هوية بريس – رضوان نافع الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الكريم واله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإنه لمن نوائب الدهر أن ينشغل العلماء والدعاة وطلبة العلم بتقرير الثوابت والمسلمات، وبيان حكم الفرائض والواجبات التي دلت عليها الآيات المحكمات والاحاديث المتواترات، وأكدتها الاتفاقات والاجتماعات؛ لتشغيب منتكس متعالم، أو جاهل ظالم تنكب طريق الحق والعلم، وسلك سبيل الباطل والظلم؛ خالط أهل الزيغ واحتفى بهم، فاحتفوا به وقدموه، وجعلوه أشقاهم فبعثوه؛ فانبعث للعبث بما بقي للناس من ثوابت الشريعة ومسلماتها. في خضم هذا الجدل الذي يثير غباره الإعلام العلماني، ويتولى كبره العلماني الجديد (أبو حفص) في موضوع الإرث على المسلم المغربي أن يعقد قلبه على أن آيات المواريث محكمة قطعيَّة الدلالة؛ والشارع سبحانه قد بينها بيانًا شافيا لا يقبل الاحتمالَ ولا التأويل، فمسائل الإرث كمسائل الحدود والكفارات والجنايات موصوفة بالثبات والقطعيَّة والإحكام، وتدخل في ما يسمى ب"المقدرات"؛ ومن ادعى الاجتهاد فيها بالتغيير، فقد حرف وغير شرع الله، وهذا مسلم ومقطوع به عند العلماء، ولا يلتفت الى كلام أي كان بعدهم؛ فهم أمناء الشرع الموقعون عن الله أخذ الله عليهم الميثاق بعد الأنبياء لتبليغ الحق وبيانه، وأمر الناس بالرجوع إليهم والنزول على ما علمهم الله (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فلا تبرأ ذمة المسلم باتباع المتفيهقين والمتفلسفين من العلمانيين والحداثيين، بل يكون باتباعهم قد خالف أمر ربه وحمل نفسه وزرا عظيما واقترف عليها إثما مبينا. لقد ادعوا الاجتهاد ونادوا بالمساواة في الإرث وزعموا أن هذا سائغ وموافق لمقاصد الشريعة وتعليل الأحكام، وأغفلوا ما ذكرناه من أن آيات المواريث قطعيَّة الدَّلالة، ثابتةٌ لا تتغيَّر بتغيُّر الزمان أو المكان، ولا يسوغ الاختلاف فيها، ولا إخضاعها في ثبوتِها ونفيها لاجتهاد المجتهدين، فما بالك بعبث العلمانيين. ولتكن أيها المسلم على حذر من تشغيب المتهوكين فالله عز وجل قال في شأن طائفة من بني اسرائيل (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)، وما ذلك إلا لإقرارهم لعلمائهم وأحبارهم على تبديل شريعة الله، فأحلوا الحرام وحرموا الحلال كما فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فما بالكم بمن أقر الجهال وشذاذ الافاق من العلمانيين والحداثيين كارهي شريعة رب العالمين؟!! لو اجتهد عالم من أهل الاجتهاد في مسائل الإرث القطعية لعد قوله شاذا ولاطرحه أهل العلم وكان قولا مهجورا، واليوم قد ادعى العلمانيون -الذين ليس فيهم عالم بالشريعة بله عالم مجتهد- الاجتهاد في مسائل الإرث فهل يقرهم مسلم عاقل على هذا. ولا تغتر أيها المسلم بشنشنتهم حول الحكمة والتعليل والمقاصد فوالله ما هم من أهلها، فالذين ينادون بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث ليس همهم في الحقيقة حقوق المرأة ولا تحقيق حكم ومقاصد الشريعة فهم أبعد الناس من ذلك، ومشروعهم الإفسادي بكل جوانبه شاهد على هذا، وإنما همهم هدم ما بقي من معالم الشريعة -ولو في هذه الجوانب الضيقة من حياة المسلمين-؛و هذه الدعوة تشبه مثيلاتها من الدعوة الى حرية المرأة والمطالبة بحقوقها المزعومة في العمل والاختلاط والتعري والانحلال؛ فمقصودهم تغيير شرع الله وإشاعة الفساد بين المسلمين، ولهذا فإن دعاة السفور والانحلال في الغرب والشرق هم من يؤيد بل من يؤز من ينادي بمراجعة مسائل الإرث. ولقد استغل هؤلاء المفتئتون على الشريعة جهل الناس النسبي أو الكلي بمسائل الإرث وأحكامه، فصوروا للناس أن المرأة مهضومة، ولمكرهم وحتى لا يتهموا بوصفهم الله -تعالى عما يصفون علوا كبيرا- بالظلم خصوا المرأة في عصر الناس هذا دون غيرها بهذا الحكم، وعللوا ذلك بتغير أحوال الناس وعاداتهم الاجتماعية وأن المرأة أصبحت فاعلة اقتصاديا مما يقتضي تغير هذه الأحكام، وهم في ادعائهم الباطل اختزلوا مسائل الميراث في جزء من آية واحدة من سورة النساء (للذكر مثل حظ الأنثيين) وهذه مغالطة كبرى وعبث بنصوص وأحكام هذا العلم الشريف؛ واستغفال للمسلمين. فالله سبحانه وتعالى قد تولى بيان أحكام الميراث، وقد جاء معظمها مفصلا في سورة النساء، وجاءت على خلاف الغالب على منهج القران من ذكر الأحكام مجملة، وترك تفصيلها وبيانها للسنة الشريفة، وهذا مشعر بأهمية هذه الأحكام وقطعيتها؛ فالتشريعات المتعلقة بالميراث تعالج قضية مهمة في حياة الناس، لكون القضايا المالية تشتد فيها المنافسة والحرص على استيفاء الحقوق، وكثيراً ما تقع فيها الخصومات؛ والورثة تجمعهم صلة القرابة، فاقتضت الحكمة الحرص على دفع كل ما يكون سببا في إفساد هذه العلاقة، والحفاظ على هذه العلاقة مقصد، لا يتغير بتغير الزمان والمكان، فاستلزم ذلك ان تكون هذه الاحكام ثابتة وقطعية. والمنادون بتغيير أحكام الميراث طلبا للعدل فيها، بلا شك قد اتهموا الله جل في علاه بالظلم فهو من أنزل هذه الاحكام وجعلها ثابتة صالحة لكل زمان ومكان. إن الله بتوليه قسمة الميراث من فوق سبع سماوات قد نفى عن هذا العلم الشريف الأهواء البشرية، وما أعظم أهواء بني علمان الذين لا هم لهم الا تغريب المجتمع وسلخ هويته وجره إلى مستنقع التفسخ والانحلال. ومما ينبغي على المسلم أن يعقد عليه قلبه أيضا أن نظام الإرث نظامٌ متكامل أشبه ما يكون بالعقد المنظوم، وأن مسائله متفرعة في نسق بديع اقتضته حكمة الحكيم الخبير، وتغيير جزئيَّة بسيطة من هذا العلم -كما ينادي بذلك المتهوكون- سيينتج عنه خلل معرفيّ واضطراب في مسألة التقسيم. وينبغي ملاحظة أن الذكورة والأنوثة التي يدندن حولها العلمانيون ليست معيارًا مستقلا في تقسيم الإرث؛ فالميراثُ يُقسَّم حسبَ تحديد الشرع، فالشارع الحكيم قد جعل القرابة سببا رئيسا للميراث، وجعل الانصبة مختلفة لاعتبارات وحكم شتى، الإحاطة بها كلها محال وهذا من الاعجاز التشريعي في الأحكام الإلاهية لكن بعض الاعتبارات قد تكون ظاهرة تبعث في قلب المؤمن تعظيم الأحكام الإلاهية، وترسخ لديه اعتقاد اتصافها بالحكمة، ومن هذه الاعتبارات: أ- الجهة: فيقدم الوارث من الجهة الأقرب على الوارث من الجهة الأبعد، فمثلاً تقدم جهة البنوة على جهة الأخوة. ويجدر الاشارة هنا أن جعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى مع استوائهما في جهة البنوة ليس ظلما ولا هضما للمرأة كما يشغب بذلك العلمانيون ومن شايعهم بل إن ذلك من دلائل الاعجاز في مسائل الإرث، فمن المسلم به أن الشريعة الاسلامية متكاملة ومتناسقة، وأحكامها مترابطة، فلما فرض الله على الرجل دون المرأة واجبات مالية اقتضت حكمة الله مراعاة ذلك في جوانب أخرى من التشريع، ومن ذلك المواريث. فالرجل ملزم بدفع المهر، وهو حق خالص للزوجة وحدها، فالرجل هنا يعطي والمرأة تأخذ. كما أن الرجل ملزم بالنفقة على زوجته وأولاده؛ والمرأة غير ملزمة بشيء من ذلك، ولو كانت غنية، إلا أن تتطوع بمالها عن طيب نفس، وإذا فعلت فإن ذلك لا يعتبر نفقة اصطلاحا، ولو صار ذلك سمة اجتماعية غالبة، وإنما هي من قبيل الهبات؛ ولا يناط بها تغيير حكم من الأحكام كما يزعم العلمانيون المنادون بتغيير أحكام الإرث، بل نحن نرد عليهم بقوة فنقول: إن تغير هذه العادات الاجتماعية اليوم وإلزام المرأة بالنفقة هو الظلم والحيف الذي يجب إنكاره وتغييره، لا تغيير أحكام الارث، فالمرأة قد أسقط الله عنها هذه الأعباء المالية فلم تلزمونها بها ظلما وعدوانا، ثم تتباكون على حقها المهضوم في الميراث كما تزعمون. ومما يعتبر أيضا في هذا الباب أن الرجل تلزمه النفقة على الأهل والأقرباء وغيرهم من التوابع ممن تجب عليه نفقتهم، وهو ملزم في أحوال كثيرة- دون المرأة- بأعباء عائلية والتزامات اجتماعية قد يخلفها مورثه باعتباره عاصبًا، ولذلك حينما تنتفي هذه الاعتبارات كما هي الحال في شأن توريث الإخوة لأم، نجد أن الشارع الحكيم قد سوَّى بين نصيب الذكر ونصيب الأنثى في الميراث، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ [النساء:12]. فلما كان هنا أصل توريث الاخوة هو الرحم لإدلائهم بالأم لم يكونوا عصبة، ولم يكن الرجل غارما دون المرأة، ولم تلزمه تبعات المورث؛ كان العدل هو التسوية بين الذكور والإناث في الميراث. ومما سبق يظهر أن المرأة في الاسلام مالها موفور فهي مكفية المؤنة والحاجة، وتجب نفقتها على زوجها أو ابنها أو أبيها أو أخيها أو عمِّها أو غيرهم من الأقارب بينما مال الرجل مستهلك وفيه تبعات كثيرة، فكيف ينكر هؤلاء المتهوكون المفاضلة بين الرجل والمرأة في احوال ضيقة؟!، ومما يغفل أو يتغافل عنه المشغبون أن هناك حالات كثيرة تكون المرأة أسعد حظا من الرجل في الميراث، فهناك أربع وثلاثون حالة من أحوال الميراث ترث فيها المرأة بنسب مختلفة : – عشر حالات ترث المرأة مثل الرّجل. – عشر حالات أخرى ترث المرأة فيها أكثر من الرّجل. - عشر حالات تحجب المرأة فيها الرّجل وتأخذ الإرث كاملاً. - أربع حالات فقط وهي التي يكون فيها للذّكر مثل حظّ الأنثيين. فكيف يزعم بعد هذا ان في احكام الميراث ظلم للمرأة ؟؟!! ب- الدرجة: إذا اتفق أكثر من وارث في الجهة نفسها، فإن التقديم والمفاضلة بينهما تكون وفقا لدرجة كل وارث، فالابن وابن الابن في جهة واحدة وهي البنوة، لكن نقدم الأقرب درجة وهو الابن، ومثل ذلك تقديم الأب على الجد. ج- قوة القرابة: فيقدم الأقوى قرابة على غيره، فمثلاً يقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب، ويقدم العم الشقيق على العم لأب. ومن الإعجاز التشريعي في أحكام الإرث تقديم الابن على الأب، وقد يقول قائل كيف يقدم ابن الميت على أب الميت، والأب هو صاحب الفضل على ابنه وليس العكس، وصاحب الفضل أولى بالتقديم، وقد جاءت نصوص كثيرة تحث على البر بالوالدين والاحسان إليهما فينبغي أن لا يقدم عليهما أحد. جوابا على هذا الايراد نقول بأن تقديم الأب على الابن في الميراث يترتب عليه أن ينتقل ما يرثه الأب إلى إخوة الميت فما يرثه الأب سيكون ميراثاً لأبنائه، أي حواشي ابنه الميت، وهذا معناه أن ينتقل الميراث لجهة الأخوة، مع أن الأبناء أولى به، وهذا يتناقض مع مبدأ تقديم الأقرب في الميراث، كما أن الإنسان بفطرته يحب جمع المال؛ لينتفع به أبناؤه بعد موته لا إخوته. ومن الحكم أيضا في تقديم الابن على الأب، أن الإبن مقبل على الحياة وهو في حاجة إلى المال وحريص عليه، بينما الأب مدبر عن الحياة وحاجته إلى المال وحرصه عليه أقل، فالأبناء جيل مقبل على الحياة بكل مسؤولياتها وواجباتها المالية بخلاف جيل الآباء. فالشارع الحكيم اعتبر جملة من الحقائق منها ما هو ظاهر ومنها ما هو دقيق، فكانت أحكام الميراث محكمة تحفظ الحقوق، وتراعي الفطرة، وتحقق العدل بأبهى صوره لكن يؤفك عنه من أفك.