إن سؤال الهوية يطرح اليوم نفسه بإلحاح في مجتمعاتنا العربية و الإسلامية ، هذه المجتمعات التي وجدت نفسها ضحية غطرسة دولية واستلاب حضاري سبقه استعمار امبريالي )كولياني( لم يترك لهذه البلدان مقومات العيش الكريم، حيث غدا بذلك المجتمع في حالة من الاجترار المقزز لمخلفات الآخر، فأضحت بذلك الأجيال تقتات على قماماته. من هنا كان لابد من وقفة من خلالها نحاول رصد مكامن الخلل في الوعي المجتمعي و ونقف عند أسبابه، فقد لا تكون هذه الوقفة ذات أهمية في مقاربة هوية المجتمعات التي ليس لها من عمق في التاريخ ولا يد في الحضارة، إلا أنها ملحة أيما إلحاح في مجتمعات لها من التراث الحضاري والإنساني ما لا يجهله أو يتجاهله إلا جاحد أو جاهل. ومن خلال رصد بعض الظواهر في المجتمع، نجده يعيش انفصاما نكدا عن هويته، فهو لازال مبهورا بما جاء به الغرب وما جاد به من تقنية، مع العلم أن التطور التقني لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بإيديولوجية معينة بقدر ما يجد أساسه في مدى قيمة العلم والفكر والثقافة داخل هذه المجتمعات، والى أي حد تسعى الدولة إلى دعم المبادرات العلمية ومتابعتها والاستثمار فيها. وهذا ما تؤشر عليه المعطيات في هذا الباب، أما قذاراة الفكر الغربي من عري وتفسخ وإلغاء وتخمير العقل عبر السكر والعربدة وتحريك الغرائز وعدم ضبط العلاقات الجنسية بما يضمن حفظ المجتمع من الشرور والأمراض والأوبئة. ما هي إلا ضريبة تحصدها هذه الدول جراء إيديولوجيات معينة جلبت عليها الويلات وتشكل عبئا على تنميتها وازدهارها. وبالتالي فالمخبول من أخذ المغرم وترك المغنم من دول التقنية ورائدة التطور في العالم. وللأسف الشديد هذا ما حصل في مجتمعاتنا، أخذنا كل الفلسفات والإيديولوجيات الهدامة للمجتمع وكيانه وهويته، وتركنا حسناته وايجابياته، فلا تضخ الدماء في عروق مدعي الليبرالية والحداثة في بلادنا، إلا إذا تعلق الأمر بمقومات الهوية داخل المجتمع، حيث يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ليأخذوا موقعهم كمدافعين وحماة أمناء لحملات استئصال هوية المجتمع. لكن لا وجود لهم إذا تعلق الأمر بواقع المؤسسات وما تعرفه من فساد إداري ومالي، وما يعرفه الوضع اللانساني للفئات المستضعفة والمحرومة وويلات أخرى في المجتمع جديرة بحراك هذه الحركات.... وقد نتج عن كل ذلك اختلال في المعايير وتقوقع القيم الأخلاقية، حيث فأصبح على سبيل المثال معيار الاحترافية الفنية تتمثل أساسا في مدى إقدام الفنان على توصيف ما يجري في غرف النوم بإتقان وجرأة، ومدى القدرة على استثارة الغرائز لدا المتلقي عبر توظيف لقطات العري، فأصبح الرهان الفني حول من يبدي المساوئ أكثر. في حين أضحت الثقافة محصورة في الفلكلور ومسارح الرقص بشتى الأنواع ومختلف الأوضاع والمسميات.... إن هذا المجتمع لا يمكنه بأي حال أن يجد ذاته وكيانه وعمقه المتمثل في هويته، فهذا النتاج المجتمعي السيء لم يأتي مصادفة إنما هناك مسببات وسياقات معينة كان لها الدور البارز والمتحكم في تغييب الوعي والإدراك، فبوقفة موضوعية وبنظرة تأمل يتضح أن هذا المجتمع المغيب عن واقعه ومستقبله هو نتاج لأسباب عدة متعددة ومتشابكة نوردها إجمالا في التالي: - التنشئة الأسرية: هذه التنشئة والتربية التي في أحسن أحوالها لا تقوى على مواجهة ومجابهة التيارات الجارفة التي تعترض شخصية أفرادها في محطات الحياة الأساسية فالبيت الداخلي وان كانت غايته التحصين إلا انه يجد في المحيط الخارجي ما يدك كل ما قد يبنى (إن بني أصلا). - الأنظمة التعليمية غير التربوية: فكثيرا ما يقترن التعليم بالتربية إلا انه شعار لا أساس له في ارض الواقع وفي الممارسة العملية لرجالات التعليم، فالتربية مغيبة في التعليم فبدل تكريس الانتماء لهذه الأمة لدى الأجيال لكي يشربوا من معين ثراهم أعذب القيم وأحسنها بما ينمي فيهم روح الاعتزاز بتاريخهم وتراثهم ويجعلهم مؤمنين بمستقبلهم يحدوهم الأمل نحو الغد الأفضل، نجد خلاف ذلك هو الحاصل، شباب مغيب مشدوه الفكر مائع السلوك، لا تلمس فيه النخوة ولا تستشعر فيه الرجولة ضائع بين غانية وقانية لا حاضر له ولا يستجدي شيء من مستقبله. - الآلة الإعلامية الرسمية منها وغير الرسمية: هذه الآلة الكاسرة التي تعصف بكل المقومات الأخلاقية و القيمية للمجتمع وهويته فبدل أن تكون قنوات نظيفة تسعى نحوى البناء، نجدها تتحول إلى معول هدم داخل المجتمع، فالقنوات الخاصة وغير الرسمية إن وجدت ما يبرر عملها في كون معظمها تتبع خط تحريري يتماشى مع هوى ملاكها، فان القنوات الرسمية المرئية منها والإذاعية تقع عليها المسؤولية الأكبر في التوجيه وتنمية الذوق لدى المتلقي فهي ترسم من خلال برامجها توجه الدول وتحصين المجتمع.... - المجتمع مدني: هذا المجتمع الذي تجده أقسام متعددة تمثل توجهات متنوعة كل يخدم أجندة معينة، فتجد قسم منه موجود لكن بلا نفس، بحيث لا تلمس فيه حراكا ولا تأثير. وقسم آخر يخدم الحداثة ويبغي التحرر في أقبح صوره وتجلياته منسلخا عن تراثه وهوية أمته ومجتمعه ، وفي الغالب مشبوه في تمويله وتحركاته حيث تجده يلقى كل الدعم و التبريك..... وتبقى هذه الأسباب وغيرها باختصار شديد، تسوقها وتوجهها تيارات جارفة وحملات متوالية ومسعورة، تروم ضرب هوية المجتمع والأمة ككل، حيث تجد أساسها في تكريس التبعية والخضوع في ضمير ووجدان هذه الأمة، على اعتبار أن قيم المجتمع هي حصنه وضمانة اعتزازه وارتباطه بأرضه والتضحية من اجلها. فإذا أصبح المجتمع مسلوب الهوية وشبابه مركز قوته، مابين مخمور مغيب الدهن ومخنث مسلوب الشرف ومغرب مسلوب الوعي. فهنا وهنا فقط يضيع المجتمع ويفقد كيانه بعد أن يكون قد فقد بوصلته. فعندما تصبح القوة ضعفا والضعف قوة، والحق باطل والباطل حق ظاهر وممكن، والعلم جهل والجاهل عالم ، وان من يسلك باب العلم وطريقه إنما يجازف نحو المجهول الذي إن لم يضر أحبط صاحبه ضيق عليه الخناق حيث سيصبح وحيدا بين جمهرة جاهلة، في هذه الحالة، اعلم أن أول مسمار في نعش الأمة أو أي دولة قطرية لها انتماء قد دق، وان الأيام العجاف مقبلة لا محالة، وسترمي بماضيه ومستقبله في مزابل التاريخ الإنساني، الذي لا يعترف إلا بالقوي الفاعل والمؤثر،لا بالضعيف المغلوب على أمره الذي فقد بوصلة الوصول الحضاري أولا والتقني ثانيا. *طالب باحث من مدينة القصر الكبير