لِأزيَدَ من ثلث قرن، انشغل جفري وايت بتقديم القراءات والتحليلات العسكرية لكبار رجالات البنتاغون بمن فيهم وزير الدفاع الأمريكي شخصياً، وخلال السنوات العشر الأخير، راكم الرجل خبرات واسعة في ميدان "حروب المقاومة" على الاحتلالين الإسرائيلي في لبنان وفلسطين (حزب الله وحماس) والأمريكي في العراق (المقاومة). مؤخراً اصدر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، وهو "الذراع الفكري" ل"اللوبي اليهودي" في الولاياتالمتحدة، دراسة لوايت خصصها للحديث عن الحرب المحتملة المقبلة بين إسرائيل وحزب الله، حظيت باهتمام وتغطية واسعتين من قبل وسائل الإعلام العربية والدولية. الدراسة المذكورة بما تضمنته من معطيات وتحليل وحقائق وأرقام، ذكرتني بما سبق للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن أدلى به من معلومات ومواقف وتوصفيات عن "الحرب المحتملة إن اندلعت"، ولقد وجدت الكثير من المشتركات ما بين "التقديرين" ما هو لافت للانتباه، برغم صدورهما عن شخصيتين متضادتين تقف كل واحدة منهما في الخندق المقابل للأخرى. القاسم المشترك الأعظم بين استنتاجات وايت وتصريحات نصر الله، أن الحرب المقبلة إن اندلعت، أو بالأحرى حين تندلع، لن تكون كسابقاتها أبداً، ستكون حربا فاصلة لها ما بعدها، ستتغير في إثرها صورة المنطقة وقواعد اللعبة وميزان القوى فيها، هكذا يقول جفري وايت وهكذا يقول حسن نصر الله وإن بلغة أخرى. طاقة النيران وكثافتها لا يمكن تخيّلها من الآن، إسرائيل ستمطر حزب الله والجنوب والبنى التحتية اللبنانية بوابل من نيران المدافع والصواريخ والطائرات والبوارج الحربية، وحزب الله سيرسل إلى أعماق أعماق إسرائيل ب"طيور أبابيل"، صواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة الأمد، ما وراء ما وراء حيفا، من دون أن يستبعد وايت وصولها إلى إيلات على البحر الأحمر، فلا مكان في إسرائيل لا تصله صواريخ حزب الله، هكذا يزعم الخبير الأمريكي. الحرب القادمة ستكون حبلى بالاشتباكات والمفاجآت، اشتباكات بين دفاعات حزب الله الجوية وطيران إسرائيل الحربي والمروحي، اشتباكات في عرض البحر بين مقاومين وصواريخ وضفادع بشرية من جهة وأسطول حربي إسرائيلي متطور، ومعارك في البر وعلى الأرض (بما فيها الأرض الفلسطينيةالمحتلة)، ستبدو معها حرب تموز وغزة، نزهة قصيرة. لا خيار أمام إسرائيل سوى تسجيل انتصار غير خاضع للنقض أو الطعن لدى أية جهة، انتصار غير قابل للنقاش والسجال، انتصار سريع يقطع الطريق على تفاعلات "العدوانية الإسرائيلية الشرسة على الساحة الدولية"، انتصار لا يتيح لحزب الله ادعاء "النصر الإلهي" كما فعل من قبل، انتصار يعيد الاعتبار للتفوق الإسرائيلي ويرمم قدرة الردع الإسرائيلية المتآكلة، هكذا يرى وايت ويؤيده في ذلك عدد من جنرالات تل أبيب وسياسييها. وفي المقابل، ستنتهي الحرب المقبلة من وجهة نظر حزب الله، بهزيمة إسرائيلية نكراء، معترف بها وواضحة، تؤسس لبداية نهايتها، وتضعها على خط الانحطاط وسكة التآكل والتراجع، انتصار يعلي شأن المقاومة ويجعل كلمتها هي العليا، انتصار يؤسس لشرق أوسط جديد، غير ذاك الذي بشّرت به كوندوليزا رايس زمن حرب تموز قبل أربع سنوات...هكذا يرى حسن نصر الله الحرب القادمة وتؤيده في ذلك طهران وحلفائها. طبعاً، ما بين هذين السيناريوهين، ثمة سيناريوهات أخرى، من نوع: أن يفلح التدخل الدولي تحت ضغط هول المأساة وفداحة الخسائر إلى وقف القتال دون حسم، أو أن يشعر الفريقان المتقاتلان بالتعب والإعياء الشديد، فيبادران إلى التوقف في نصف الطريق، مثل هذه السيناريوهات أيضاً، سيكون لها ما بعدها سواء على قدرة إسرائيل الردعية أو على علاقة حزب الله بجمهوره وحاضنته الشعبية. لا تخفي إسرائيل استعداداتها للمنازلة الكبرى، ولا تكظم تهديداتها لحزب الله ولبنان الرسمي وسوريا وإيران، وهي تجري المناورات والتدريبات ليل نهار، وتخزن السلاح والعتاد من دون كلل أو ملل، وتراجع صبيحة كل يوم، الدروس المستفادة من إخفاقات حربي تموز والرصاص المصهور، هكذا يلخص وايت ما يجري في إسرائيل. أما حزب الله، فهو لا يخفي استعداداته المتزايدة للتصدي لأي عدوان إسرائيلي جديد، بل ولا يخفي أمينه العام بأن الحزب اليوم بات أقوى بكثير مما كان عليه عشية تموز 2006، وإذ يعتمد الحزب "سياسة الغموض البناء" فيما خص قدراته ومفاجآته العسكرية، إلا أنه لا يكف عن التلميح بأنه يمتلك ترسانة صاروخية أشد فتكا، ومقاتلين أكثر عدداً وأرفع تأهيلا، فضلا عن المفاجآت في الجو والبحر والبر التي يلمح نصر الله إليها من دون إفصاح. وأخيراً، فإن كلا الرجلين، ومن موقعيهما المختلفين مهنياً وسياسياً وفكرياً، يتفقان على تعاظم احتمالات توسع نطاق الحرب، وشمول أطراف إقليمية بنيرانها الحارقة، من جنوبفلسطين (قطاع غزة) إلى جنوب لبنان مروراً بسوريا وإيران، أما السبب فيعود ببساطة إلى أن الحرب المقبلة ستكون على الأرجح حرب حياة أو موت، بلا تسويات أو هدنات ولا نتائج ملتبسة وحمّالة أوجه وتفسيرات متعارضة.