إذا رجعنا لتاريخ الدول المتقدمة أو تلك التي حققت طفرة تنموية في العقود الأخيرة، سنجد أن سر تقدمها يعود بالأساس إلى فرص سانحة للإقلاع الإقتصادي، عرفت تلك الدول كيف تتعامل معها. هذه الفرص هي التي يقول عنها عالم الاجتماع المغربي محمد كسوس رحمه الله " اقتناص الهمزة" لتحقيق التقدم الاقتصادي. فإذا تحدثنا مثلا عن قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية نذكر صناعة الفولاذ والسكك الحديدية، وإذا تحدثنا عن تقدم بريطانيا العظمى نذكر ابتكار الآلة البخارية وصناعة القطن. أما الدول التي حققت تنميتها في العقود الأخيرة فنذكر على سبيل المثال النمور الأسيوية واقتناص فرصة المعاملات المالية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. بالنسبة للجزائر التي تتوفر على ثروة كبيرة من البيترول والغاز، فقد كانت قبل بضعة سنوات أمام فرصة سانحة لتشق طريقها نحو تحقيق طفرتها التنموية حين تجاوز سعر البرميل عتبة 140 دولارا. لقد عاشت الجزائر خلال هذه الفترة وقتا من الرفاهية التي بذرتها ولم تعرف كيف تجعل منها "همزة" لتحقيق التنمية كما فعلت الإمارات بثروتها الطاقية، وقبلها سنغافورة وماليزيا الذَيْن استفادا من فرص المعاملات المالية المتاحة آنذاك، وجعلها رافعة لتحقيق التنمية الشاملة. خلال هذه الفترة كان النظام الجزائري يتباها باحتياطاته من العملة الصعبة التي يجنيها من السعر المرتفع جدا للبيترول. في نفس الظرف كانت الدول المستوردة لهذه المادة تعاني كما يعاني اقتصادها من ارتفاع فاتورة البيترول، ومن بينهم المملكة المغربية. لكن النظام الجزائري لم يعرف كيف يتعامل مع هذه الفرصة السانحة لجعل الجزائر هي دبي شمال إفريقيا. ففوَّت على الشعب الجزائري فرصة لتحقيق العيش الكريم وتطوير دخله الفردي. وما أن تراجع سعر البرميل لما دون 60 دولارا، حتى بدأت الجزائر تعيش أزمتها الاقتصادية وكأنها لا تزخر بموارد الطاقة من بيترول وغاز. فعوض أن نشاهد جزائر التقدم والنمو، شاهدنا جزائر الحراك وشعبا يخرج للشوارع مطالبا بالعيش الكريم ورافعا شعار "اتنحاوا كاع". بعد الحرب الروسية الأوكرانية، عرف العالم أزمة طاقية غير مسبوقة، وأصبحت الدول المتقدمة تبحث عن بديل للغاز الروسي بأي ثمن. الأمر الذي جعل الثروة الطاقية التي تتوفر عليها الجزائر، فرصة أخرى سانحة لتحقيق الطفرة التنموية الجزائرية إن اتجه النظام الجزائري نحو تغليب مصالح البلد القومية وطموح الشعب الجزائري في التنمية والعيش الكريم. لكن مع الأسف الشديد، جنيرالات الجزائر يرتكبون نفس أخطاء الماضي وكأنهم لا يستفيدون من الأخطاء. الطلب المتزايد على الغاز، جعل الجزائر محط اهتمام الكثير من الدول خاصة الأوروبية. لكن عوض أن يستثمر النظام الجزائري هذه الفرصة الذهبية لإرساء معالم التقدم والتتنمية التي تحتاجها البلد، نراه سجين عقيدته العسكرية القديمة والمتجاوزة، وبعيدا كل البعد عن مصالح البلد القومية ومطالب الشعب الجزائري. فعوض التفاوض مع الدول الأوروبية على أساس نقل التكنولوجيا للجزائر، وعقد اتفاقيات من أجل تطوير نسيجه الإقتصادي، وجلب الاستثمارات الضرورية للتنمية الاقتصادية….تجده نظاما عسكريا يقايض الطلب المتزايد على الغاز بتغيير موقف الدول من وحدة المملكة المغربية ودعم موقفه المعادي للوحدة الترابية لجاره وشقيقه والبلد الذي يتقاسم معه وحدة المصير ويجتمع معه في اتحاد المغرب العربي؟؟؟؟ بطبيعة الحال ستستجيب الدول الأوروبية بسرعة لهذا المطلب الذي يجعلها تستفيد من الغاز الجزائري مقابل مطلب جزائري يصب في صالح الدول الأوروبية. فجزائر باقتصاد ضعيف وتخوض حرب استنزاف مع جارتها المملكة المغربية، هو البيئة المواتية للدول الغربية للعب على الحبلين والاستفادة من البلدين. فالرئيس الفرنسي ماكرون في حملته الانتخابية شكك في وجود وطن اسمه الجزائر. وبعد أن وظف الورقة الجزائرية لكسب أصوات اليمين المتطرف، وفاز بالانتخابات، ظهرت الحرب الأوكرانية وما سببته من نقصان في امدادات الغاز… فقام بزيارة الجزائر دون أن يقدم اعتذارا، بل تم استقباله بحفاوة وكأن ما قاله ماكرون عن وطنهم هو الحقيقة. ثم أرسل رئيسة وزرائه مرفوقة بنصف الحكومة، والنتيجة هي ضمان فرنسا الغاز الجزائري مقابل وعود بعدم تغيير الموقف الفرنسي كما فعلت اسبانيا. سيحتفي النظام الجزائري بهذه الزيارات، وسيحتفي الإعلام الجزائري بهذا الاهتمام الأوروبي بالجزائر، بطريقته المعهودة المبنية على البهرجة والتطبيل دون ذكر الحقائق كما هي لتنوير الرأي العام الداخلي. لكن ما ذا لو تم حَلُّ الخلاف الروسي الأوكراني وعادت الأمور إلى طبيعتها؟ الجواب سهل لأنه لن يختلف عن الفرصة الماضية، وستعود الجزائر لأزمتها الاقتصادية بعد أن تكون بذَّرت ثروة شعبها على خلاف مصطنع يعرف الجنيرال شنقريحة والرئيس تبون قبل غيرهما أن الصحراء لم تعد صحراء، وإنما هي مدن متطورة تُقارَن مع المدن الكبرى الجزائرية كالعاصمة ووهران، وهي كذلك أرض مغربية يقطنها شعب اسمه "المغاربة". وتكفي الإشارة إلى مشروع ميناء الداخلة الذي سيكون ميناء يفوق أكبر ميناء في التراب الجزائري. يتحقق ذلك لأن المملكة المغربية لا تحكمها عقيدة عسكرية كما هو شأن النظام الجزائري، وإنما تحكمها استراتيجية بعيدة المدى لتحقيق الطفرة التنموية والاقلاع الاقتصادي للمملكة المغربية. فالعزيمة والإسرار تعوضان ثروة البيترول والغاز. قد يُفلح النظام الجزائري في تعطيل الطموح التنموي للمملكة المغربية، والتسبب في بعض العراقيل، لكنه لن يستطيع إيقاف هذا الطموح. علما أن هدف تعطيل الطموح التنموي المغربي سيكلف النظام الجزائر غاليا وسيجعله عرضة لابتزاز الدول الغربية التي تلعب على الحبلين، وهو ما قد يتسبب له في حراك جديد. فالشعب الجزائري لا يمكنه أن يقبل بتبذير ثروته التي يُعول عليها في تحقيق العيش الكريم، على قضية بعيدة عنه وتمس الوحدة الترابية لبلد جار وشقيق. هي فرصة أخرى تضيع عن الشعب الجزائري لتثمين ثرواته وجعل الجزائر في مصاف الدول التي حققت طفرتها التنموية كالإمارات وسينغافورة وماليزيا وتركيا. ستنتهي الحرب الأوكرانية ويعود الشباب الجزائري لقوارب الموت والاختباء في محركات الطائرات، ويجب أن لا ننسى تصريح الشباب الجزائري حين استقبل ماكرون قائلا" مرحبا بك في الجزائر، استقر فيها أنت ودعنا نهاجر نحن إلى فرنسا". ما لم يتخلى النظام الجزائري عن عقيدته العسكرية المعادية للوحدة الترابية لجاره المغربي، فلا يمكننا الحديث عن شيء اسمه التنمية والتقدم في الجزائر. مع كامل الأسف……