الكاتب ينام مثل الآخرين ولكنه قد يستيقظ ميتا. عندما رشيد نيني يلتقي مع الآخرين كل صباح ويحييهم بخبر من الأخبار قد يجد رأسه ذات صباح خاويا من الاخبار (اللي في راسك)، يملأ الفراغ، تكون افتتاحية جريدة الأخبار وعنوانها: تحيات بدون مناسبة [1] (لمجرد كسر الجليد كما يقول هو بنفسه). 1. اللقاء بالآخرين يجعلك تقول شيئا، لا أقل من تحية الصباح أو تحية المساء، أو تحية بمناسبة أنك تسمع الآخر يقول لك: أحييك بأية صيغة من الصيغ...ترد التحية بمثلها أو بأحسن منها. يجعل منها فاتسلافيك أول باراديغم للتواصل: لا يمكن أن لا نتواصل. 2. أما أنا (حيث ما لقيت ما نكتب) وجدتها مناسبة لأرد تحية العزيز نيني (تحيات بدون مناسبة) وبأحسن منها.. ليست هذه هي المرة الأولى التي نضبط فيها هذا الصحفي وقد جف قلمه، رغم أنه يكتب دائما مقالاته بقلم الرصاص(الجاف)، لأنه لا يحب المداد (العلني)...كأنكم تجرجرون لساني لأحدثكم عن هواية رشيد نيني السرية (الكتابة بالحبر السري). رشيد فرض على نفسه ان يكتب بإيقاع يومي وكان دائما في الموعد المضبوط، لم يثبت أنه اخلف موعد الكتابة إلا عندما أقفلوا مكتبه ووضعوه في مكتب يختلف قليلا عن المعتاد. لا يجد فيه الكاتب قلما أو حبرا. راحة مستحقة من عناء الكتابة. دخل كاتب الكهف الى هذا المكتب الخلفي المخصص للنوم فقط، نشبهه بكهف أصحاب الرقيم، كان الفصل ربيعا(عربيا لعلكم تعقلون) وخرج منه في الربيع الموالي، الذي أصبح ربيعا باردا مثل فصل الشتاء، القلم يجمد فيه من برودة الطقس العاطفي، تجعله هذا الكاتب، كأنه نبي حقيقي وكأننا نسمع وحي الكاتب: أُكْتُبْ، يجيب النبي: ما أنا بكاتب، يشعر بقشعريرة حتى أنه ينادي خديجته: دثروني، دثروني... التماثيل المكسورة 3. عندما دبج رجاء النقاش تحت هذا العنوان: التماثيل المكسورة، قصة قصيرة ينتقد فيها فئة من الناس عندهم عقدة مع النجاح [2]، أولئك الذين لا تفوتهم فرصة إلا ويوجهون سهامهم "للأعداء" الذين لا تربطهم بهم صلة ولا يعرفون عنهم شيئا، اللهم ما وصلهم من أخبار عن النجاح الذي حصل عليه هؤلاء، وانك تجد أغلب هؤلاء من الفاشلين في حياتهم وهذا يكفي في نظرهم لأن يعلنوها حربا من جهة واحدة ضد من صادفوا في حياتهم نجاحا لم يصادفوه هم، أهدي للأخ رشيد هذه القصة لأرد بها على نفسي فقد أكون واحدا من الذين تحدث عنهم النقاش وقد يكون نيني من أولئك الذين نحقد عليهم فقط لأنهم نجحوا فيما لم ننجح فيه. نيني واحد من التماثيل التي نكسرها لأننا لا نحتمل الجمال الذي يفوق حده أو النجاح الذي يفوق حدنا. الكتابة بقلم الرصاص 4. الصفة التي تناسب قلم الرصاص هي أنه قلم جامد (مقابل قلم المداد الجاف)، ورشيد كان يستعمل جيدا هذه الاداة كما يستعمل النحات أزميلا لتخرج على يده تماثيل رائعة. التماثيل هذه، بعد أن تقف على قاعدتها، سوف تنحني منكفئة على ركبتها. عندما يكون الذي يكسر التماثيل الرائعة هو النحات الذي نقشها بنفسه (كما تحكي الاسطورة المشهورة)، نقلبها اذن الى رشيد نيني. من يحطم التماثيل؟ الفاشلون و الناجحون أيضا. رشيد نيني واحد من هؤلاء [3]. 5.نعود الى تحيات نيني من غير مناسبة، عنوان الارسال، اللائحة طويلة: سجين، أم ، عاملة في معمل النسيج، عسكري، موظف بسيط، حارس ليلي، عاهرة تبيع الحب ونفسها في عملية واحدة، خادمة، سائق شاحنة في ظلام الليل، طبيب جراح يجرح ولا يداوي، ممرضة تداوي الجرحى وقلبها يحتج الى دواء، شرطية مرور تصفر على الرجال السائقين فلا يهتمون إلا بساقيها الممتلئتين ، جنرال مشغول فقط بمراجعة حسابه البنكي، ثري يقضي حياته خائفا من الفقر أو فقير يقضي حياته يحلم بالثروة، شيوخ متخلى عنهم، صياد لا يصطاد سمكا، امرأة أَجَّرَتْ صوتها للرد من داخل علبة صوتية لهاتف مبحوح، مؤذن لا ينام لأنه مكلف بإزعاج النوام، معلمة في مدرسة من المغرب العميق، طوابير من المصطفين امام القنصليات الاجنبية، كل من لم يتناولوا فطورهم اما لأنهم سيقومون بتحليلات طبية او من اجل الفحص في العيادات او لأي سبب آخر، المهاجرين غير الشرعيين قبل ان تطفو جثتهم فوق مياه المضيق، ساعي البريد يسلم رسالة البعيدين ويبتعد قبل أن يسمع الرد، رجل النظافة...تحية الى فصل الربيع والى كل الورود التي ستنفتح فوق الروابي بل حتى للأعشاب البرية التي تنمو فوق القبور، تحية الى الوطن وأبنائه البعيدين و...تحية الى ... ...كل الآخرين (وصلنا الى رقم 28) 6. في العنوان الأخير رقم 28 وصلتني تحية العزيز نيني. أنا ممتعض لان نيني صاحب الأخبار (اللي فراسو) يستثنيني من كل اللوائح التي في رأسه فيبعث لي تحيته في العنوان الذي يجهله: الآخرين. نيني يقول عن تحياته انها من غير مناسبة، نفهم انها تحيات استثنائية فالتحية العادية لها مناسبة ما: الصباح، المساء، العيد، رد التحية ...تحية مقترنة بمناسبة أما أن تكون لمجرد كسر الجليد، يجب أن يشعر الانسان هو بنفسه بالبرودة (العاطفية) المناسبة هنا شخصية ونتمنى للمصاب بالبرودة أن يسخن عواطفه بدواء آخر لأن هذا الأمر يهمه وحده ولا يحتاج الأمر أن يزعج الآخرين بتحيته الباردة خصوصا اذا كان يجهل عنوانهم العاطفي. اذا كنا نجهل العنوان الشخصي يمكن أن نرسل التحية بعنوان بارد هكذا: الآخرون. 7. الكاتب ينام مثل الآخرين ولكنه يخاف أن لا يستيقظ أو أن يستيقظ ميتا...دثروني، دثروني. هوامش: [1] افتتاحية جريدة الأخبار (السبت 26/04/2014) عنوانها تحيات بدون مناسبة [2] هنآك نوع من الناس يكره الامتياز .. ويعادي التفوق ويخاف خوفاً عميقاً من أن يرى أي شخص يتمتع بموهبة لامعة لا يحب أن يرى تمثالا جميلا ا تنظر إليه العيون بإعجاب وتلتف حوله القلوب بأعمق ما فيها من عاطفة. ولكنه يستريح تماما إذآ حطم هذا التمثال ورآه مجموعة متناثرة من الأحجار..منظر الضعف يريحه وبسعده وأوراق الخريف عنده أحلى من زهور الربيع ومنظر الدمار يطمئنه على أن العالم بخير...