دار وحكاية سلسلة رمضانية يعدها الأستاذ عبد المالك العسري – الحلقة 20 تستضيف الأستاذ محمد الوهابي تحت عتبة : الدار أو : فضاء التذكر والعبور. ***** الأغنية أو: ذاكرة الصوت والإيقاع1 أنا يما ويا لالة يلالي الله الله أنا يما ويا لعايلا مولاتي الله الله أنا يما واللي عاداك عاداني أنا يما واللي غيرك قولالي أنا يما آجيني واجيني الله الله أنا يما واجي على عيناهم أنا يما ما عمرك في يد الله الله الله أنا يما ماشي على يداهم أنا يما ويا الله معايا ويا الله الله الله أنا يما ن الخلا و الخلوية أنا يما من عدلك ما فقلبي أنا يما باش تعرف ما بيا أنا يما ما الواد هاواد هاواد الله الله أنا يما ما غطاشي يبيعو أنا يما حقي فيك يا لحبيبة الله الله أنا يما ما نرهنو ما نبيعو أنا يما وما الوردة يا لالة الله الله أنا يما طاح الشتا وزيانت أنا يما ويشم فيها العاشق الله الله أنا يما ويردا فين كانت أنا يما ويا لالة يلالي الله الله أنا يما واللي عاداك عاداني أنا يما واللي غيرك قولالي * لقد وثق الفتى هذه الأغنية سنوات بعد سماعها أول مرة، فأحب اليوم أن يقتسمها مع عشاق الأغنية الشعبية النسوية الشمالية. *حبق وقرنفل ومرددوش أو: ذاكرة الأزهار والعطور لم يكن الفتى الصغير قد أكمل سنته العاشرة بعد لما تناهت، لأول مرة، إلى سمعه كلمات وأنغام لم يألفها في داره، تنساب كماء عذب سلسبيل في ثنايا صوت رخيم لطالما شده إليه شدا، وأسره أسرا، فراح يتقصى مصدر هذا الصوت الشجي، وهو يتخيل تلك المغنيات الحسناوات اللواتي كن لا يبارحن الأفلام المصرية واللبنانية التي كان يذهب لمشاهدتها، بفرح وحبور نادرين، رفقه أفراد العائلة كل جمعة تقريبا ، لكنه لم يتبين له أثرا بسبب تعدد الدور وتقاربها، بل وتجاورها الشديد من جهة، ولعدم وجود عادة ظهور النساء على شرفات المنازل من جهة أخرى، فعاد خائبا لا يلوي على صوت! وسوف لن يطول به الانتظار ليكتشف ذات صباح باكر ربيعي ندي، وهو يجلس إلى جوار والدته وهي تعتني بالنباتات والزهور -هوايتها الأثيرة- على شرفة الدار، بأن صاحبة ذلك الصوت العذب لم تكن سوى “إسطير” الجارة اليهودية، زوجة “عيوش” الحلاق، التي كانت تنادي على والدته بين الفينة والأخرى، بأدب جم، واحترام نادر تطلب منها مدها بغصينات من نبات “المردْدُّوش” العطري كي تضعه في كأس الحليب المغلى، فطورها المفضل…، لقد أخذت نصيبها من النبتة الزكية شاكرة، وداعية لوالدته بالصحة والعافية، وبحجة ميمونة مع من تحب، ولأبنائها بالنجاح والتوفيق…، وما كادت والدة الفتى ترد التحية حتى بادرتها بالاعتذار، إن كانت تزعج الأسرة بصوتها وهي تغني، فهي تحب الغناء، ولا تشعر إلا وصوتها ينفلت منها مترنما بما جادت به ذاكرتها الموسيقية الغنية بكل ألوان التراث الغنائي الشعبي المغربي، ولا سيما الشمالي منه، والذي ورثته عن جدتها حسبما كانت تروي بزهو واعتزاز. استمعت إليها والدة الفتى بهدوئها المعهود حتى أكملت حديثها ثم حيتها مخبرة إياها بأن كل من في الدار معجب بصوتها الطروب. شكرت “إسطير” جارتها على هذا التفهم الذي لم تكن، ربما، تتوقعه، وانصرفت إلى داخل شقتها وقد بدأ صوتها الرخيم يعلو ويسمع من جديد… لقد كانت أسرة الفتى الصغير حديثة السكن بالحي، ولكنها سرعان ما نسجت علاقات طيبة مع معظم الجيران، من مسلمين ويهود…، لم تستغرق زمنا طويلا لتستحيل إلى مودة ظلت مستمرة موصولة لسنوات لاحقة، حتى بعد أن انتقلت الأسرة إلى دور أخرى، من أحياء مختلفة من المدينة. *(سواء في سينما “الطبيعة”، أو: “الطياطرو العريان” كما كان يسمى شعبيا، أو سينما “ألفونصو الثالث عشر”، التي أصبحت تعرف بسينما بيريس كالدوس أو: “طياطرو السويقة”، وسينما “أسطوريا”، أو سينما “المنصور” بدار غيلان في زمن متأخر.) درب النمار: أو ذاكرة المكان والألفة كان لحي الديوان العتيق، بمدينة القصر الكبير، أكثر من مدخل، فهو يحتل من المدينة القديمة، موقع القلب، وقد كان يضم الكثير من التجار الصغار، وأصحاب الصنائع والحرف، من مسلمين ويهود، فضلا عن الحمام والفرن، والمساجد والزوايا المنتشرة بين أزقته ودروبه، وباقي المرافق الحيوية المعتادة في كل المدن المغربية العتيقة. وكان، وما يزال، “درب النمار” من مداخله الرئيسية، وكانت تقطنه ساكنة متنوعة من حيث أصولها الاجتماعية ومعتقداتها الدينية، ومستواها الاجتماعي والاقتصادي…، ومع ذلك لم يشعر الفتى الصغير، وهو يرافق أقرانه من أبناء الحي بأي تميز لأحد عن سواه، لذا كان يقضي أوقاتا طويلة يلعب في دور الجيران، بل لم يكن أبناء وبنات “أفلالو”، بائع الدراجات الهوائية ومكريها، يجدون غضاضة في طرق باب الدار، والسؤال عليه -كما كان يفعل هو أيضا- من أجل تبادل قصص الأطفال المصورة، أو اللعب داخل الدار أو بجوارها، رفقة بعض الأطفال الآخرين…، وهو ما كان يثير قلق جارتنا اليهودية الأخرى المقابلة لدارنا، السيدة العجوز “راحيل”، والتي كانت المسكينة تعاني من شيخوخة متقدمة، ومن أمراض مزمنة لم تبق لها من قوة، أو حتى قدرة على الوقوف الطويل، أو المشي لمسافة قصيرة حتى الدكان، رغم قربه، لقضاء أغراضها حين يتأخر عنها رجل كان يتردد على دارها ليساعدها على المشي في الزقاق تارة، أو ليأتيها بما كانت تحتاجه من أمور تارة أخرى. ولم يستطع الفتى الصغير، رغم قوة ملاحظته، معرفة طبيعة العلاقة التي تربطها به… الدار أو: ذاكرة الجوار والمحبة تتعدد الحكايات لدى الفتى الصغير بتعدد الدور التي تنقلت بينها عائلته، والتي شملت أكثر من حي من مدينة القصر الكبير؛ من “سكرينيا”، إلى “باب الواد”، إلى سيدي “الكامل”…، وقد بقي يحمل في ذاكرته ومخيلته لكل دار حكاية، ولكل زقاق قصة، ولكل حي ذكرى. إلا أن بعض تلك الدور انفردت بآثارها على عقل الفتى ووجدانه أكثر من غيرها، وطبعت شخصيته بملامح وصفات، وقيم وأخلاق ومواقف رافقته بقية حياته، وأضحت ميسما يسم كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، حتى إنه لا يستطيع أن يميز بين ما اخذه عن والديه، وما أخذه عن الجيران الذين كان كل واحد منهم يعتبر أبناء الحي، وليس الزقاق فحسب، أبناءه، وأن تربيتهم جزء لا يتجزأ من مسؤولياته إزاء أصدقائه وجيرانه، بغض النظر عن أصلهم أو دينهم…، وفاء لروح المحبة، وتكريما لمبدإ الجوار… لقد كانت الدار التي سكنتها العائلة ب(درب النمار) زمنئذ تتكون من طابقين؛ سفلي وتقطنه عائلة يهودية قصرية من أربعة أفراد؛ رب الأسرة (مردوخ) وزوجته (صول)، وبنتاهما: البكر وتسمى (مسعودة) والصغرى وتدعى (راشيل)، والتي كانت حالة فريدة من الحسن والجمال، وخفة الروح، والمحبة والإقبال على الحياة، ولم تكن تضاهيها في كل ذلك إلا الحسناء الإسبانية “ماري ليلي” ابنة إرنسطو. وكثيرا ما كان الفتى الصغير يتساءل و هو ينظر إليها بإعجاب: من أين أتت هاته الفتاة بكل هذا الحسن والجمال؟ فليس في عائلتها –على ما يبدو- من يحمل جينات يمكن أن تنقل كل هذا الذي لم يكن يسعفه معجمه الصغير على وصفه…! لم نكن نتقاسم الدار وحسب، بل كنا نتقاسم، كذلك، التقدير والاحترام، ونتشاطر الأفراح والأتراح، ونتبادل محبة يصعب أن تجدها اليوم بين جار وجاره. لقد كنا نتبادل الهدايا والحلويات والرقاقة وغيرها، بمناسبه الأعياد الدينية والوطنية. فلطالما سمع الفتى (صول) و(مسعودة) تسران لوالدته، وهما تتنهدان بأسىً عميق بأن المسلمين إخواننا، وقد كانوا على الدوام ملاذنا حينما كانت تشتد بنا الأزمات، وتحف بنا الشدائد والنكبات من كل جانب، فنحن كلنا مغاربة في نهاية المطاف، ولولا (شيدي محمد الخامش الله يرحمو، وشيدي الحشن الثاني الله ينصرو ما عرف آش كان غنكونو دابا…؟!) لقد كانت صورة الملكين تتصدر دار مردوخ، كما باقي بيوت الأسر اليهودية التي أتيح للفتى دخولها. وقد كان الكثير من القصريين المسلمين يشتركون مع مواطنيهم اليهود التجارة والفلاحة… وأمورا أخرى بصدق، ووفاء وإخلاص. ولم تكن للقصريين مثل هذه العلاقة المتميزة بالإسبان، رغم ما كان يجمعهم من احترام…؛ لإحساسهم بأنهم أبناء وحفدة المعمرين، وبأن وجودهم بالمدينة عرضي مؤقت مهما طال. ورغم الانفتاح الذي كانوا يبدونه تجاه جيرانهم القصريين، فقد ظلوا يعانون من وعي شقي لم يفارقهم أبدا، الأمر الذي جعلهم أكثر تحفظا في معاملاتهم مع أهل البلد، ويتقوقعون على أنفسهم شيئا فشيئا -إلا على فئة قليلة من أهل المدينة ممن كانت تجمعهم بها روابط خاصة- إلى أن رحل آخر إسباني عن المدينة، تاركين وراءهم آثارا وقصصا، وحكايات تروى، وعلاقات إنسانية لا زال الأبناء والأحفاد يذكرونها بحنين حارق كلما أتيحت لهم الفرصة لذلك، ولو على صفحات افتراضية… لا تزيد لوعتهم إلا اشتعالا… ولم ينس الفتى الذي كبر اليوم، وتقدم به العمر أصدقاءه وجيرانه من آل إرنيسطو، وأنطونيو لوبيز، وباكو، وأبناءهم وبناتهم وغيرهم ممن قضى معهم سنوات لا تنسى من طفولته بحي سيدي الكامل تبدو أمامه اليوم كما لو كانت مجرد استعارات جميلة في تضاعيف نص شعري عذب رقيق… لم تكن عائلة (مردوخ) من العائلات اليهودية الثرية بالمدينة، فقد كان رب الأسرة يملك دكانا بحي الديوان عند نهاية الزقاق الذي كنا نقطنه، يبيع فيه بعض الحلويات للأطفال، وملفوفات من “السفة” كثيرا ما كان الفتى يذهب مع أقرانه لشرائها، وبمجرد ما يراهم مقبلين على دكانه يرفع صوته الوهن أصلا قائلا لهم: (السفة والنفة وعويد القرفة و… ديماك شارفة)، ثم يطلق قهقهات ألف الفتى سماعها وهي تتعالى منبعثة من الدور الأرضي، مسكن مردوخ، معلنة عن لحظات فرح خاصة كان يعرف دائما بدايتها، ولكنه لم يدرك أبدا نهايتها… لم تكن هذه هي التجارة الوحيدة التي تعتاش منها عائلة “مردوخ”، بل كانوا يتعاطون تجارة أخرى أهم من السابقة، والتي كانت تدر عليهم مالا أكثر، قليل من سكان المدينة من كان له علم بها. لقد كانوا في فصل الربيع يشترون زهر البرتقال والليمون من عمال الضيعات الفلاحية التي يملكها الإسبان، ويعملون على تقطيره بطريقة تقليدية، تجعل الدار، بل والزقاق يفوح عطرا (أو روح الزهر) كما كانوا يسمونه، والذي كنا أول من يتوصل بنصيبنا منه. وكم قضى الفتى من الأوقات وهو يجلس متأملا إلى جانب “راشيل” يتأمل ” مسعودة ” وهي تقوم بذلك الطقس الكيميائي العجيب – مثل خيميائيي (أوسيميائيي ) القرون الوسطى ، الذين يحولون المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة- والذي لم يبارح ذاكرته وخياله . أما النشاط التجاري الثاني، فقد كان أكثر سرية، ولم يسمح قط للفتى بحضور أعماله، إذ كانوا يشترون التين المجفف من سكان البادية المجاورة للمدينة في الصيف، ويتركونه يتخمر في براميل على السطح حتى بداية أو منتصف شتنبر، ثم يبدأون في تقطير “ماء الحياة”، ولم تكن الرائحة هذه المرة بالطيبة على الإطلاق، بل كانت مزعجة لنا ولبقية الجيران من غير اليهود، ومع ذلك، كانت العائلة تتحملها على مضض، لعلمها بأن تلك التجارة كانت موردا لرزقهم، فقد كان الوالد رحمه الله يقول: (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق)، وقد كانت صنعتهم تلك من أسباب مغادرتنا لتلك الدار لاحقا. كثيرة هي الذكريات التي علقت بذاكرة الفتى الصغير في تلك الدار، إلا أن أكثرها أثرا في نفسه، والتي خلقت لديه رجة عميقة لم يتخلص من آثارها إلا بعد حين، وتركت لديه أسئلة لم يتمكن من إيجاد الأجوبة الشافية لها إلا بعد أن بلغ من النضج ما بلغ. والمقصود هنا ما حصل لليهود بمدينة القصر الكبير عامة، وبحي الديوان والأزقة المتفرعة عنه، ومنها الزقاق حيث كانت الدار التي عاش فيها بمعية أسرته، متجاورين مع آل مردوخ خاصة -بسبب حرب يونيو 1967- من اضطهاد، وما تعرضوا له من عنف وتنكيل من طرف اطفال وشباب جاهل، يأتي من هوامش المدينة ومن بعض أحيائها القريبة ليلقي بجام غضبه على مواطنين بسطاء، ذنبهم الوحيد أنهم من عقيدة مختلفة، وكما لو أنهم كانوا هم من ضرب طائرات عبد الناصر في مرابضها، واحتلوا أجزاء إضافية من أرض العرب…!؟ قمة اختلال المنطق، وانهيار القيم، وضحالة التفكير، هو ما رآه الفتى رأي العين، وعاشه بألم كبير. لا يمكن للفتى أن ينسى كيف كانت سلطات المدينة، وبعض فضلاء الحي يعملون على حماية تلك الاسر المنكوبة التي عاشت رعبا حقيقيا كان سببا مباشرا في هجرتها للمدينة إلى الدارالبيضاء او سبتة أو إسبانيا… الخ. كما أنه لم يكن لينسى كيف كان مفتشان من الشرطة لا يزال يذكر اسمهما: السباعي وقد كان نحيفا أسمر اللون، وعلي وقد كان أبيضا وسيما أنيق الملبس، يحمل خالة على أحد خديه؛ يقضيان الليل والنهار يدرعان الزقاق جيئة وذهابا، يحرسان منازل الأسر اليهودية المستهدفة، ويتربصان بفرق المعتدين القادمين فرادى وجماعات، لممارسة طقس تدميري رهيب في حق أناس أبرياء. بل كثيرا ما كان المفتش السباعي يتخفى في لحاف النساء ليتسنى له القبض على بعض من هؤلاء المغيرين، وقد ألقى القبض على عدد كبير منهم. بل أكثر من ذلك كان يقضي ليالي بالتناوب مع زميله السي علي، داخل دار مردوخ لحمايتهم، وطمأنتهم على أرواحهم وممتلكاتهم. كما أنه لا يمكن للفتى الصغير أن ينسى كيف كانت عائلته تقضي بعض الليالي ساهرة إلى جانب عائلة مردوخ في داره، وتحت حماية السيد الوالد رحمه الله، حتى يسمع صوت مؤذن مسجد بنرحمون وهو يرفع صلاة الصبح، فتستأذن السيدة صول بالانصراف إلى دارها رفقة عائلتها قائلة: (خليونا نمشيو، بارك الله فيكم، عمرنا ما نساو الخاوة ديالكم. الصبح أذن، والشريف يبغي يمشي يصلي في الجامع، تصبحو على خير…وسمحو لنا…سمحو لنا). كان يصعب على الفتى الصغير رؤية مردوخ وصول الهرمين وهما على تلك الحالة من الخوف والرعب، أما مسعودة و راشيل، فقد كان ينظر إليهما وهما يواسيان بعضهما، ويربتان على كتف بعضهما البعض وعيناهما لا تكفان عن إلقاء دمع لا ينقضي كما لو كان ينبع من عين لا تنضب… الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله