الكثير من هذا الجيل الجديد مفتون بالخارقين وأجسادهم مفتولة العضلات. ولم يكن الجيل القديم مختلفا عن ذلك في الصغر من حيث الإعجاب بقدرات الشخصيات الخيالية. على أن المشهور منها في ذاك الوقت كان قليلا جدا مقارنة بما يُبتَعد الآن في الغرب والشرق كل يوم. لكن الفارق هنا أن الصورة النمطية للعضلات المفتولة ودلالاتها آنذاك، لم تكن على هذا القدر من التعظيم اليوم. وأن حسابات الأطفال لأهمية حجم العضلات ودورها في تضخيم الجسد، أصبح يتم في مرحلة مبكرة من العمر لدى مشاهدتهم الإعلام المرئي وصناعات الترفيه المتمثلة بشخصيات (مارفل) و(دي سي) وغيرها من أفلام الحركة والتشويق. وليست هناك دراسات عديدة ووافية على تأثير هذه التصاوير لقياسات أجساد يصعب الحصول والمحافظة عليها. لكن ما ينجم عنها كما تشير الدراسات المتاحة من اضطرابات نفسية في المستقبل على الذكور مشابه لنظرة الإناث لجسد دمية (باربي) ذات المقاييس المستحيلة وازدراء أجسادهن عند البلوغ. في دراسة أعدّتها جامعتي سيدني وأوكلاهوما بجهود مشتركة على أطفال وزّع عليهم ألعاب تجسد شخصيات خارقين خيالية قبل 25 سنة وأخرى حديثة، فضّل 86% منهم (ذكورا وأناثا) اللعب بالنسخ الحديثة. والسبب الرئيسي لذلك هو كما أجاب الأطفال اختلاف حجم عضلات الجسد وبروزها. الدراسة وجدت أن القيمة المعطاة لصورة الجسد المثالية عند الأطفال أكبر من القيمة المعطاة لقدرة الجسد نفسه على تحقيقه. الأمر الذي يؤدي عند نموهم في جسد هزيل أو مترهل لقلة احترام الذات والثقة بالنفس. ثم ما يلبث أن يلجأ المراهق لتكبير عضلاته وبنيته عبر مختلف الأساليب. لذلك، كانت النصيحة في الدراسة للأهالي هو سؤال أطفالهم عن فكرتهم عن صورة الأجساد الحقيقية والقدرات المرتبطة بها، وتشجيعهم على الرياضات التي تنمي مهاراتهم وقدراتهم إذا ما لمسوا إعلاء لشأن (Body Image) في تصورهم. أما مصنّع الألعاب فهو يصرح بتتبعه الإعلام المصور في التغييرات الطارئة على الشخصيات الخارقة، فلا حيلة له في تغيير ما يشاهده الأطفال ويرغبون باقتنائه. إن تصوير الإعلام لحجم العضلات باطراد مع ازدياد قدرات البشر مثل القوة الجبارة واللياقة الممتازة والأداء العالي والسرعة القصوى والتحمل القاسي بشقيه النفسي والفيزيائي لهو تصوير خاطئ مشوه. الحقيقة الصادمة لعامة الناس هي أن العضلات البارزة لا علاقة مباشرة لها بتنمية قدرات الإنسان ووظائفه الحركية. بل على العكس، النمو الزائد لبعض هذه العضلات قد يعوق تطويرها! كما أن حجم العضلات لا يتناسب بالضرورة مع قوة الجسد ككل! وليس هذا رأي شخصي، بل مفاد الأبحاث المتخصصة في هذا المجال. ومن يتابع مثلا بطولات أقوى رجل في العالم، ومصارعة الأذرع، وأكثر الرجال لياقة، ومسابقة تحديات رجال لإطفاء وغيرها مما يبرع فيها أشداء العزم، يدرك بكل سهولة أن المراهنة على أكثر المشاركين إبرازا لحجم عضلاتهم وتناسقها هو رهان خاسر على الأغلب. مثلا أسرع عداء مئة متر وصاحب الرقم القياسي (أوسين بولت) لا يملك نصف العضلات البارزة للشخصية الخارقة (فلاش). و(توم ستولتمان) أقوى رجل في 2022 بالكاد تبرز عضلات صدره وتغيب عضلات بطنه تماما مقارنة بشخصية خارقة القوى مثل (سوبرمان). لكن في نفس الوقت، هناك الكثير ممن ينافس صور أجساد أبطال (مارفل) و(دي سي) من أبطال رياضة بناء الأجسام بتناسق العضلات المفتولة في جسده الضخم لكن لا يستطيع أن يأتي بنصف الجهد المبذول في تلك الأرقام القياسية للسرعة والقوة والتحمل. لأن التركيز في رياضة مثل كمال الأجسام يعتمد فعليا على المنافسة أولا وآخرا في شكل الجسد دون قدراته. صحيح هي رياضة تحتاج لانضباط صارم وتحكم في الشهية وغيرها من الإمكانات التي تساعد المرء في المواظبة على العمل. لكنها ليست رياضة بالمعنى الذي يجعل جسدك أكثر ملائمة لمواجهة متطلبات الحياة. بل ربما تفرض متطلبات خاصة بالجسد، كتغيير الملابس والسرير ومن الممكن السيارة نفسها. كما قد تصعّب استخدام المرافق والخدمات العامة، مثل استعمال حمام عمومي أو مشاركة الجلوس في كرسي المترو. هناك فرق بين تمارين تقوية العضلات Strengthen وتمارين زيادة حجم خلاياها Hypertrophy. الأولى تزيد من قوة الجسد بشكل أساسي أما الثانية فهي تهدف أساسا إلى إبراز الشكل العضلي للجسد. إذا أمعنت النظر في معدات النادي الرياضي Gym والتمارين الشائعة، ستجد أن القسم الأكبر منها يعتمد على فكرة عزل العضلة المطلوبة. بمعنى أن تؤدي تمرين يعتمد على تكرار رفع أو دفع أو سحب وزن لكن في وضعية معيّنة لا تسمح لعضلات جسدك الأخرى بالمساعدة. تقوية العضلات تحتاج إلى ممارسة تحدي الأوزان العالية بتكرار بسيط، في حين إبراز العضلة يحتاج إلى تكرار عالي للتمرين بوزن معتدل نسبيا والمجموعات يتخللها فترات راحة قصيرة. ما سيحدث بعدها إحداث تمزقات بسيطة جدا داخل النسيج العضلي، الأمر الذي يستدعي الجسد لمعالجة هذه التمزقات بإرسال مغذيات بروتينية تنمّي المزيد من النسيج العضلي حول هذه التمزقات الطفيفة حتى تستطيع العضلة التمدد للقيام بهذا التمرين وما يشابهه في استهداف العضلة ذاتها. وهو ما يقصد بتحفيز نمو العضلة والاستشفاء. لذلك البرنامج الأسبوعي لمرتادي الجيم يوزّع مجموعة من التمارين في كل يوم تستهدف عضلات رئيسية مختلفة عما قبلها وما بعدها لإتاحة الفرصة للعضلة بالتعافي. كما يعتمدون بشكل أساسي على حمية البروتين ومكملاته الغذائية والابتعاد عن الكربوهيدرات مع حساب السعرات الحرارية بهدف تنشيف الجسد من الدهون قدر الإمكان. والنتيجة من هذا كله، هو عضلات بارزة توحي بأن صاحبها يمارس رياضات قاسية، لكن العضلات فعليا لم تدرّب على التوافق والتعاضد الحركي. فإذا ما وضع هذا الشخص تحت اختبار قدرة التحمل endurance في تمارين للّياقة الحركية مثل CrossFit، ستجد أنه يفتقد للياقة والطاقة والتوازن وسرعان ما ستخور طاقته وينسحب. لأن تمارين المقاومة المتكررة لا ترفع من معدل ضربات القلب بنفس الكيفية التي تحقق جهد عالي يدفع بقدرة العقل والجسد لمزيد من التحمل Stamina مثل الألعاب الأولمبية. كما أن الإكثار من تمارين الكارديو يمكن أن يقلل من البنية العضلية، فيمارسها لاعب كمال الأجسام ضمن ضوابط. قلة هم من يذهبون للنادي وهم يعلمون تحديدا ما هي أهدافهم في تنمية قدراتهم مثل تقوية العضلات والتي بدورها تقوي العظام وتحرق الدهون. وكثيرا ما تكون هذه الأهداف مرتبطة بمهنة تحتاج حركة وجهد بدني أو رياضة أخرى تتطلب تعزيز الجسد أو حتى تعويض خمول الجسد في وظيفة مكتبية. يمكن لهؤلاء الاستفادة من الأجهزة والمعدات الرياضية لتحقيق هذه الأهداف وغيرها. وعلى أية حال فهذه التمارين أفضل من الاسترخاء على كنبة بعد يوم طويل ومشاهدة مسلسلات وأفلام بشكل روتيني. لكن الكثير من المراهقين والشباب، يذهبون للنادي بهدف تشكيل الجسد على هيئة الأبطال. تجدهم مدفوعين بالرغبة في اكتساب ثقة أكبر بالنفس أو تميز بين الأقران أو قبول أوسع من الجنس الآخر. بل أن البعض ممن أصابهم الهوس، أصبح يطمح فقط للألقاب والجوائز والأموال من الاشتغال كعارض أزياء أو انفلونسر. وليس لديهم مشكلة في تجربة الممنوعات من حقن الهرمونات الضارة أو ما يشار له بCycled ولو أدى بهم ذلك للعجز الجنسي والعقم. أو حتى اختصار جميع الجهود واللجوء لأخذ إبر زيت في العضلات (سينثول) لنفخها دون الاكتراث بعواقبها الخطيرة. فهذا التوجه للانشغال بشكل الجسد لا يختلف عن الانشغال بالمظاهر عموما مثل ارتداء ملابس لماركات معروفة واقتناء مستلزمات وكماليات ثمينة، وغاية الفرد من هؤلاء أن يوحي للآخرين بما هو ليس عليه من ثراء حقيقي. فتراه ينشر صوره في سيارة فارهة وهو شبه عاري الصدر والبطن وكأنه يقول للناس انظروا لمالي الكثير وقوة جسدي، ولا نعلم كيف يأمن على نفسه من الكبر وحرمة دخول الجنة. نعم إن لبدنك عليك حقاً، والإسلام يأمر بالمحافظة على الجسد وإكرامه ومعالجته في المرض وسيسأل المرء يوم القيامة عن جسده فيما أفناه. لكن الاهتمام بالشكل الخارجي والانشغال بتحقيق مقاييس جمالية يضعها البشر وتتغير مع الوقت، فذلك من هدر الطاقات بلا طائل حقيقي في الآخرة للنفس البشرية ولا منفعة للآخرين في الدنيا. ناهيك عن الافتتان في الجسد أولا دون الخصال الحميدة والأفعال الحسنة. كما أن فرص خيبات الأمل تزداد عند تطور العضلات دون تماثل أو تناسق، فيعطي صاحبها تصريحا للتدخلات الكيميائية والجراحية لتعمل في جسده وتغيره على النحو الذي يصبو إليه وهو يظن أنه يحقق ما يستحسنه. وغاب عن عقله أن الصورة التي يستحسنها قد زرعت في عقله مسبقا لما استحسنه الآخرون وجمّلوا صورته لكي تختزل جميع القدرات المرغوبة في شكل الجسد فقط. فأين الحفاظ على صحة الجسد بعد كل هذا وبذل قوته في الخير والمعروف بين الناس وتعمير الأرض؟ * موقع السبيل.