ما أكثر الأعمار التي تضيع، والأوقات التي تهدر، عند الملتزمين بدين الله، الطامحين لإقامة شرع الله في الأرض! ومع ذلك فما أقل الأثر، إذا قورن بضخامة الجهد، ونبل القصد! والأسباب كثيرة، يكمّل بعضُها -في مجال هدم النجاعة- بعضَها الآخر، ولكن أخطرها: ضعف التأطير الفكري المنهجي، عند التناول اليومي لأحداث الواقع، والانخراط التام في ممارسة الوقائع اليومية أو تحليلها، مع الانفصال الكامل عن الوعي بالقواعد الكلية التي تنتظمها. أهمية فقه الواقع وقبل أن أبين خطورة هذه الآفة الفكرية، التي تمنع النجاعة، وتحرم العاملين من الثمار، لا بأس بالتذكير بأن العلم بالواقع، بل حسن تفهمه والتفقه فيه، شرط لا محيد عنه لمن أراد تنزيل الأحكام الشرعية، وإعادة الشريعة لدورها في التحكم بدفة الأفراد والمجتمعات، ومصالحة حاضر الأمة المنحط بماضيها المجيد. ولا ريب أن المناداة بتطبيق الشريعة مع الجهل بالواقع -بسيطا كان هذا الجهل أو مركبا- شعار منبتٌّ عن التأثير؛ ودوره في دغدغة المشاعر أظهر من نتيجته في حصول التغيير المنشود. وقد ذكر علماؤنا المتقدمون أن فهم الواقع شرط في الفتوى والاجتهاد، لا يقل في خطره عن شرط معرفة الحكم الشرعي المستفاد من الوحي. ولخص ابن القيم رحمه الله ذلك بقوله (إعلام الموقعين 1/87): (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق، إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر). وإذا كان أكثر الناس اليوم لا ينازعون في هذا الأصل من حيث المبدأ، فإن تحصيل هذا الفهم تعتوره -عند التطبيق- آفات كثيرة، تجعله جهلا في سربال العلم! فعن أي فهم للواقع نتحدث؟ جرد الحال في خضم الثورة المعلوماتية الهائلة التي صار العالم يرزح تحت وطأتها، لم يعد لأغلب الناس مندوحة عن المتابعة اليومية للأحداث المستجدة السريعة. وهذه المتابعة تستنزف من الأوقات والجهود، ما يصرف عن الجهد الفكري الشامل، الذي يضع للوقائع الإطار العام الذي تتحرك داخله، وتفهم من خلاله، فيسهل تحليلها وتوقع الآتي منها. هذا في مجال متابعة أفعال الآخرين، وأما في مجال العمل الذاتي، فالأمر لا يخالف هذه الصورة القاتمة. فإن العاملين ينشغلون بجداول النشاط اليومي المزدحمة، فلا تظهر لهم الأخطاء حين وقوعها، بل لا يبقى لهم الجهد الكافي، ولا الرغبة الصالحة، للتقويم والنقد الذاتيين، لا في الوسائل ولا في الغايات. وهكذا يعيش الناس اليوم بين حالين: – حال الانشغال التام الصارف عن التفكير المنهجي. – حال النقص العلمي المفضي إلى الحيرة والتردد. فالأول مثل القاعد على صخرة عالية، يراقب منها تحرك المراكب في لجج البحر، بين مقبل ومدبر، وهو في ذلك لا يميز المصيب في سيره من المخطئ. والثاني مثل المقبل على دفة سفينته، لا ينظر إلى أبعد منها، فهو مُلْتَهٍ بها عن تدبّر حقيقةِ مسيرته! وللإعلام أثر.. والإعلام في عصرنا يزيد من تعميق هذه الأزمة الفكرية، فإن له طرقا مسمومة في تجهيل المخاطبين، عبر إمطارهم بما لا يحصى من أوشاب المعلومات، التي لا ينتظمها عِقد جامع. وهكذا يقضي المدمن على هذا الإعلام سحابةَ يومه في متابعة الأحداث اليومية المتلاحقة، التي تتخللها تحليلات صحفية تقدَّم على أنها مقاربة فكرية منهجية، يلقيها من يقدَّمون على أنهم محللون متخصصون. وهكذا يخدّر شعور النقد والاعتراض عند المتلقي، ويستقر في وعيه الباطن أنه على نهج سليم في تغذية فكره، وتنمية معارفه. والحالُ أنه ضحية الصخب الإعلامي من حيث لا يدري، وأن المفاهيم التي يراد له أن يتشبع بها صارت ممازجة لفكره، من كثرة تكرارها على مسامعه! وإذا كان التكرار الإعلامي قد يفضي إلى ترسيخ الكثير من المعاني والأفكار، فإن ردة الفعل العكسية التي تحدث لبعض الناس النابهين، تؤدي إلى رفض ما يأتي من الإعلام مطلقا، ولو أن يكون صوابا! وهكذا يبالغون في الاعتراض، حتى يخالفوا لأجل المخالفة؛ وتنمو عندهم حينئذ نظريات المؤامرة، وملاحظة الأيدي الخفية في كل قول أو عمل! مجالات يظهر فيها انعدام التوازن: وهذا التطفيف في ميزان المقابلة بين التأطير الفكري المنهجي، والحشد المعلوماتي، يظهر في ميادين كثيرة ومختلفة. ففي ميدان السياسة مثلا، وفي مقابل المتدينين المنشغلين بالقضايا العلمية النظرية، والمنزوين في ما وراء المجتمع والدولة؛ ينطلق آخرون من قمقم العزلة إلى فضاء الانشغال اليومي بأحداث السياسة، في أدق تفصيلاتها. ثم يأكل هذا الانشغال أعمارهم، ويقتل قدرتهم على التمييز والتحليل، فيجدون أنفسهم -بعد حين- قد طحنتهم الوقائع، فهم يدورون في الفلك ذاته الذي يدور فيه عموم أهل السياسة، دون إضافة نوعية معتبرة. وفي مجال القراءة والاطلاع العلمي والفكري، يهتم أصحاب هذا الخلل، بكل جديد تقذفه المطابع، أو تمجه الشبكة العنكبوتية، غثا كان أو سمينا، دون منهج علمي يحدد الأولويات، ويرتب الاهتمامات. وبسبب من ذلك، تبرز طائفة المتعالمين من مدعي التجديد والاجتهاد، فتجد لها جمهورا وأتباعا، ليس لهم من التأصيل ما يعصمهم من اتباع كل ناعق! وفي مجال التأليف والبحث، يحشد الطالب أمامه ما لا يحصى من المعلومات المتناثرة، دون خيط جامع. ثم تكثر عليه هذه المعلومات حتى تقتله فكريا، كما قتلت الجاحظَ كتبُه عمليا! وليراجع ما ذكره عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- عن هذا الذئب المعلوماتي الهيجلي (رحلتي الفكرية ص: 179). وقل مثل ذلك في الثقافة والأدب والعلوم الإنسانية والرياضة، وجميع مجالات الحياة المتنوعة. خطورة غياب التوازن بين الكلي والجزئي تفطن علماؤنا المتقدمون إلى خطورة الاستغراق في الجزئيات، وعدم حشدها في خانات كلية جامعة. بل إن الشرع جاء مع الكثير من التفصيلات، بالكليات والمقاصد الكبرى، التي يستنبط المجتهد منها ما لا يحصى من الأحكام الفرعية، في كل زمان ومكان. وقد بين الشاطبي رحمه الله أن هذا هو معنى إكمال الدين المذكور في قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)، فقال (الاعتصام-مشهور 3/376): (.. فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل). واعتنى العلماء بالتقعيد والتأصيل في الفنون كلها، حتى ربما جاوزوا القدر المحمود، حرصا منهم على التخلص من اضطراب الجزئيات وكثرتها. كما قال القرافي رحمه الله (الفروق ص 6-7): (.. ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، .. ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب). وكأن القرافي يصف حال كثير من الملتزمين اليوم، أمام مستجدات الواقع، حين تتناقض عليهم الجزئيات وتضطرب، وتضيق لذلك أنفسهم وتقنط! "وقد يحوي التفاصيل من يستحضر الجملا" كذا قال ابن مالك رحمه الله في لاميّته، منبَها على أهمية استحضار الأحكام المجملة والقواعد الكلية. وكذا ينبغي أن يقول العاملون لدين الله اليوم، بلسان الحال والمقال معا! وهذا يقتضي بذل الجهد في أمور كثيرة منها: – تحصيل الدراسة الفكرية المنهجية المتدرّجة، في مختلف الميادين التي يقع العمل فيها. فيعتني خائض غمار السياسة مثلا بدراسة أصول علم السياسة والاجتماع والفكر والفلسفة. وكذا في المجالات الأخرى. – تحري وضع الخطط والدراسات النظرية، قبل خوض غمار العمل. (وغني عن الذكر أن التخطيط لا يمنع من مراعاة المرونة في تغيير الخطط، بحسب ما تمليه ظروف الواقع). – وضع الأطر الفكرية العامة، والنماذج التفسيرية الكلية، ومحاولة إرجاع كل أنواع الاختلافات والجزئيات لها. – الحرص على البحث عن النظائر والفروق، داخل المنظومة الفكرية التي تنتظم العمل. – الانقطاع عن إعلام الإثارة المعلوماتي، وعن المتابعة اليومية للأحداث في مراحل راحة، يعاد فيها شحن طاقة التحليل والتنظير. والله الموفق.