الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه الكريم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فيقول ربنا الكريم في محكم كتابه { وأما بنعمة ربك فحدث} الآية. ألا وإن من نعم الله تعالى العظيمة على هذه الأمة: أن قيض لها رجالا أفذاذا، يعلمونها دينها ويهدونها سواء السبيل ! وإن من نعم الله تعالى على هذا البلد الحبيب عموما ومدينة القصر الكبير خصوصا : أن قيض الله له ولها: رجلا شهما ،عالما صادقا، وواعظا مخلصا، وداعية بارزا، حالا ومقالا !! إنه الشيخ سيدي "مصطفى شتوان". يعرفه الكبير والصغير ، الذكر والانثى ، الحاضر والبادي.. ،لا يختلف فيه اثنان ولا يتناطح فيه عنزان !!شمس ساطعة في سماء الدعوة إلى الله على صعيد المملكة عموما ، وعلى صعيد المدينة خصوصا. رجل رزق من العلم والعمل والحكمة الحظ الوافر، ذو نفس طويل في الدعوة والتعليم، لا يكلّ ولا يملّ ، لا يقصر في واجبه مهما كانت ظروفه. أقول هذا بملء في ودون مبالغة !! لأنني أعرف الرجل ؛ فقد عاشرته وسافرت معه، (ويعرفه كل من عاشره وسافر معه وتربى عليه في أحضان دروسه.) فلم أر فيه إلا الرحمة والخير والإحسان والكرم . ونحن اليوم نشتغل معا بمدرسة سيدي"عبد الجليل القصري" رحمه الله؛ فهو رئيس جمعيتها، و بشهادة جميع الأطر الإدارية والتربويةللمؤسسة، من سابقه أو لاحقه، لم نر فيه ،منذ أن التحق بالمؤسسة ، إلا الصبر والتحمل والتضحية والعطاء ،بكل ما يملك من مال وجهد ، رغم كبر سنه !! فهو بحق يمثل قطب الراحة في المؤسسة، والمحور الذي يدور عليه كل شيء ! تراه صلبا شامخا في مواطن الزعازع ،لا يميل يمينا ولا يسارا ، يقود السفينة بحنكة وحكمة وتؤدة، في جو مصحوب بالرحمة والرفق والصبر ! مرت بالمؤسسة ظروف قاسية ، ومحن صعبة ، لا يثبت في تيارها إلا الرجال الأفذاذ ؛ فكان -حفظه الله- وتد الخيمة الذي لا يتزعزع مهما كانت الرياح شديدة. صبرا، ومصابرة ، وتثبيتا ، وتحفيزا، ودعما . . رجل يسع قلبه الجميع..لا يعرف الحقد والكراهية إليه سبيلا.. جندي من جنود الله في خدمة: العلم والدعوة والتربية. تتسم دعوته بالرفق واللين والاعتدال ، لا يتقطب ، ولا يعبس ، ولا يكفهر..، دروسه في التفسير والحديث والسيرة آية من آيات الله. يدير الدرس بإتقان، في جو من البسط والمرح، ببشاشة رقيقة تفتح القلوب، وتأسر العقول. يملكك ببشاشته ، ويسحرك بلسانه ويحتضنك بعطفه ، يأخذ بلبك ويذهب به بعيدا في معاني القرآن والحديث والسيرة ،في جو إيماني رباني ..، بوجه طلق يعلوه نور الإيمان والهداية. .لا تمل حديثه ودروسه . بل تنتعش ،وتحيى، وتزداد إيمانا وإيقانا ..إلا إذا كان السامع مطبوعا على قلبه، لا ينفع فيه نصح ناصح ولا وعظ واعظ.. ! إن مدينة القصر الكبير حباها الله بهذه الشخصية الفذة المباركة، نعمة أنعمها الله عليها، ورحمة خصها بها، لجديرة بالاعتزاز والفخر والاحتفال بهذا الرجل الشهم والداعية الحكيم، ولجديرة بأداء واجب المعروف اتجاهه .فلا أقل من أن تعرف به ، وبمكانته: العلمية، والتعليمية ،والدعوية، والتربوية.. فيعرفه الجميع ويدرج في سلك أعلام مدينة القصر الكبير المباركة ، مدينة الأولياء والعلماء والقراء والصلحاء الاتقياء .. فمن هو سيدي مصطفى المعروف ب "با شتوان"؟ ماهي مسيرته العلمية والتعليمية؟ وماهي جهوده الدعوية وآثاره التربوية؟ من خلال هذه الأسئلة نحاول أن نبسط بين يدي القارئ، في هذه الورقات القليلة في حقه، معالم بارزة من حياته العلمية والعملية والدعوية.. عسى أن نؤدي بعضا من حقوقه علينا.. سائلين الله تعالى السداد والتوفيق. هذا، وقد سبقني أحد الفضلاء من أبناء هذه المدينة المباركة يدعى " جمال عتو" إلى التعريف بالشيخ سيدي مصطفى على صفحاته في الفيس، فذكر جملا لا بأس بها من حياته وجهوده وآثاره.. فله جزيل الشكر والامتنان.. فهذه معالم من حياته ، معظمها استقيته من عنده ، حتى يكون السند متصلا والتوثيق محكما. &_ نسبه وميلاده: هو الشيخ العالم المربي سيدي مصطفى شتوان المزداد في قرية (تازة) بقبيلة بني بوزرة من قبائل غمارة عمالة شفشاون، ناحية الشمال المغربي سنة 1938م. عاش -حفظه الله – وشب في أسرة محترمة ميسورة – ولله الحمد والمنة – بين أب وأم وثلاث أخوات رحمة الله عليهن جميعا. كان مدللا محبوبا عند الأسرة . وخاصة: أنه كان الولد الذكر الوحيد بينهم. &_ رحلته في طلب القرآن الكريم: وبما أن والده – رحمه الله – كان من حفاظ القرآن الكريم ، فإنه سهَر على تحفيظه القرآن الكريم، وما بلغ سن 12 من عمره ،حتى كان حاملا للقرآن الكريم بتوفيق من الله سبحانه. فوالده يعدّ أول شيوخه الذين تلقى عنهم القرآن. وكان من قدر الله أن توفيت والدته- رحمها الله – وهو في نفس العمر، فتزوج أبوه امرأة أخرى، وكانت قاسية عليه وعلى إخوته . (سامحها الله كذا قال)؛ لذلك قرر أن يغادر البيت الذي ترعرع فيه، وقصد المساجد المشهورة في قبيلته بكثرة طلبة حفاظ القرآن الكريم، وشهرة شيوخها المعروفين عند الناس بضبطهم وإتقانهم لقواعد التجويد والترتيل. فقام بالتجوال على الكثير منهم في رحلاته التي تسمى في عرف أهل القرآن ب"التخنيشة". والتخنيشة معناها: أن يحمل طالب القرآن لوحه وقلمه ودواته وفراشه في "خنشة"، ثم يذهب متجولا في القرى والبوادي، باحثا عن شيخ ماهر ليتمم عليه حفظ القرآن أو ليصفيه ويغربله من ناحية الرسم والضبط والأداء.. وقد استفاد كثيرا منهم في رحلاته التي استغرقت أربع سنوات، من أجل التمكن من الحفظ ومعرفة قواعد الرسم والضبط. من سنة 1950م إلى سنة 1954م &_ رحلته في طلب العلم: كان من حسن حظه لما عاد إلى قريته أن التقى بعالم جليل خريج جامعة القرويين بفاس، وقد تم تعيينه خطيبا للجمعة بقريته. هذا العالم الجليل رحمه الله كان يسمى قيد حياته السيد العياشي أعراب الذي ضحّى بكل عمره في هذا المسجد يدرّس العلوم: اللغوية ،والفقهية.. للطلبة . وقد تخرج على يده أفواج من العلماء طيلة مدة حياته. وما كان من السيد" مصطفى شتوان" إلا أن يتتلمذ على يد الشيخ الجليل، ويشرع في قراءة ما كان يدرسه من علوم مختلفة. وقد لازمه لزوم الظل لصاحبه ،لا يفارقه في طريقه إلى منزله أو إلى أي مكان يذهب إليه، حتى صار كأنه أحد أبنائه. فاستفاد منه كثيرا :علما ،وعملا، ودعاء ، وعطفا، وحنانا.. قضى معه أربع سنوات تقريبا وهو ينهل من علمه وأخلاقه. ثم استشاره فيما سيقبل عليه في مستقبله، هل سيستمر في طلب العلم؟ أم يعود للعمل كما كان سائرا في قريته؟ فجاء جوابه بضربة بيده بين كتفيه قائلا: عليك بطلب العلم. وكررها مرارا. ثم قال له: إياك أن تستبدل العلم بغيره (ولعل العبارة الفصيحة : أن تستبدل غير العلم بالعلم), ما دمت صغيرا وقابلا للتعلم. نصيحة ملؤها الصدق والإخلاص والحب !! وما هذا الإلحاح والتحريض على طلب العلم إلا دليل واضح على ذلك !! على أثر هذه النصيحة ، بادر بالذهاب إلى مدينة (تطوان) ،فدخل المعهد الديني، كما كان يسمى آنذاك. وكان ذلك سنة 1956م. وكان الباب مفتوحا عندهم لاختيار المستوى المطلوب ، مع اجتياز امتحان الولوج إلى ذلك المستوى. اختار السيد مصطفى المستوى الثانوي . وامتحن فيه فنجح بإذن الله. فشرع في الدراسة والتحصيل بالمعهد .. ولكنه لشدة ولوعه بالعلم وحرصه عليه، لم يكن يكتفي بما يدرسه في المعهد الديني، بل كان يتجول على العلماء الذين يقومون بالتدريس في أي مكان، ولا سيما : أن علماء مدينة تطوان، آنذاك، كانوا يقومون بالتدريس التطوعي في المساجد والزوايا وبعض المؤسسات، كدروس السيد : محمد التجكاني، ومحمد بن تاووت، ومحمد الخراز، وغيرهم كثير من الاسماء التي ملأت الساحة العلمية آنذاك. أما الأساتذة الذين كان يدرس عندهم في المعهد، فكانوا كلهم فطاحل في العلوم المدرسة. وكان من حسن حظه أيضا أنه صادف حين دراسته بالمعهد الديني مجموعة من الأساتذة الذين جلبهم المغرب من باقي الدول العربية: كمصر، وسوريا، وفلسطين ..، فاستفاد منهم استفادة كبرى، ولا سيما في العلوم المعاصرة آنذاك: كالرياضيات، والهندسة ،والفزياء، والكمياء ،والاجتماعيات.. ومع الأسف، أنه بمجرد ما انتهت سنوات الدراسة الثانوية،حتى اختارت الدولة منهم مجموعة من الطلبة ليقوموا بتدريس أبناء الوطن . فتم تدريبهم سنة كاملة ليعينوا بعدها في مدارس المغرب . &_ نشاطه التعليمي والتربوي: كان من نصيبه أن يعين بغرب المغرب سنة 1963م/ بمدرسة (احد كورت) الابتدائية ، ولم يمض عليه ثلات سنوات بها ،حتى شارك في الامتحان للانتقال إلى الثانوي ، فنجح وأصبح أستاذا للسلك الأول آنذاك. وفي سنة 1977/1978 انتقل من (أحد كورت) إلى إعدادية المنصور الذهبي بالقصر الكبير. قضى في التعليم أربعين (40) سنة. 20سنة منها في التدريس. و20 منها في الحراسة العامة للخارجية إلى أن وصل سن التقاعد فتقاعد عن التدريس في التعليم العمومي. ولكنه لم يتقاعد عن التدريس التطوعي الحر. فهو ما زال يواصل نشاطه التعليمي والوعظي والإرشادي؛ فهو يقوم بالدروس التطوعية الحرة في التفسير والحديث والسيرة.. و يدرس بمؤسسة عبد الجليل القصري للتعليم العتيق ، وسبق أن درس بمؤسسة القاضي عياض للتعليم العتيق أيضا بالعرائش، وبمؤسسة الفرقان كذلك بالقصر الكبير. رجل معطاء لا يكل ولا يمل حفظه الله. هذا ، بالإضافة إلى أنه خطيب الجمعة منذ الستينيات من القرن العشرين إلى الآن. &_ نشاطه العلمي والدعوي: هو ما زال إلى الآن واعظا ومرشدا بشهادة المجالس العلمية بالمملكة: المجلس العلمي بمكناس سنة 1989م، تحت رئاسة: مولاي مصطفى العلوي. المجلس العلمي بتطوان سنة 1999م تحت رئاسة :ادريس بنخليفة. المجلس العلمي بالعرائش 2000م تحت رئاسة: ادريس بن الضاوية. المجلس العلمي بسيدي قاسم سنة 2001م تحت رئاسة : عبد اللطيف الميموني. وما زال واعظا ومرشدا بالسجن المحلي لمدينة القصر الكبير. بل وبمختلف جهات المملكة. كما أنه عضو تابع لرابطة علماء المغرب منذ عهد السيد : المكي الناصري، (1993) وأحمد بن شقرون( 1995)، وأستاذ ورئيس لجمعية المحافظة على التعليم العتيق بمدرسة عبد الجليل القصري بمدينة القصر الكبير. كما أنه يقوم بتأطير الحجاج كل سنة، وبتأطير وتكوين فقهاء المساجد بمسجد عين عبيد. وقد منح بفضل الله ومنته عدة رسائل شكر وتشجيع من طرف رؤساء المصالح الدينية والمدنية والاجتماعية . وله عدة مساهمات في الحقل الوطني والاجتماعي، كالقيام بالمحاضرات عند مناسباتها، وإلقاء بعض الدروس في الإذاعة الوطنية، وتأليف بعض الكتب التي لم تعرف النور بعد ك: كتاب الخطيب في الترغيب والترهيب. وكتاب "مرشد الحجاج". وكتاب "صرخات مستصرخ". كتب حررها ووزعها على بعض أصدقائه. ولم يتأت له إلى الآن أن يقوم بطبعها.. وختاما أقول : رجل تربت على يديه أجيال كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى .وساهم بشكل واضح في بناء العقلية المسلمة المعتدلة ظهر أثرها على مستوى ساكنة المدينة، وعلى مستوى الطلبة والتلاميذ الذين درسوا عليه، والذين استمعوا لدروسه ."لا يمكن ذكر مدينة القصر الكبير، برموزها ورجالاتها المؤثرين في الزمن المعاصر من دون استحضار شخصيته البارزة التي أثرت في تدين أجيال قصراوية متعاقبة" لا ينكر هذا وبحمده إلا من في قلبه مرض وسوء طوية وحقد دفين..، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه. هذه بعض معالم من سيرة الشيخ مصطفى باشتوان. وهي غيض من فيض . أسأل الله تعالى أن يمد في عمره ، ويبارك له في وقته وعمله، وأن يجعل عمله خالصا لوجهه الكريم. إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والحمد لله رب العالمين.