رؤية مستقبلية بعبق التاريخ الفلسفي أحان الوقت للعودة خطوة إلى الوراء، كي نتكمن من فقز ترعة التردي التربوي ومياهها الآسنة التي غطست بها الأوراق اليابسة للإصلاح البيداغوجي ببلادنا؟ أحان الوقت لنفض الغبار من جديد عن فلسفة "سقراط" والنهل من رؤاه السديدة، وكيف ناقش بحنكة تفاصيل الفعل البيداغوجي في زمن مضى، بطريقته المتفردة الغارقة في التفلسف الجميل؟ ألسنا مندهشين من الوضع الكارثي للمنظومة التربوية؟ ألم تشتعل شموع الحكمة في رواق أصحاب القرار بعد؟ ألا ترون أننا نزكي مقولة هذا الفيلسوف الرائع في القرن الخامس قبل الميلاد، التي مفادها: تبدأ الحكمة بالدهشة؟، ألا يحق لنا كمتتبعين للشأن التربوي وكفاعلين بيداغوجيين ومنفذين للمنهاج الدراسي، أن نستثمر ما جادت به قريحة هذا الفيلسوف ؟ في ضوء الفراغ البيداغوجي الذي يعاني منه الفعل التعليمي التعلمي، عوض الاحتفاظ بأقواله في كراس الطلاب، أو نحتها على جداريات المدارس.. في شيء من البيان والوضوح، نستشف شروط التعلم التي رسمها سقراط أيام زمان، وبإطلالة بسيطة على مضامينها ندرك، في غير عناء، أنها صالحة أيضا لهذا الزمان وهذا المكان، بخاصة ونحن نعيش أزمة سياسة بيداغوجية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وبالعودة إلى هذه الشروط التي وضعها "سقراط Socrate" في زمن مضى، نجدها موزعة كالآتي: - مساءلة الراشدين والمحيط: قد تبدو العبارة منافية لما تروج له الأدبيات المعاصرة، إذ تكرس مكانة المدرس (الراشد) كضلع مهم من ضلوع المثلث الديداكتيكي الذي رسمه " هوسيي Jean Houssaye "، لكن الواقع التربوي الذي يعيشه المدرس(ة) المغربي(ة) داخل حجرات الدرس أو "العلبة السوداء" بصيغة من الصيغ، يؤكد بالملموس أن غاية "هوسيى" بعيدة المنال ورؤية "سقراط" أنسب لواقعنا التربوي، فيقول: ليس هناك حقيقة بدون أستاذية Magistère" .. في الشق الثاني من هذا الشرط، يتضح لنا جليا أن "مساءلة المحيط" أضحى مطلبا رئيسا يتماشى أيضا وروح البيداغوجية المعاصرة، فنجد "إدغار موران Idgard Morin" يلح على ربط التعلمات المدرسية بالتطبيقات الاجتماعية، لكن واقع حال الممارسة التربوية بعيون من يواجه كل يوم الجماعات الصفية، يعرف أن الأمر ليس بالهين أبدا، مهما بلغت درجة حنكة المدرس(ة) ومهما توفرت له شروط إنجاح الفعل التعليمي التعلمي، ولعل أبسط مثال نسوقه بمرارة، مشكل ازدواجية اللغة لدى الناشئة وما له من تأثيرات سلبية على المسار التعليمي برمته، إذ كيف يعقل أن نستدرج المتعلم(ة) المغربي(ة) سواء الناطق باللغة الأمازيغية أو المحلية المغربية (الدارجة)، لتحريك مكتسباته في اللغة العربية (الظاهرة التركيبية/التمييز مثلا) خارج السياق المدرسي؟ وهو الذي ما أن تطأ قدمه الشارع العام حتى ينقل الخطاب من لغة عربية فصيحة إلى عامية.. أننتظر من هذا المتعلم(ة) منتوج المدرسة المغربية أن يوظف مكتسباته الآنفة الذكر في شقها الشفوي مع خضار الحي، فيبادره بالسؤال قائلا: سيدي الفاضل، اعطيني كيلوغراما جزرا؟؟ لا أظن ذلك حتما، بل سيقول بدلا من ذلك: " اعطيني كيول ديال خزو أشريف.. ". - الاستعانة بما راكمناه من معارف: هنا يضع "سقراط" الأصبع على مكمن الداء الذي يعاني منه جسد الممارسة البيداغوجية الحالية، إذ لا يرى الرائي في مواكبة ما يدور بالحجرات الدراسية إلا تناقصا صارخا في المعارف المدرسة، وباتت الأغلبية الساحقة من رجال ونساء التعليم يندسون في أكياس من الأمية المعرفية المُدرّسة، والسبب يرجع إلى فقدان شهية القراءة والتزود بالمعارف المُدرّسة وليس طبعا المعارف العامة، في غياب تام تحريك مياه التكوينات الأساس الراكدة، وتجديد الحركة الثقافية داخل المدارس، وتشجيع هيئة التدريس على إحياء الحياة المدرسية.. فروتين الفصل الدراسي يقتل الرغبة في التطوير أبى من أبى أو كره من كره.. - استعمال وسائل مختلفة: لا غرو أن معضلة الوسائل التعليمية أو المعينات الديداكتيكية يجثم على أنفاس الممارسة البيداغوجية، ويجعل التعلمات الديداكتيكية منزوعة المعنى بلسان " مشيل دوفولايDevelay "، والوضعيات البيداغوجية أشبه بدمية نرجو منها الإحساس بالألم والجوع والعطش ... الكل يتفق أن الوسائل التعليمية تجعل المتعلم (ة) في اتصال مباشر مع موضع تعلمه وتفسح له مجال الملاحظة والقياس والتجريب والتفكيك والتركيب كما جاء في إحدى دلائل الوزارة الوصية على التعليم، ولا نختلف جميعا في كون مسألة تحقيق جودة في التحصيل الدراسي ستكون غاية في الصعوبة في غياب للتجارب العلمية واعتماد الصويرات وتوظيف السبورة التفاعلية.. وما إلى ذلك من الوسائط التعليمية الأخرى التي تساير التقدم الهائل لتكنولوجيا الاتصال والتي نتابع بانبهار كبير نجاحها عبر المنتديات الانترنيتية أو المواقع الالكترونية، أما في أرض واقع ممارستنا التربوية فلاوجود لها إطلاقا، وحتى إن وُجدت فترتدي خيوط العناكب وتعطر بالغبار وتبقى أسيرة حرب الإهمال بخزانات الإدارات التربوية.. - الأخذ على عاتقنا ما نرغب في تعلمه: كلام جميل وكلام معقول اسقاطا لأغنية ليلى مراد، فالحقيقة التي أكدها "سقراط" منذ قرون خلتْ، نادى وتنادي بها حناجر المنظرين التربويين المعاصرين الآن، وتبلغ إلى مسامعنا شعارات رنانة من قبيل: المتعلم في قبل العلمية التعليمية التعلمية، احترام الفروق الفردية، الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المتعلم(ة) .. وما إلى ذلك. لكن الواقع التربوي يعكس صورة ضبابية غير واضحة المعالم، تنجلي فيها كل تلك الشعارات الجميلة، وتترسب في القاع ممارسات كلاسيكية أكل الدهر عليها وشرب، فلا تكاد تنتهي الحصة الدراسية في التراكيب حتى تليها حصة القرآن الكريم بعدها حصة الجغرافيا فدقائق معدودة ينعم بها رواد المدرسة لقضاء الحاجة البيولوجية ثم قضم تفاحة أو مضغ "علكة" فتبدأ رحلة التمارين والحفظ والاستظهار.. في جو مشحون بالعصبية الزائدة.. لكن سقراط له كلام آخر ورؤية أخرى قد تنفع في تضميد الجروح ولإقامة عملية تجميل للندوب التي رسمتها الإكراهات على وجه الممارسة التربوية المغربية، فيقول: ليس التدريس مجرد تلاوة للحقيقة واستظهارا لها وإنما هو تفسير لها". - أعتقد جازما أن الرؤية الفلسفية السليمة للفعل البيداغوجي التي نحتها سقراط ذات قرن مضى قبل الميلاد، مناسبة لإصلاح عميق وجذري للواقع المعقد الذي تنغمس فيه العملية التعليمية التعلمية بمدارسنا، فالبساطة طريقة مثلى للتعامل مع المتعلمات والمتعلمين، كما كان يفعل سقراط مع المواطنين، وجنى ثمارا طيبة من تلك الطريقة، وإذا كانت مدرسته هي الساحة العمومية Agora، ففي ذلك إشارة قوية لمن يعتقد أن هناك أياد خفية قد تفتك بالمدرسة العمومية، ولو أخذنا موضوعه في التأمل أي المشاكل اليومية لاكتشفنا بيداغوجية جديدة ترنو الارتباط بالواقع المعيش لرواد المدرسية، أما طريقته في التدريس فهي تركز على السؤال والنقاش وإعادة النقاش، وربما كانت مسألة إعادة النقاش هي الفيصل بين طريقة سقراط التدريسية والطرق التي نتبناها كممارسين بيداغوجيين ندعي العصرنة. ولا نستغرب أبدا إن علمنا من خلال ما روي عن "سقراط" أنه لا يعير اهتماما بالسياسة ويؤدي رسالته دون أن يقيم فراقا بين الشيخ والشاب، ويبحث عن الفضيلة التي لا تشترى بمال، ويطيع الله أكثر مما يطيع الأثينيين، ويجعل الأشخاص المتهاونين واللامبالين يتأملون وينادي بالفكر الحر والحرية.. سنقف عن حدود جزيرة الفر التربوي الناجع والأخلاق المهنية التي وجب علينا جميعا وبدون استثناء أن نتحلى بها ونتعاون من أجل إنقاذ البشرية كما قال ذات يوم الفيلسوف البيرطاني "راسل Bertrand Russell". بقلم جمال الحنصالي باحث في علوم التربية إمنتانوت 8 دجنبر 2014