يرجع الفضل في اكتشاف مفهوم النخبة،حسب بعض الدراسات التاريخية إلى عالم الاجتماع الايطالي فلفريدو باريتو،و منه انطلقت استعمالات المفهوم في سياقات و بدلالات متباينة حسب الولاءات و الانتماءات،و حسب الخلفيات و المرجعيات التي تحكم الباحثين،و توجه أبحاثهم العلمية،و بذلك ف''مفهوم النخبة''تكتنفه الالتباسات،و يبقى مستعصيا أمام كل محاولة للإحاطة بحمولته الدلالية و أشكال استعمالاته،و ينظر إليه غالبا على انه مفهوم وصفي تقريبي يشير إلى الفئات التي تحظى بنوع من التميز داخل حقل اجتماعي ما كما تمارس نوعا من الريادة داخل هذا الحقل،و يكتسب أفراد هذه الفئة بعض هذه السمات إما عبر آلية التوارث أو عبر آلية الاكتساب (محمد سبيلا)،فنجد مثلا النخبة الفكرية و النخبة الثقافية و النخبة السياسية...،و لا يتمايز مدلول النخبة و استعمالاته في البيئة المغربية عن أشكال تداوله في باقي البيئات الثقافية الاخرى،إلا في إسقاطاته و في جل المحاولات الحثيثة لتبيئته،و قد شكل هذا التمايز دلالة على خصوصيات النظام السياسي المغربي و على علاقة المفكر و المثقف المغربي بالمجتمع،وعلى أشكال تعامله مع ثقافته و تاريخه.و من الطبيعي أن يرتبط تداول مفهوم النخبة و أصنافه في الاوساط الفكرية بنظرة النخبة نفسها للمجتمع. لقد ظلت جل الدراسات العلمية(السوسيولوجيا،انتروبولوجيا،التاريخية...)في المغرب المعاصر وفية لنهج واحد في تناولها لمفهوم الانتجلسيا الفكرية،و ظلت تقاربه باعتماد ثنائيات متقابلة و متعارضة،فمن وجهة نظر هذه الدراسات هناك نخبة معارضة و نخبة موالية،و نخبة محافظة و أخرى تقدمية،و نخبة رجعية في مقابل نخبة حداثية،و نخبة يسارية ثم نخبة يمينية،ونخبة وطنية فنخبة ذات توجه أجنبي،و نخبة مخزنية و اخرى نخبة مناوئة...،غير أن هذه التصنيفات تنحصر في علاقة النخبة بالطبقة الحاكمة أو في العلاقة بين النخب نفسها باعتبار مرجعياتها،بينما السؤال الجوهري المغيب دوما هو:ما علاقة الانتجلسيا الفكرية بالمجتمع المغربي و ثقافته و هويته؟و لماذا فشلت كل الاصلاحات الفكرية رغم أن بناءها منطقي و منسجم و هادف؟ بظهور البوادر الاولى لبناء أركان الدولة المغربية الحديثة بعد اختراق المستعمر للبنى المجتمعية التقليدية،ظهرت إرهاصات سياسية و فكرية مرتبطة بالصراع حول هوية الدولة و ثقافتها الحقيقية،و أعني هنا الصراع بين نخبة ذات تنظيم و أهداف محكمة تحاول بناء مرجعية جديدة للدولة و المجتمع و تحديد مفهوم الوطنية بما يخدم أجندتها،و بين مجتمع يدافع بتلقائية عن ذاته بالممارسة الشعبية لعاداته و لغته و ثقافته الشفوية،و قد شكلت الطريقة التي تعاملت بها نخبة ''قراء اللطيف ''مع ''أكذوبة الظهير البربري ''التجسيد الفعلي لذلك الصراع،و دليل على صعود انتجلسيا مغتربة ذات جذور مغربية و وجدان مشرقي،و بما أن علاقة الفكر و الثقافة بالسياسية ليست لها حدود واضحة في غالب الاحيان،فإن النخبة المغربية قد فطنت الى أهمية الفكر لتوجيه المشاريع السياسية نحو ما تقتضيه مصلحتها على حساب مصلحة جل شرائح الشعب. منذئذ،لم يكن الصراع بين الطرفين متكافئا حول مقاربة"الذات الهوياتية و الثقافية''للمغرب،و لم يكن هناك اعتماد متوازن للآليات و الوسائل و المناهج في سبيل بناء المرجعية الوطنية و تثبيت أركانها لمواجهة تحدي الانفتاح،و إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المجتمع المغربي ظل مرتعا للأمية وأغلبية المواطنين لم يلجوا المدرسة،خاصة قبيل و بعيد الاستقلال بعقود،فإننا نستطيع الجزم أن المجتمع لن يتمكن من تبني سياسة منظمة للحفاظ على الهوية و الثقافة المتداولة،بل إن وظيفته تقتصر في هذا الإطار على ضمان استمرار الموروث الثقافي و الحضاري عن طريق الممارسة الطبيعية و التلقائية للعادات و التقاليد من طرف أفراد المجتمع،دون أن تتحكم في هذه الممارسة خلفيات فكرية و إيديولوجية مُوَجِّهَة،عكس النخبة المتسلحة بإستراتيجية غائية ذات أهداف محددة،و التي سطرت و نَظرت لمشاريع فكرية انطلاقا من واقع مجتمعي افتراضي لا يتطابق مع الواقع الحقيقي المعاش،أي أن الحياة الحقيقية المعاشة في المجتمع لم تكن المنطلق لهذه النخبة. مباشرة بعد الاستقلال،ازدادت أهمية توجيه السياسة من خلال الفكر و الثقافة،و تمت المراهنة على ترسيخ الوعي بالانتماء إلى ثقافة و حضارة مشرقية،إذ أن بعض النخب التي جمعت بين الفكر و السياسة قد انتدبت نفسها ممثلة للمجتمع،فقامت بممارسة ما يمكن تسميته ''بالوصاية''،و تجلت أساسا في تحديد الاختيارات المجتمعية العامة تبعا لوجهة نظرها،لهذا نجد مثلا أن علال الفاسي قد ناب عن المجتمع المغربي و جزم بأن المغاربة قد اختاروا النموذج الشرقي قائلا : (يكفي أن نذكر بأن الرومانيين و القوط.....كلهم لم ينجحوا في غرس مدنيتهم و أفكارهم في بلاد المغرب العربي) و العلة حسب قوله دائما هي (ما اختاره المغاربة من نموذج شرقي)،و لم يقف عند هذا الحد بل أضاف كذلك بطريقة ليس لها سند علمي و لا منطقي أن(...بيننا و بين العرب لأننا كنا متآخين في الطبيعة و في النموذج النفسي قبل أن نلتقي) (النقد الذاتي ص 137)،تعلق علال الفاسي بالمشرق و تصوره لعلاقة المغرب بالثقافة المشرقية ليست إلا تتمة لما بدأته المصادر التاريخية التي تُرجِع الأصل الامازيغ الى الجزيرة العربية،و تحاول دوما أن تتجاهل محورية الثقافة و الهوية الامازيغية للمغرب في كل المشاريع التي تروم النهوض بالمجتمع.خطورة هذه النخبة في المغرب خاصة و شمال افريقيا عامة،تكمن في كونها تمزج بين السياسة و الاديولوجية و التنظير الفكري من جهة،و في التدبير العملي و تنفيذ القرارات و عن طريق التحكم في دواليب السلطة من جهة أخرى،و كذلك في تقاطع مصالحها مع الحكام،و تبادلها الادوار و المصالح معها. نفس المنطلقات و المرجعيات دأبت النخبة المغتربة على تكريسها فيما بعد و العمل على جعلها الأصل و المرجع في تنظيرهم لهوية و ثقافة المغرب،و لازالت الى حدود اليوم تمارس الوصاية نفسها على المجتمع الامازيغي،بل قامت بتثبيت تفسيراتها الضيقة للواقع،و الترويج لها بفرضها في التعليم و الاعلام و الانتاجات الفكرية،و تمريرها في الادبيات الحزبية و الندوات و الاتفاقيات،و لهذا نجد المثقفين الجدد و ما أكثرهم يجترون الافكار ذاتها و يبنون تصوراتهم على الأسس ذاتها،و يتمادون بذلك في تغريب الثقافة و الهوية المغربية ضدا على حركية التاريخ و الجغرافيا و الواقع،ولا غرابة إن استمر المعاصرون من نفس الطينة الفكرية في تبني التفكير الاقصائي و الحسم في هوية المغرب و تزييفها،و من يقرأ مثلا ما يقال و يكتب يستشف أن الإيمان بالتعدد و الاختلاف لم تتربى عليه عقلية المفكر المغربي،و أن التفكير بوجدان مشرقي قد استحكم في عقول هؤلاء،رغم أنهم يعيشون و يستفيدون من خيرات شمال افريقيا. في الدول المتقدمة،تتعايش النخبة مع المجتمع الكبير و تعيش في مجتمعها الصغير،لتمارس بذلك دور الرقابة على مرجعية و هوية الدولة و ليس لخلقها أو افتراضها،إنها تتفاعل مع ذات المجتمع لتعزيزها و الحفاظ عليها و ليس لتحريفها و تزويرها،عكس النخبة المغربية التي استمرت في عيش انفصاما و ازدواجية بين الحياة الثقافية الحقيقية للمجتمع و بين المرجعية الثقافية التي ترغب أن يكون عليها المغرب،غير أبهة بأن الثقافة و المجتمع كلٌ لا يمكن تجزئته او تغيير أحد عناصره بمعزل عن الاخر،ففي العرف الانتروبولوجي،لا يمكن فصل الثقافة عن المجتمع،و لا يمكن الحديث عن ثقافة معينة دون الحديث عن أفراد المجتمع الذين صنعوا موروثهم وفق نمط العيش الذي ارتضوه،و الذي يعكس خصوصياتهم الفنية و الفكرية و نظامهم الاجتماعي و عاداتهم...،حيث أن تقدم المجتمع رهين بمعرفته و درايته بمكوناته الثقافية و مقوماته الهوياتية و الحضارية،و التي تنمط تفكيره و توجه نشاطه.