ليس غريبا أن ينضم القاص هشام حراك، إلى كوكبة رواد الواقعية في المغرب ( محمد شكري- محمد زفزاف- ادرس الخوري..)، وتحديدا جيل التسعينيات، وهو القادم من أحراش تيفليت، إلى قاع المجتمع بالرباط، في أحياء هامشية، تجمع كل أنواع الآدميين الذين يأكلون خبز يومهم مغموسا في التراب، والأوجاع تعلو وجوههم الكئيبة.. من هذه الأماكن، وانطلاقا من أوضاع هؤلاء المهمشين، جاء حراك، حاملا، بكل تأكيد، قربة امتلأت باليومي: الآم وأحزان وأحلام..الإنسان البسيط، حينما يحلم ويحب ويفرح... ليلامس بشكل عميق، وبأدوات فنية وتقنية يمتلكها جيدا، من خلال نصوصه القصصية، التي راكمها، منذ كان ينشر في المنابر الإعلامية المختلفة، الميثاق الوطني خاصة، أو تلك التي تضمنتها المجموعة القصصية “السوق اليومي” ، أو” سيلان” الإصدار الأخير، وغير ذلك من النصوص، عذابات وأحزان وهموم الإنسان، والتقاط اليومي، كل التفاصيل الصغيرة التي قد لا ننتبه لها، ونحن نمر على أيامنا، نجوب شعاب الحياة في رحلة البحث عن الذات وعن الآخر. لذلك فالقاص حراك، أنتج نصوصا قصصية قصيرة تنوعت أشكالها ومضامينها، إن على مستوى اللغة، التي تتميز بالبساطة والتهكم والجرأة.. لكن بالعمق الذي يجعلها تفضح المسكوت عنه، وتوصل الرسالة الاجتماعية والسياسية والإنسانية بشكل أفضل، من خلال الكتابة القصصية، القصة القصيرة تحديدا. وانطلاقا من أول نص قصصي . وانطلاقا من أول نص قصصي، وهو الذي يتصدر المجموعة القصصية: ” السوق اليومي”، نلمس موهبة هشام حراك، وهو يدون تفاصيل صغيرة، قد لاتهمنا، أو تثيرنا في معظم الأحيان، ولكنه يقبض عليها قبل أن تنفلت بعيدا في جحيم النسيان”... بمجرد أن يتجاوز المرء المدرسة الابتدائية، فثمة السوق اليومي: ملابس بالية مستعملة، مفاتيح قديمة غير صالحة، قطع قصديرية صدئة، أحذية مرقعة بقطع جلدية وبمسامير صغيرة.. المأكولات الخفيفة والثقيلة وغير المصنفة معروضة فوق عربات خشبية نتنة.. الذباب ينط عليها...”*1 منتقلا إلى كائنات لا تختلف كثيرا عن الأشياء التي تحدث عنها والموجودة في السوق، يقول ” .. خالتي حليمة مكورة أمام بضاعتها مثل دلاحة ..”*2 واصفا طريقة جلوسها وكلامها.. وتفاعلها مع المتبضعين، في صور هي اقرب إلى الكوميديا منها إلى المأساة، وهي طريقة تحيلنا على أعمال روائية ومسرحية لكتاب كبار، أمثال شكسبير وهمنجواي وشكري وزفزاف ونجيب محفوظ والطاهر وطار... صوروا حياة الإنسان/ المأساة، إلى ملهاة، بهدف التغلغل إلى أعماقه وملامسة أطياف فرحه وأحزانه وهمومه وأحلامه.. التي لا تعدو أن تكون صورة نمطية / روتينية..لحياة يسحق فيها القوي الضعيف، تحت غطاء إيديولوجي..يخدم مصلحة أقلية تسعى إلى امتلاك العالم والسيطرة عليه. وينتقل بنا حراك من صورة إلى أخرى، كما لو أننا نشاهد فيلما قصيرا، مثيرا بطبيعة الحال، لحياة كائنات أحلامها محدودة، وافقها مسدود، لا تبحث إلا عن كسرة خبز وباكور يشتهيه” الشمكار” وينط عليه الذباب، وتنتهي حكاية حليمة، بشكل مأساوي، بعد أن تضرب بعصاها رأس مصطفى ، فينقل على وجه السرعة إلى قسم المستعجلات بالمستشفى، في حين يتم القبض على حليمة من طرف الشرطة للتحقيق معها، وهي لا تصدق أنها قتلت الرجل في حالة هستيريا ؟ لينتقل بنا إلى نص آخر جميل.. تحت عنوان:” كان بالإمكان أن يكون “، يقول عنه القاص الكبير احمد بوزفور، في رسالة أدبية جميلة .. مؤرخة في الدارالبيضاء سنة2000 بمناسبة صدور المجموعة القصصية، موضوع القراءة: “.. إنها قصة رائعة فعلا، ليس فقط في موضوعها وشخصياتها... بل كذلك في بنائها كديباجة ذهنية تقديمية ، وثلاثة مشاهد بصرية متكاملة ومتنامية، وقد ذكرتني العاصفة الرعدية والبرق والخلب والمطر الهارب إلى الشمال، بعاصفة ( الملك لير).. لغة القصة مخدومة جيدا وليس فيها شيء إلا وله وظيفة مباشرة أو رمزية ومتصلة بباقي وظائف العناصر الأخرى”. وقصة ” كان بالإمكان أن يكون”، هي قصة الإنسان الهامشي، الذي ألقت به الظروف في جحيم الحياة، وكان بالإمكان أن يكون سي أحميدة، عوض أحميدة( حرفية)، لو انه اتمم دراسته وتخرج من إحدى الكليات أو المعاهد ” .. كان بإمكان أحميدة أن يكون الدكتور أحميدة لو انه لم يطرد ، عامها، من المدرسة، ولو انه تابع دراسته، وتخرج من كلية طب العيون، أو كلية طب الأفواه، أو كلية طب البهائم...”*3. لكنه تخرج من قاع الحياة” شمكارا” يداعب قنينة حريق طول الوقت، كل ما ورثه عن والديه،”.. بشرة بيضاء من والدته، وجسدا نحيفا وقنينة حريق..ثم كوخا وحصيرا وفانوسا غازيا..”. ولكن أحميدة، رغم بساطة ثقافته، فهو يفلسف اليومي، بوعي أو غير وعي، حين يقول في حوار يوجهه للجميع، وهو أشبه بالمنولوج: “.. أنا العالم والعالم كله أنا.. لست أنا ..ولست أنا هو..”*4 وعندما لا يجيبه أحد، يعربد ويتفوه بألفاظ تثير مشاعر رواد المقهى”..أنا.. يا أبناء..”*5. ويصور لنا حراك الزبناء والأجواء الداخلية للمقهى، وفي الوقت ذاته، نتابع قصة أحميدة/ البطل الذي يلفظه المجتمع، ويقرر وضع حد لنفسه، داخل المقهى بشكل تراجيدي أمام الرواد” .. يصمت.. يجلس القرفصاء على الأرض ..يجهش بالبكاء.. اعرف أنكم لا تطيقونني، لذلك سأخلصكم مني الآن وليس غدا..ويطعن نفسه طعنات متعددة في أماكن مختلفة من جسده”. ويحاول النادل إنقاذه لكنه لا يصل إلا بعد فوات الأوان”*6. نهايات يغلب عليها الحزن، وأبطال يعبثون بقدرهم، بسبب ظروفهم البئيسة.. التي تخنق حريتهم، وتمنعهم من العيش بكرامة، فاختاروا الموت، إما انتحارا، كما هو الحال بالنسبة لاحميدة في قصة ” كان بالإمكان أن يكون”، أو شعيبة في ” بلح البحر”، أو المعلم في ” ثلاثة أيام لرجل واحد”..أو بأشكال أخرى، ليس بالضرورة أن تكون انتحارية للوصول إلى الموت. هذه القصص وغيرها، يستسلم البطل لقدره ويختار الموت.. كرها وطواعية، رافضا واقعا بئيسا، وجد نفسه رهينا له، مثل سجن كبير مفتوح على الدوام. وتظل النصوص الأخرى للمجموعة:” جاكلين وفطومة ” حب على الشاطئ “، ” مولود عجيب”، ” فوز ساحق”، ” روتين”،” من أين له بالحمار”،” موكب”،” رحلة عبر القطار”،” جناحا مالك الحزين”،” الطيارة”، و” القيء”، النص الذي يبلغ بنا أقصى السوداوية، معتبرا الحياة مادة مخاطية، نتنة..هي القيء في أحسن الأحوال؟ كلها نصوص تتغنى بالإنسان وتمجد حياته، على بؤسها، وهو ما يسعى إليه حراك، كقاص يمتلك أدواته التقنية والفنية..، سواء المتعلقة بالقصة القصيرة، أو المسرحيات، أو حتى تنقله، من حين لأخر، بين الكتابة القصصية والمقالة. ويمكن الإشارة إلى أن إصداره الأخير” سيلان” ، هو قمة التغني بأمجاد الإنسان ، في أوضاع مكشوفة ومفضوحة وغرائبية .. بأسلوب مستفز ومثير..لكنه بسيط و مفتوح على كل القراءات. عبد الرحمان مسحت هوامش: 1 ” السوق اليومي” ص15 -2- نفس المصدر -3- ” كان بالإمكان أن يكون” ص21 -4- نفس المصدر ص22 -5- نفس المصدر -6- نفس المصدر ص 26 **** *هشام حراك قاص من المغرب • كتب القصة القصيرة والمسرحية والمقالة • حاصل على جائزة اتحاد كتاب المغرب للمسرحية دورة 2002 • عضو اتحاد كتاب المغرب ورئيس نادي القصة القصيرة بالمغرب • عضو مؤسس للرابطة المغربية للزجل • من أعماله: ” السوق اليومي”، ” سيلان” ” المستنقع” الانتظار” وأعمال أخرى. **** *عبد الرحمان مسحت • كاتب روائي من المغرب • عضو اتحاد كتاب المغرب • رئيس نادي القصة القصيرة بالمغرب/ جهة الشاوية ورديغة • من أعماله الروائية: ” القيامة داخل السور” ” وأشرقت شمس نونبر” امرأة من زمن الكفاح” و “أهل العتمات” في طبعتين وترجمت إلى اللغة الايطالية والامازيغية.