقترحه من مضامين فكرية أو اجتماعية. فقد شكل الشعر "علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه" على حد تعبير الخليفة عمر بن الخطاب. وقد ترتب عن الهيمنة التي فرضها جنس النثر على الثقافة العربية القديمة أن ظلت مختلف أشكال الإنتاج السردي على هامش الدرس البلاغي والنقدي، لكن تغير الشروط الثقافية والحضارية في الوقت الحاضر أفضى إلى بروز نوع أدبي نثري هو الرواية التي تسيدت سائر أجناس الخطاب في العصر الحديث لكونها مثلت استجابة جمالية للتحول الذي طرأ على الذوق العام، حيث جسدت الرواية –بما هي "معمار" جمالي بالغ التعقيد- إطارا ملائما للتعبير عن تعقيدات الحياة المعاصرة في مختلف مناحيها. وهو ما يؤكد أن الموقف من أنواع الخطاب يخضع لأحكام القراء التي تتغير بتغير الظروف والبيئات؛ فالنوع الذي يستأثر اليوم بالحظوة والاهتمام على صعيد التداول والتلقي مهدد بأن يفقدهما في المستقبل لصالح نوع آخر امتلك من المقومات ما جعله أكثر قدرة على تمثيل روح العصر. كيف يمكن للعمل الأدبي أن يوفق بين الوظيفة الجمالية والغاية التداولية؟ ما من شك أن العمل الأدبي مهما بدا فرديا ومتعاليا، فإنه لا يمكن فهمه إلا ضمن الإطار الثقافي والسياق الحضاري الذي تكوّن فيه، لأن كل عمل هو علاقة عضوية تجمع المبدع ومن يتوجه إليهم بإبداعه، ومن ثم يمكن أن نميز ضمن هذه العلاقة بين بعدين؛ بعد اجتماعي (الواقع المعيش) وبعد فردي (ذاتية المبدع). وبذلك تصبح مهمة المبدع هي التعبير عن الرؤيا العامة والأفق المشترك للجماعة التي هو جزء منها. ولا يعني هذا أي إلغاء لذاتية المبدع، أو مصادرة على حقه في الصوغ الذاتي للعمل الأدبي، كما لا يعني أن يتحول الإبداع إلى مجرد انعكاس للواقع الاجتماعي، إذ المبدع ليس مجرد مرآة تعكس الوقائع والظواهر الاجتماعية، بل هو ذات تتفاعل مع الواقع الاجتماعي وكينونة تتعمق تفاصيل اليومي والمعيش. ومن خلال هذا التفاعل تكتشف الرؤى والانطباعات السائدة في المجتمع، ولكن تعبيرها عن هذه الرؤى والانطباعات ينبغي أن يتخذ شكلا متميزا، يحمل بصمات صاحب العمل وشخصيته باعتباره حرا في مواجهة العمل الإبداعي وصوغه. وهكذا تصبح غاية العمل الإبداعي –بما هو تشكيل يجمع بين ما هو فردي وجماعي- أن يتجاوز التعبير عن الواقع إلى محاولة تفسيره والحكم عليه، أي إن طموحه يتمثل في نقل وعي الفئات التي ينتمي إليها من حالة الوعي الفعلي (الوضع القائم) إلى حالة الوعي الممكن. ولكي يكون الإبداع معبرا عن الواقع، ومحرضا على تغييره، ينبغي للمبدع أن يرتبط بروح أمته لكي يعبر عن طموحها وتطلعاتها ومثلها العليا، لأن روح الأمة ينبوع الإبداع الحي، والمبدع الذي يستلهم روح أمته ورموزها يستطيع أن يخلق أبعادا إنسانية جديدة، ويستطيع بالتالي أن يلامس جوهر الوجود الإنساني، لأن شعره لا يخاطب فردا أو جماعة بعينها، وإنما يخاطب الإنسان حيثما كان. وبذلك يستطيع أن يرتفع من خلال التعبير عن مصير فرد إلى التعبير عن مصير الإنسانية وضميرها. – كيف تنظر إلى العلاقة التي يمكن أن تجمع بين الكتابة والواقع؟ الكتابة حركة في اتجاه المستقبل وهي لذلك تتحدد باعتبارها مراهنة على الآتي. إنها تضع العلامات المضيئة على طريق طويل وشاق. تعين الاتجاه وتشير إلى الأفق الذي يتعين السير نحوه؛ فالأفكار التي يبشر بها المفكرون والشعراء والكتاب لا تتحقق بالضرورة في اللحظة التي شهدت ولادتها ولكنها تستمر في الحفر عميقا في وجدان الأجيال المتلاحقة حتى تكتمل الشروط الضرورية لانبثاقها فتظهر في شكل شعاع من نور يعم مختلف الأنحاء والأرجاء. إن الأمر يشبه إلى حد بعيد صخرة تنكشف عن بذرة أو تنشق عن زهرة. لذلك كانت الكتابة بالنسبة إلى من يؤمنون بأهميتها وجدواها نجمة أو شظية تتوهج لكي تضئ جميع المناطق والاتجاهات. وهي من هذه الناحية تشبه فعل الغيث الذي يمنح الحياة ويغير وجه الكون. عندما ألف عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" وصف جهده في الكتاب الذي أراد أن يدشن من خلاله بداية الوعي بضرورة التحول الحضاري في مجتمعات الوطن العربي بهذه العبارة البليغة "كلمة حق وصرخة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح فقد تذهب غدا بالأوتاد". تلخص هذه العبارة الوجيزة شعور كل كاتب يشتبك مع الواقع ويطمح إلى تغييره أو تعديله؛ فالكتابة لا تسعى إلى تحقيق تغيير آني ولكنها تراهن على تعديل المواقف والآراء بما يستتبع إحداث تغير في الذهنيات التي تعتبر شرطا ضروريا لكل تحول حضاري مرتقب؛ فمن المعلوم أن الأفكار والقناعات تتشكل ببطء ولا يمكن تغييرها في لحظة، ولكن لابد من نضج الشرط التاريخي اللازم لكل منعطف حاسم في تاريخ الفرد أو الجماعة. – ما هي المشكلة التي يمكن أن تؤرق بال من يمتهن الكتابة اليوم؟ يشهد العالم في الوقت الحالي وفرة لافتة في إنتاج النصوص والخطابات. الأمر الذي يجعل المرء الذي يحترف الكتابة ويمتهن التعبير يعيش حالة من القلق الدائم والمستمر. إذ ما يفتأ يواجه السؤال المعضلة: ماذا سأضيف إلى ضمير العصر؟ لذلك أتصور أنه يتعين على من يقرر السير في اتجاه الكتابة أن يتحلى بكثير من الشجاعة والجرأة؛ فالعرب مارسوا الكتابة وافتنوا في التعبير منذ فجر التاريخ. ولذلك كانت "محنة التعبير" تواجه كل كاتب يدرك أنه امتداد لتراث نصي حافل لا يمكن تجاوزه أو تخطيه بسهولة؛ فالكتابة دائما تفاعل يمتزج فيه أفق الماضي وأفق الحاضر. ولذلك كانت الكتابة لحظة من التواصل العميق مع الذاكرة الحضارية التي راكتمها الإنسانية عبر تاريخ طويل من النضال ضد القبح الذي يعتلي وجه العالم. وإذا كان محترفو التعبير يواصلون الكتابة اليوم رغم الاستنزاف الذي يتعرض له إنتاج الخطاب فلأنهم يؤمنون بأن ذاكرة التاريخ لن تحتفظ سوى بعدد محدود من النصوص التي استطاعت أن تتجاوز شرطها الآني لكي تستشرف الآتي وتعانق الخلود. -صدر لكم مؤخرا كتاب جديد بعنوان "البلاغة والإيديولوجيا، دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة". ما هي الفكرة المركزية التي ناقشها الكتاب؟ وما هي أهم النتائج التي توصلتم إليها؟ إن أهم فكرة حاول الكتاب مناقشتها وتطويرها من صلب نصوص ابن قتيبة هي علاقة بلاغته النثرية بالعقيدة السنية التي مثلت مضمرا حجاجيا وموجها إيديولوجيا أذعنت له هذه البلاغة التي هيمن عليها المنحى الحجاجي الوظيفي. وعلى هذا الأساس تكون دراسة نثر ابن قتيبة من منظور بلاغي استجابة للأفق الذي شكله هذا النثر، حيث المكون البلاغي الحجاجي بارز بشكل لافت في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة نظرا لصدورها عن خلفية فكرية وعقدية تمثل آراء وتصورات الفكر السني. وهو ما يعني أن ابن قتيبة كان يصوغ نصوصه النثرية في ضوء العقيدة السنية التي مثلت موجها حجاجيا وإيديولوجيا لبلاغته النثرية، ولذلك هيمنت على نثره الوظيفة العملية الإنجازية. وقد تمثلت أهم النتائج التي انكشف عنها البحث في أن ابن قتيبة لم يكن مجرد أديب وناقد وإنما كان، قبل هذا وبعده، "متكلما". إنه صاحب مقالة ورئيس نحلة. ولذلك لم يعتن بالجانب الأدبي والجمالي في الخطاب قدر عنايته بفعالية الخطاب ونجاعته؛ أي الجوانب الحجاجية والاستدلالية في الخطاب البليغ. ومن هنا كانت البلاغة، عند ابن قتيبة، منظورا إليها من زاوية وظيفتها العملية والإنجازية؛ أي القدرة على التأثير في المتلقي لتعديل موقفه أو سلوكه. ولأجل ذلك فإنه يغدو من السائغ بل من المطلوب دراسة أنواع الخطاب المختلفة في ضوء العلاقة التفاعلية التي تجمعها بالسياقات الفكرية والعقدية التي ارتبطت بها أو انبثقت عنها. ويفضي ذلك إلى أن إدماج أنواع الخطاب التي صاغها ابن قتيبة في سياقات فكرية وأنساق ثقافية أوسع يظهر حاجتها إلى القراءة والتأويل في ضوء النسق الفكري والعقدي الذي صدرت عنه، فقد ثبت لدينا من فحص أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة أنها تترجم مقولات العقيدة السنية التي حكمت إنجازها ووجهت صياغتها. -ما هي أهم القضايا التي تشغل تفكيركم هذه الأيام؟ تشغلني حاليا عديد من القضايا والإشكالات التي تستبد باهتمامي وتستحوذ على تفكيري. وهي قضايا يمكن أن تشكل منطلقا لمشاريع بحثية في المستقبل. من ذلك التفكير في ظاهرة الوحي كما عالجها بعض المفكرين المعاصرين أمثال الجابري وأركون وجعيط وأبو زيد، كما تشغلني مسألة الممارسات النقدية والتأويلات المعاصرة للنص القرآني باعتبارها طريقة مخصوصة في الفهم والتأويل يحدوها طموح إلى الاقتراب من المعنى الإلهي الوحيد والأصلي الذي يظل عصيا عن التحديد بشكل كلي ودقيق مما يجعل كل تفسير للقول القرآني المعجز محاولة تنشد الإحاطة بالمعنى الواحد والمطلق الذي تضمنته "رسالة" السماء إلى الأرض. وبذلك تغدو جميع التفاسير، مهما اختلفت مشاربها وتباينت مقاصدها، لا تخرج عن كونها سعيا إلى التطابق مع القصد المتعالي والممتنع لخطاب يتميز من سائر الخطابات الأخرى بأن باثه ليس له أي حضور مادي. وبذلك تغدو التفاسير المختلفة التي أنتجها المفسرون قديما وحديثا أثرا للمعنى؛ أي معان تأويلية وليست هي المعنى الوحيد المقصود، لأن "معاني القرآن" قابلة للتعدد والاتساع مع الزمن لكون باثها يتملك معرفة مطلقة لا حدود لها. وفي الأفق أيضا تفكير في إنجاز تحليل نصي لمطولات محمود درويش بهدف الكشف عن الخطة الجمالية التي اجترحها في هذا الصنف من النصوص التي تجنح إلى التركيب والتعقيد. مما جعلها تتحول إلى صيغة جمالية تستدعي مطلق ممكنات التعبير الشعري ومختلف عناصر الأداء الجمالي من أجل تجسيد وتمثيل حاضر الواقع العربي على نحو يراعي متطلبات العمل الأدبي.