Tweet أدمنت عادة التيه و أحلام اليقظة منذ نعومة أظافري، و عشت وسط هذا الديدن إلى يومي الحاضر. كلما شاهدت أو سمعت عملا أو صنيعا تتسم أحداثه بالشجاعة و النبل و الرقي، إلا و تشدني وقائعه إلى عالمه و تجدني و بكل حرفية أصمم له أبهى الديكورات من وحي خيالي الشاسع كما أطلق العنان لفكري ليتيه في عوالم الخيال ألا منتهي لصياغة السيناريوهات المتماشية مع الحدث و انتقاء الشخصيات المحورية التي ستجسد وقائع العمل الذي أنتقي لنفسي دور البطل فيه طبعا. في غالب الأوقات، أجد نفسي غير التي أعرفها، تسكنني عدة أرواح من عوالم مختلفة، فتارة أجدني مصلحا اجتماعيا ذائع الصيت و تارة أخرى بطلا رياضيا من العيار الثقيل. الشئ الوحيد الذي لا أقوى على تجسيده و لا أعرف لذاته طريقا و لو عبر الخيال هو الغنى و اليسار، لأنني هكذا خلقت و ترعرعت وسط أسرة هي رمز ل: (الزلط) الفقر المدقع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أنا و أسرتي نشكل امتدادا لكل مرادفات الإملاق و لا فخر !. كانت تراودني مرارا فكرة القمار عن طريق أوراق الرهان (اللوطو) لأن حدسي يصر بل يكاد يجزم على أنني سأفوز بالرهان لا محالة. بدون نقاش، وجدتني أملئ خانات ورقة اليانصيب التي أديت ثمنها و أودعتها لتقرر مصيري الغامض. مرت أيام، و بينما أنا أجوب شوارع و أزقة المدينة كعادتي، إذا بي ألمح سبورة معلقة بباب كشك و قد دونت عليها الأرقام الصحيحة لليانصيب (اللوطو). تفقدت ورقتي من أجل المطابقة و اتضح لي أنني تركتها بالبيت، و بالرغم من هذا بدت لي الأرقام الصحيحة هي التي راهنت عليها رقما.. رقما و كأني أراها بأم عيني على ورقتي، قمت بنسخ الأرقام الصحيحة لأتأكد من مطابقتها متى وصلت بيتي. هرولت مسرعا إلى محطة الباص، و في طريقي أطلقت العنان لفكري ليسبح في عالم المال و الأعمال. ترى كم ستكون حصتي من أرباح اليانصيب ؟ عشرة، عشرون مليونا أو ربما أكثر !! لا...لا يستحمل فكري أكثر من هذا، فذاكرتي لا تطيق تخزين مثل هذه الأعداد أكيد ستختل موازين عقلي و سأصاب بمس من الجنون لو فاق الربح هذا العدد، المهم أنا الآن من المفترض أنني مليونير !!!! وصلت المحطة و اقتنيت تذكرة الباص بآخر ما تبقى بجيبي من دريهمات و أخدت مكانا في أقصى الحافلة و عدت للتوهان من جديد، ما تركت عالما إلا و طرقت بابه ابتغاء فرض سيطرتي على كل الأوضاع، الشاذة منها و السوية. جبت كل أحياء المدينة بحثا عن سكن يليق بمقامي انتماءا لوضعي الراهن، اقتنيت أفخر الثياب لي و لعائلتي، سافرت أنا و زوجتي و عيالي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بمراكش البهية، نزلت و أهلي بفندق فاخر، نمت على سرير ذو نمارق من سندس و حلمت في حلمي أنني أحلم....أحلم....أحلم. و صحوت على صوت أجش و يد خشنة تنهش عظامي : أنت يا سيدي...قم من نومك فقد وصل الباص إلى المنتهى « terminus » كان هذا جابي الحافلة من قض مضجعي و حرمني حلو المنام. ترجلت من على الباص لأجدني و بفعل التوهان، تجاوزت الحي الذي أقطن فيه بثلاثة كيلومترات و نيف، جيوبي فارغة إلا من بعض حبات الحمص المقلي لأجل التسالي؛ المهم، أخدت جادة العودة راجلا و الفرحة لا تسعني متى تذكرت أنه بعد قليل سأصبح من أهل اليسار، من ذوي النعم. وصلت أخيرا و العرق يتصبب من جبيني و قلبي يكاد ينط للخارج من شدة الخفقان، تنفست الصعداء، طلبت كوبا من الماء لإخماد لهيب الشوق. بحثت عن أملي الضائع، عن أمنية عمري، عن كنوزي الدفينة في أغوار الأرض، في ساحق العهود؛ هي ورقة مدون على بياضها أرقام أكيد ستغير مجرى حياتي، ستجعلني أدور مع الزمن عكس دوران عقارب ساعة النحس الذي أرهقني و جعل مني كائنا عدمه أحسن من كينونته. و جدت ضالتي، و جدتها في جيب معطفي العتيق، الذي أكل عليه الدهر و شرب و قهقه حتى استلقى على قفاه. الآن أصبح بإمكاني مقارنة الأرقام؛ قارنت الصحيحة منها مع التي ألهمتني إياها بنات أفكاري (الغانيات، الساقطات، اللقيطات، بنات المواخير) و جدت الفرق بين الاثنين شاسع كالذي بين السموات و الأرض أو يزيد. عرفت قدر نفسي، و أن ربي سبحانه خلقني لأكون ما أنا عليه حتى إشعار آخر.