عندما اندلعت أولى شرارات انتفاضة الليبيين ضد ديكتاتورهم "العقيد"، الذي حكم البلاد بعد انقلاب على الملك إدريس السنوسي في فاتح شتنبر من العام 1969، "ركب" القذافي رأسه وارتأى أنْ يواجه المنتفضين في وجهه بقوة السلاح، فتطورت الأمور واختلط الحابل والنابلُ في "أرض المختار"، فسقط قتلى بعد أن "جيّش" القذافي حواريّيه وميليشياته، التي لم تألُ جهداً في قتل المواطنين وفي التنكيل بجثثهم. على أن "ظهور" سيدة اسمها إيمان العبيدي في فندق "ريكسوس" في طرابلس، في مارس الماضي، وكشفها للصحافيين الأجانب عن قروح وندوب في فخذيها، مؤكدة تعرُّضَها للتعذيب والاغتصاب الجماعي على أيدي "زبانية" القذافي كانت "ضربة" إعلامية ساهمت، إلى حد كبير، في تطور الأمور بشكل تراجيدي في غير صالح "العقيد". فقد كان الأخير يُعوّل على "سحق" المتمرّدين و"وأد" ثورتهم في مهدها، بفضل إمكانياته الهائلة، التي عرف كيف يجعلها في "خدمته" على امتداد أزيدَ من 42 سنة من حكم "الجماهيرية"، وبفضل مناصرة "أتباعه" له واستعدادهم ولو لقتل إخوانهم من أجل "أن يحيى الزعيم"!... تسارعت الأحداث، بعد ذلك، بين كرّ وفرّ، وصارت ليبيا رقما إضافيا في معادلة "ربيع الديمقراطية العربي"، الذي أطاح بالنظامَيْن التونسي والمصري، وهو حاليا قابَ قوسين من فعل الشيء نفسِه في ليبيا، لولا بقيةٍ من "عناد" القذافي واستماتته في الدفاع عن "عرشه"، بصفته "ملك ملوك إفريقيا"، كما يحبّ أن يسمّى، مستغلا في ذلك عائدات بلاده من النفط، والتي راكمها على امتداد سنوات وضخّها في حساباته البنكية و"خبّأ" كميات هائلةً منها في أماكنَ متفرّقةً من مخابئ وسراديب إقاماته السرية. فدفع نقداً ل"مناصريه"، الذين تحدثت أنباء عن أنه "يُكرم" وفادتهم جيدا عن كل يوم يمضونه في "قتل" و"اصطياد" مواطنيه في كل "زنكة زنكة" من مدن جماهيريته، إلى درجة أن البعض تحدثوا عن أن "مولْ الخيمة"، المضحكة، "استورد" جيوشاً من "المرتزقة" من دول إفريقيا جنوب الصحراء، بل وحتى من جبهة "البوليساريو"، كما ذكرت بعض التقارير، لإخماد انتفاضة الليبيين، الذين لم يتردد "القائد" في وصفهم، في بداية ثورتهم عليه، ب"الجرذان" و"المقمّْلين"، وهي "زلّة اللسان"، التي لو كان لدى "ملك الملوك" ذرةُ من دماغٍ أو ضميرٍ لَما كان قد نطق بها في حق شعبٍ ظل يحكمُه لأكثرَ من 40 سنة، ثم، فجأة، "ينتبه" إلى أنهم لم يكونوا أكثرَ من "جرذان" و"مقمّلين"... مما أجّج غضب الشارع الليبي عليه وزاد فتيل الأحداث اشتعالاً، بعد أن تلقّف الإعلام (هل يُقدّر القادة العرب "سلطة" الإعلام حق قدْرها؟) هذه "الهدية" من عقيدٍ لا يُحبّه الكثيرون وجعَل منه "أضحوكةً" على صفحات الأنترنت ومواقع ومنتدياتها، "المتربّصة"... وحين رأى العالَم كيف كان القذافي "يسحق" مواطنيه، العُزّلَ، بلا رحمة ولا هوادة، بقوة السلاح والنار، اتخذ حلف "الناتو" قراره بالتدخّل في ليبيا لترجيح كفّة المتمردين ووضع حد لحكم "الطاغية"، الذي لم يستسغْ هذه الخطوة وواصل "ركوب" تحدٍّ يعرف جيداً أنه "خاسر"، منذ البداية، ومع ذلك ظل مُصرّاً على المُضيّ قُدُماً في تهوُّره وسباحته ضد التيار، إلى أن ضربت قوات "الناتو"، بقوة، قاعدته العسكرية في "باب العزيزية"، حيث يقيم، مُلحقة أضراراً هائلة بالقاعدة ومخلّفة قتلى وجرحى بين أهل "العقيد"، المتجبّر، الذي لجأ، بعد الضربة الموجعة، إلى "تقنية" التسجيلات الصوتية، بعد أن كان، في البداية، يظهر في تلفزيوناته الرسمية متوعّداً، مهدّداً، في خطابات طويلة ومملّة، اعتاد حشو أسماع "مريديه" بها على امتداد سنواتٍ طويلة من حكمه، لكنْ يبدو أن تطورات الأحداث على الساحة واشتداد الخناق عليه لم يعودا يسمحان له بالظهور العلني المباشر على شاشات التلفزيون، ليتوارى عن الأنظار ويكتفي بتسجيلات صوتية تُؤشّر على تحول في ميزان القوى في غير صالح صاحب "الطّزطزات" الشهيرة... كما اضطرّت الجزائر، بضغط من مجلس الأمن، إلى الإعلان عن تجميدها حسابات الدكتاتور، الذي صار "رأسه" مطلوباً، حيا أو ميتاً، إذ صرّحت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، يوم الخميس، 9 يونيو، في اجتماع مجموعة الاتصال حول ليبيا في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، قائلة إن "أيام العقيد معمّر القذافي في الحكم باتت معدودة، معتبرةً أن "رحيل القذافي عن السلطة بات حتميا"، مؤكدة أن بلادها تعمل، مع شركائها الدوليين في إطار الأممالمتحدة للتحضير لما هو حتمي، وهو "ليبيا ما بعد القذافي". وأضافت الوزيرة الأمريكية أن "الوقت في مصلحتنا"، مشيرة إلى أن الضغوط الدولية على الصعيد العسكري والاقتصادي والسياسي تتزايد على القذافي، وسار في نفس الاتجاه وزير الخارجية الإيطالي، فرانكو فراتيني، الذي قال إن "حكم القذافي شارف على النهاية"... هكذا، إذن، وبين تجميد أصوله في الأبناك الدولية وبين الانشقاقات المتوالية للعديد من قياداته "المقرَّبة" وبين التنديد الدولي المتزايد بما ترتكبه "عصاباته" من جرائم قتل وتنكيل واغتصاب في حق أبناء وبنات ليبيا وبين القصف المتزايد والمركَّز على الأماكن المحتمَل تواجدُه فيها.. وبين تخلّي "أصدقاء الأمس" وحلفائه، وبين إصدار المحكمة الجنائية الدولية يوم الاثنين الماضي (27 يونيو) أوامر اعتقال في حق كل من القذافي وابنه سيف الإسلام ورئيس المخابرات الليبية عبد الله السنوسي، ومطالبة "أنصار" القذافي بتسليمه، بحكم أنهم الأقربُ إليه والأدرى بأماكن اختبائه وبتنقلاته، يجد "العقيد" نفسَه وسط دائرة ضيّقة لا شك أنها ستضيق عليه كل يوم أكثرَ فأكثر، ليجد نفسه، في نهاية المطاف، مضطراً إما للاستسلام أو للموت تحت قصفٍ مفاجئ أو حتى للانتحار، كما كان قد ألمح إلى ذلك في أحد تسجيلاته الصوتية الأخيرة، والذي ظهر من خلاله أن "دكتاتورَ" ليبيا، "الثائر"، قد فقد الكثيرَ من تلك الثقة الزائدة في النفس التي كانت لديه... فهل يُنهي القذافي مساره الطويل كحاكم مطلق ومستبدّ نهاية "مُذِلّة"، كتلك التي أنهى بها الرئيس السابق للعراق، صدام حسين، حياته، والذي كانت أمريكا قد نجحتْ في "إخراجه" من "غار" في مكانٍ ما في بلاد الرافدَين، مثل "جرذ" مذعور، وفق "سيناريو" أمريكي محبوك لإذلال الرؤساء والحكام العرب ممن لا "ترضى عنهم واشنطن"، بل وشنقتْه في يوم عيد أضحى!؟ أم ينتهي تحت أنقاض قصف مُدمّر لحلف "الناتو"، المصمّم، على ما يبدو، على تدمير البلاد والعباد في ليبيا، تحت ذريعة إنهاء حكم القذافي؟ أم يلجأ الأخير إلى الخيار المتبقي، الذي قد يرى فيه بقيةً من "عزّةِ نفس" رافضة للوقوع في قبضة "العدو الغربي"، ألا وهو الانتحار؟... خياراتٌ، وإن كانت متعددة، تصُبّ، كلُّها، في اتجاه نهاية مأساوية لدكتاتور حَكَم ليبيا لِما يزيد على 40 عاماً، لكنه لم يُحسن التعامل مع مطالب شعبه، فصارت "رأسُه" مطلوبةً من الشعب ومن أعداء الشعب، على حد سواء، إذ أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي عن تأييده استمرار تمويل الحملة الرامية إلى "إسقاط" القذافي بأي ثمن!... في الحقيقة، صارت كل المؤشرات تصُبّ في هذا الاتجاه، خصوصاً بعد أن تحدثت تقاريرُ إعلامية عن كون "ملِك الملوك" صار "يحتمي" بمخابئَ وأقبية تحت أرضية كان قد شيَّدها في إطار مشروع نهره "العظيم"، الذي كان قد أنفق عليه، في ثمانينيات القرن الماضي، أضخم ميزانية تُصرَف في تاريخ البشرية من أجل الماء... صار "الفأر" (الجرذ)، إذن، أقربَ ما يكون من مخالب "القط"، الذي يختار "الاستمتاعَ"، أطولَ وقتٍ ممكن، ب"اللهو" ب"فريسته"، وقد تأكّد أنها صارت من نصيبه... هذا بالضبط ما يحدث في "حالة" القذافي، الذي انتهى "مختبئاً" في أنفاق الصحارى، هارباً، مذعوراً من قبضة "الثوار"، الذين كان، حتى عهد قريبٍ، يعتقد أنه كان آخرَهم في أرض عمر المختار، قبل أن يُخيّب "الربيع العربي" ظنَّه ويصير مُطارَداً فوق رقعة "جماهيريته" من لدُن الثوار ومن لدُن دول الغرب، التي لم تُكِنَّ له، في يوم من الأيام، كبيرَ حُبٍّ، عكسَ ما كان يتوهّم... فإلى متى يظل هارباً، متواريّاً هذا المنقلبُ، الذي أطاح، ذاتَ "فاتح ديسمبر"، بملك ليبيا آنذاك، إدريس السنوسي، الذي اختار المنفى الاختياري /الإجباري، قبل أن "تنقلب" الأقدار على الشخص الذي أطاح به، وإن كان الأخيرُ لم يتّعظْ من "حكمة" آخرِ ملوك ليبيا وظل متشبثاً بوهم كونه "ملك الملوك".. فهل ترى هذا الوضع يستمر طويلا، خصوصاً وثوارُ ليبيا، وخلْفَهُم قوات "الناتو" تذرع مدنَ وبلداتِ ليبيا "زنكة، زنكة" وقبواً بقبو، بحثاً عن "هاربٍ" آخَرَ في صحارى العرب، التي داهمها عبيرُ "الربيع"؟!...