هوية بريس – الأربعاء 29 يونيو 2016 "جمهرة أبحاث ودراسات" هو العنوان الذي اختاره الأستاذ إسماعيل الخطيب لأحد مؤلفاته التي يسرني أن أشارك القراء الكرام الحديث عنه في ذكرى رحيله -رحمة الله عليه- غرة رمضان مند ثلاث سنوات خلت، وترك رحيله فراغا بينا على منابر الخطابة والوعظ بمدينة تطوان. وقد ذيل الأستاذ إسماعيل الخطيب عنوان هذا الكتاب بما يوحي أنه يشمل مجموعة أبحاث قرآنية وحديثية وفقهية واجتماعية. وذكر في مقدمته أن هذه الأبحاث كتبت في فترات متباعدة، بعضها قدم لندوات علمية ونشر ضمن أعمالها، وبعضها نشر في مجلات متخصصة، ومنها ما ألقي في مجالس علمية، كما أشار المؤلف إلى ذلك في أعقاب كل مداخلة، هذه المداخلات قد تطول وقد تقصر في تحريرها حسب الداعي لذلك؛ إن كانت محاضرة أو مشاركة علمية أو مقالة صحفية.. إلا أنها وإن اختلفت في مواضيعها فإنها جميعها تعالج أمورا ملحة لها صلة وثيقة بواقع أمتنا الإسلامية. وقدم لهذا الكتاب رفيق المؤلف في البحث الدكتور حسن الوراكلي بمقدمة ابتعدت عن التقريظ – حسب قوله- لتغوص في تتبع اهتمامات الأستاذ إسماعيل الخطيب الدعوية الإصلاحية، ومواكبة مشروعه الإصلاحي العام على منبري الدعوة والعلم، كما تشهد لذلك كتاباته ومشاركاته العلمية وقلمه الصحفي. وسأستعرض في هذا المقال لمضمون بعض هذه الأبحاث فقط دون بعض وبغير ترتيب المؤلف، وذلك حسب أهميتها الآنية، وإن كانت كلها مهمة، ولكن اقتصاري على بعضها كان مراعاة لزمان ومكان هذا المقال، وإلا فالكتاب جدير بالاطلاع كاملا. 1- وأول ما يطالعنا من هذه الأبحاث موضوع بعنوان: "التفسير العلمي للقرآن بين المنكرين والمسرفين" وقد خلص فيه الأستاذ إسماعيل الخطيب إلى القول بأن المقصود بالتفسير العلمي أنه من قبيل مسايرة التطوير الدلالي للفظ "علم"، وهو نوع من التفسير يستعين المفسر فيه بالحقائق العلمية التي هدى الله البشر إليها لإقامة الدلائل على أن القرآن من عند الله.. لكن الملاحظ – كما يشير المؤلف- أن هناك من المفسرين من نحا في تفسيره إلى استنتاجات عصرية بغلو زائد.. مما يعتبر من التأويل المريض والتكلف والتحريف الذي ينبغي أن ينزه عنه كتاب الله. ومن ثم وجب أن نتخذ موقفا وسطا في ذلك. فكتاب الله مقصده الأصلي الهداية والإرشاد، وحديثه عن مختلف الحقائق العلمية إنما جاء لتعميق تلك الهداية وترسيخها في القلوب، فالتفسير في ضوء المعلومات العلمية يجب أن يخدم قضية الإيمان واليقين أولا. 2- ثاني هذه الأبحاث بعنوان: "التحديات المواجهة لثقافتنا الإسلامية" وقد وقف فيه المؤلف على مفهوم الثقافة أولا معتدا بالتعريف الذي يعتبر الثقافة جملة القيم الدينية والأخلاقية والنظم الاجتماعية والمعارف العلمية والأشكال الفنية والعادات والأعراف التي قامت بها الحياة الفردية للإنسان المسلم والحياة المشتركة للشعوب الإسلامية في أي قطر من أقطار الإسلام. ولذلك كان للثقافة الإسلامية خصائصها التي تميزها عن غيرها من الثقافات.. وإذا كانت بعض الثقافات تقف عند ماديات الحياة، وبعضها يسلك سبيلا روحية تجريدية، فإن الثقافة الإسلامية استطاعت أن تجمع بين المادة والروح وأن تمثل الوسطية التي جاء بها الإسلام.. ثم انتقل المؤلف في هذه المداخلة إلى الحديث عن أن الثقافة الإسلامية اليوم تواجه تحديا خطيرا يعمل على اجتثاثها والقضاء عليها وإحلال ثقافة الغير محلها، مرجعا هذا الغزو إلى مظاهر ثلاث: أ- التحدي العقدي: وذلك بإدخال الوهن والضعف إلى قلوب المسلمين وزعزعة عقيدتهم التي ترفض الذل والهوان ونشر الخرافة والفكر الوثني ناهيك عن تسرب الفكر العلماني الذي يقتضي فصل الدين عن مظاهر الحياة. ب- التحدي اللغوي: وذلك بمحاربة اللغة العربية، مرة بالتشكيك في قدرتها على استيعاب الحضارة المعاصرة، ومرة بإحلال اللغات الأجنبية الأخرى محلها في التدريس والإنتاج العلمي. ج- التحدي الاجتماعي: وذلك بمحاربة أساس ما يقوم عليه المجتمع الإسلامي وهو الأخلاق. 3- ومن هذه الأبحاث كذلك بحث بعنوان: "الصحوة الإسلامية والإعلام الغربي" وذكر فيه الأستاذ إسماعيل الخطيب أن الحديث عن الصحوة الإسلامية قد يفهم منه أن العالم الإسلامي يعرف يقظة إسلامية بعد فترة شهدت نوما عميقا.. ولست أرى الأمر كذلك -يقول المؤلف- فإن العالم الإسلامي وإن ألمَّ به ضعف وركود فإن جذوة الإسلام ظلت تنير السبيل وتهدي الناس، وما من عصر إلا وبرزت فيه صحوة يتقوى دورها أو يضعف.. إلا أن تعامل الإعلام الغربي معها سادت عليه نظرة التشويه الممزوج بالتحريض.. وذلك بوصف العاملين للإسلام بأنهم متطرفون جامدون متعصبون.. وبأن الإسلام غير قادر على إيجاد حياة عصرية حديثة تستمد أصولها من الرؤية الدينية.. ومن ثم تجب مواجهتها خشية من هذا المد المتواصل لهذه الصحوة الدينية. 4- من جملة هذه الأبحاث أيضا موضوع بعنوان: "ملامح التسامح الإسلامي" أبرز فيه المؤلف مظاهر التسامح الإسلامي بوضوح من خلال منهج الإسلام في معاملة غير المسلمين سواء من أهل الكتاب أو من غيرهم من المقيمين في ديار الإسلام. وتتجلى هذه المظاهر على مستويات عدة منها: أ- أن أساس المعاملة بين المسلمين وغيرهم قائمة على البر والقسط كما جاء في آيات عديدة من القرآن الكريم. ب- أن الإسلام يقر حرية الاعتقاد والتدين للغير فلا يجبر أحد على ترك دينه واعتناق الإسلام. ج- أن الإسلام يقر حسن المعاملة والمعاشرة مع غير المسلمين. د- وقد سن لذلك من الأحكام ما جعل من تلك الإرشادات قانونا يجب العمل به وتقع العقوبة على من خالفه.. وتلك النظرة المتسامحة هي التي حققت ذلك التساكن الهنيء والجوار الأليف بين المسلمين وأهل الكتاب على امتداد التاريخ. 5- بحث آخر جدير بالعرض تضمنه هذا الكتاب وهو بعنوان: "مفهوم التكافل"، وقد اعتبر فيه الأستاذ إسماعيل الخطيب أن البعض يعتقد أن التكافل الاجتماعي ينحصر في إعانة المحتاجين ببذل الصدقات وكفالة الأيتام والعناية بالمرضى والزمنى.. وهذا مفهوم قاصر للتكافل. بينما هو أشمل من ذلك، إذ تدخل في عناصره كل مدلولات الإحسان والصدقة والبر.. وقد عني الإسلام بأن يكون التكافل الاجتماعي نظاما لتربية الفرد وضميره وشخصيته وسلوكه الاجتماعي، فليس هناك فرد معفى من رعاية المصالح العامة، ويتمثل ذلك أساسا في المحاور التالية: أ- إيجاد العمل لكل قادر عليه وذلك ببناء المصانع واستصلاح الأراضي واستخراج ما في باطن الأرض. ب- توفير الحياة الكريمة للعاجز عن العمل.. والنصوص الشرعية تحض على واجب المساعدة في ذلك.. والمخاطبون بهذا الخلق العظيم -خلق التكافل- في الشريعة الإسلامية يشمل كلا من الأفراد والجماعة: – فالفرد مطالب بأن يكفل نفسه وأن يجد ويجتهد ليسلك بها طريق الصلاح وألا يلقي بها إلى التهلكة.. – والقرابة الأسرية كذلك لها دور الكفالة بما تشمله من كفالة الأصول العاجزين.. – والدولة لها حظها إن لم يتوفر العنصران السابقان في هذا التكافل.. فالدولة مسؤولة عن فقرائها ومعوزيها أن تكفلهم حد الكفاية.. 6- ومن هذه الأبحاث كذلك موضوع بعنوان: "منهج الحوار من خلال الكتاب والسنة" عرض فيه أستاذنا لمفهوم الحوار في الإسلام، معتبرا أن الحوار هو المنهج الأسلم للعلاقة بين الناس. فهو السبيل لمعرفة الآخر ولتعريفه بوجهة نظر يجهلها ويحاول الآخر إقناعه بها. وهو أحد أهم عناصر الاحتكاك الفكري والتكامل الثقافي.. وما أمسنا اليوم إلى الحوار الحضاري والثقافي والديني في وقت تعددت وتنوعت وسائل المعرفة والاتصال واتسعت بسببه مظاهر التباين والاختلاف.. لذلك كان الحوار ضرورة ملحة. والحوار يمثل عملية دفع كما في الآية الكريمة: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). وينطلق الحوار مع الآخر في الإسلام من قيمة تعتبر من أهم القيم الإسلامية هي الاعتراف بالآخر المخالف، بل بنية الإسلام هي بنية حوارية انطلاقا من الآية الكريمة: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، وكان اعتماد القرآن على الحوار أساسا في منهجه وأسلوبه في معاملة الغير، وهو كذلك دأب النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، وقد تكررت محاورات النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود الذين كانوا يحرصون على الإكثار من مساءلته.. 7- "خطبة الجمعة وإصلاح المجتمع" هو عنوان آخر من عناوين هذا الكتاب، وعلى الرغم من أن المؤلف قد أورده مرتبا في البحوث الأولى إلا أني ارتأيت أن أجعله مسك الختام لهذا التقديم لجلة ما تضمنه من أفكار ولتمثل دور الأستاذ إسماعيل الخطيب وهو خطيب الجمعة المفوه على منابر الجمع والأعياد والمواعظ بمساجد تطوان -رحمة الله عليه-.. ومما جاء في هذا البحث قوله أنه منذ ذلك التاريخ -تاريخ مشروعية خطبة الجمعة- وهي تؤدي رسالتها في تطهير القلوب وتنوير العقول وتأصيل العقيدة وإصلاح المجتمع.. وكلما انصرمت الأعوام إلا وارتفعت منابر جديدة.. في كل أسبوع تبلغ رسالة الإسلام وتدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة إلى التخلق بأخلاقه والالتزام بهديه.. وبذلك كانت خطبة الجمعة مدرسة لتقرير أحكام الدين وترسيخ جذوره في نفوس المومنين.. وهي الوسيلة الفعالة للتوجيه الدائم للمجتمع، الكفيلة برده إلى الجادة عند انحرافه.. لذلك كان على خطبة الجمعة أن تواكب الأحداث وأن تقدم الحل الإسلامي لمختلف المشاكل الطارئة.. وهناك صنف من الخطباء -يقول المؤلف- انحرفوا عن المنهج النبوي في الدعوة والوعظ ممن يطيل خطبته ويعدد مواضيعها، وهي وقت -لو أحسن الخطيب استغلاله- لكان كافيا للتزود بالأحكام الشرعية في مختلف المواضيع. وهناك من ابتعدوا بخطبهم عن الواقع المعيش، فتجدهم يختارون في خطبهم مواضيع لا تهم الحاضرين ولا تحرك وجدانهم، وكأنهم لا يعيشون هذا العصر.. لأجل ذلك كان على خطباء الجمعة أن يكونوا مؤهلين لهذه المهمة بأقصى ما في الإمكان، والتنبيه دائما في خطبهم على ضرورة التخلق بمكارم الأخلاق والنهي عن مساوئها، فلا صلاح للمجتمع إلا بصلاح الأخلاق… مواضيع وأبحاث هذا الكتاب عديدة وجديرة بالاطلاع؛ فقهية واجتماعية، تناولت مواضيع كثيرة من قبيل: الاجتهاد وضوابطه، التعليم وقضاياه، المرأة المسلمة وأدوارها في التربية والجهاد، فقه الأقليات، حقوق الطفل المعاق، وغيرها من المواضيع الهامة حسب نوع المشاركة بها في الندوات العلمية أو المحاضرات أو المقالات، لكن حسبي أني أشرت إلى بعضها على سبيل التمثيل لما تضمنه الكتاب كاملا، باعتباري أني قدمت تعريفا به واستعرضت بعض أبحاثه.. عسى أكون قد أسهمت في التعريف بالكتاب واختياره لهذه الفسحة، وإلى فسحة رمضانية أخرى أقف فيها على قطفة من شذرات مؤلفات أستاذنا -رحمه الله-… ذ. منتصر الخطيب