انتخابات الرئاسة الفرنسية الوشيكة ستكون محكومة بسمة عدم اليقين، فرغم أن استطلاعات الرأي المتواترة، منذ شهر يناير الماضي من هذه السنة، تعطي ماكرون الصدارة بأكثر من 25% (آخر استطلاع حاز 26.5%) فإن قراءة هذه الاستطلاعات تفيد بأن التقدم الذي سبق أن حققه بخمس نقاط لم يستمر في الاطراد، وبقي في حدود ربع الأصوات، بينما تتقدم مرشحة اليمين المتطرف (التجمع الوطني) مارين لوبان، وتقترب من المنافسة بحوالي 21.5%، وتتعاظم فرص مرشح اليسار المتطرف جون لوك ميلونشون للمرور للجولة الثانية (17.50%). فرص متقاربة سمة عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ تزكيها ثلاثة مؤشرات أساسية، أولها أن الفئة الأكبر من الناخبين الفرنسيين، حسب ما تفيد به هذه الاستطلاعات، لا تزال في دائرة التردد، وليس ثمة ما يؤكد عزمها على المشاركة في التصويت، أم أنها ستمتنع عنه، وتصل نسبة هؤلاء إلى 30%. بعض السياسيين مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتبهوا بشكل جدي لهذا الرقم الكبير، وبدأوا يراهنون على تكثيف التعبئة، وفي الوقت ذاته عدم الاغترار بنتائج الاستطلاعات المتواترة التي تعطيه الصدارة، وأن ذلك يمكن أن يسبب نوعاً من الاسترخاء الذي يستغله الخصوم، وأن العمل ينبغي أن يتوجه إلى استهداف هذه الشريحة الواسعة. لكن في المقابل، ثمة عمل منافس من قبل مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، التي تحاول اليوم تغيير تكتيكها الانتخابي بعدم الرهان فقط على المدن الكبيرة، بل والتوجه أيضاً إلى المدن الصغيرة، ومخاطبة كل الفئات، وتلطيف الخطاب حتى تخترق بعض الفئات التي لا تحمل وداً كبيراً لليمين المتطرف. في حين يشحذ مرشح اليسار المتطرف قوى اليسار، ويحاول استعادة خطابه التقليدي، الذي يغازل الفئات الشعبية ويدعو إلى ضمان حقوقها في مقابل تغول الرأسمال واختطاف الأغنياء لدولة فرنسا. المؤشر الثاني، وهو ما يرتبط بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، والكيفية التي يحاول كل مرشح أن يوظفها. في البدء، استفاد إيمانويل ماكرون من هذه الحرب في استدرار العطف الشعبي على الحكومة، والتفافهم حول قراراتها وسياساتها الخارجية تجاه هذه البؤرة من الصراع، ودعم جهود الرئيس في القيام بدور محوري لحماية الأمن الفرنسي والأمن الأوروبي، من خلال تنسيق المواقف الفرنسية الألمانية، لكن بعد ذلك أخذت تأثيرات هذه الحرب تأخذ منحى مختلفاً، بسبب تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما ما يرتبط بغلاء الأسعار وارتفاع أسعار الطاقة وانخفاض القدرة الشرائية، وحجم المعاناة الشعبية من وراء ذلك، ما يصبّ في خانة اليسار المتطرف الذي يعرف كيف يعمل على هذه القضايا. الواقع أن الحرب الروسية على أوكرانيا أقامت فرزاً كبيراً بين الأحزاب الثلاثة، فاليمين المتطرف واليسار المتطرف يقترب موقفهما من دعم الرؤية الروسية، وينحازان لجهة النأي بفرنسا عن الانخراط في الأجندة الأمريكية بهذا الخصوص، في حين اختار ماكرون اللعب على الحبلين: حبل الضغط على روسيا إلى جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي، وأيضاً من خلال الناتو، ثم حبل التنسيق الفرنسي الألماني، ومحاولة لعب دور دبلوماسي لإنهاء الحرب من خلال وساطة فرنسية. المؤشر الثالث، وهو المرتبط بتدخل القضاء فيما بات يُعرف بقضية ماكنزي، والتحقيق الذي يجريه حول مزاعم الاستعانة بخدمات شركات استشارية، ورهن السياسات العامة بمخرجاتها (حسب لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ، فإن العقود التي أبرمتها الدولة مع شركات استشارية مثل ماكنزي تضاعفت بين 2018 و2021 لتصل مبلغاً قياسياً بأكثر من مليار يورو في 2021)، فضلاً عن قضية التهرب الضريبي، الذي تتهم به هذه الشركات، إذ ما فتئت المعارضة السياسية تطالب الرئيس ماكرون بفتح تحقيق في محاباة الحكومة لهذه الشركات والتغطية على تهربها الضريبي، خاصة أن التقارير تتحدث عن أنها لم تدفع الضرائب منذ سنة 2011 إلى سنة 2020. عوامل حسم الانتخابات واضح من هذه المؤشرات أن هناك عوامل ثلاثة، سيكون لها حسم كبير في نتائج الانتخابات المزمع إجراء دورتها (العاشر من أبريل). الأول، وهو المزاج الذي ستأخذه الفئة المترددة، والتي تصل نسبتها حسب استطلاعات الرأي إلى حوالي ثلث الناخبين (30%)، والثاني، وهو الشكل السياسي الذي سيتم به توظيف تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وما إذا كان استمرار الحرب والتصعيد في وتيرتها، فضلاً عن تعمق المشكلة الاجتماعية بسببها، الذي سيقلب النسق التراتبي الذي أسفرت عنه الاستطلاعات السابقة، بحصول تراجع حظوظ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتقدم اليسار المتطرف، أو تقدم ممثلة اليمين المتطرف مارين لوبان. أما العامل الثالث، فيرتبط بالتداعيات التي يمكن أن تأخذها قضية الشركات الاستشارية، وما إذا كانت ستتحول إلى قضية رأي عام مؤثرة بشكل حاسم في مزاج الناخبين. البعض يضيف مؤشراً رابعاً، يرتبط بالخطاب السياسي، أي مضمون العرض السياسي الذي يقدمه كل مرشح على حدة. والواقع أن هذا المعطى، في أقصى تقدير لا يفسر سوى الكتل التقليدية التي يحظى بها كل حزب، أخذاً بعين الاعتبار التحيينات التي يجريها على خطابه وتكتيكاته الانتخابية، ومساعيه لتوسيع دائرة قواعده بإحداث اختراقات مهمة على حساب قواعد منافسيه. خطابات المرشحين من هذه الزاوية يركز خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون على مفهوم ين متلازمين، الأول وهو الاستقلال، والثاني هو الاكتفاء، إذ يرفع في برنامجه الانتخابي شعار استقلال فرنسا الأمني، وتقوية منظومة دفاعها في وجه التهديدات، وتقوية قطاعها الزراعي والصناعي، لكي تستقل بنفسها، وتشكل قوة كبيرة داخل أوروبا. في حين لم يتجدد كثيراً خطاب مارين لوبان، فلا تزال تعزف على مفردات الأمن والهجرة والهوية الفرنسية، وتخوض معركة مزدوجة: الأولى مع خصومها من الأحزاب الأخرى، ثم خصومها من نفس تيارها اليميني المتطرف، خصوصاً إيريك زمور، الذي أكثَرَ من مناوشتها في عدد من خطاباته في الحملة الانتخابية الجارية. خطاب اليسار المتطرف يبدو أن الظروف توافرت له ليكسب مزيداً من المناصرين، لا سيما وهو يركز على قضية الدخل، والقدرة الشرائية، وخفض سن التقاعد، واستنقاذ فرنسا من اختطاف الأغنياء لدولتها. مؤكد أن الخطاب سيكون له دوره الحاسم في العملية الانتخابية، لكن في الجولة الأولى سيكون دوره مقتصراً على الاستقطاب داخل فئة المترددين، في حين سيكون تأثيره الأكبر في الدور الثاني، وبشكل خاص عندما تأتي لحظة التحالفات لإسقاط هذا الحزب أو ذاك. تجربة انتخابات 2017 بيّنت أن التقدم الذي حصلت عليه مارين لوبان في الجولة الأولى، لم يشفع لها في تحقيق نتائج مهمة في الجولة الثانية، بسبب حصول تواطؤ بين خصوم التيار اليميني المتطرف، لمنعها من الوصول لقصر الإليزيه، لكن في الانتخابات الحالية فإن السيناريوهات تبدو نسبياً أكثر انفتاحاً من سابقتها، إذ في حالة مرور مرشح اليسار المتطرف للجولة الثانية فإن الخطاب الانتخابي سيكون حاسماً، إذ سيكون الصراع ثلاثياً، بين يسار متطرف (فرنسا الأبية)، يطرح المسألة الاجتماعية في وجه يمين متطرف (التجمع الوطني)، مغترب في خطاب عنصري يتمرتس حول الهوية، وينتهي إلى تقسيم المجتمع الفرنسي، وبين حزب لا أيديولوجي (الجمهورية إلى الأمام)، يطرح فكرة الاستقلال والاكتفاء والبناء حتى تستطيع فرنسا مواجهة الأزمات والحروب التي عادت إلى أوروبا، و"فرنسا الأبية" الحزب الأيديولوجي (يسار متطرف)، الذي لا يمانع هذه الشعارات، لكنه يطرح سؤال الثروة والدخل والقدرة الشرائية والطبقات الفقيرة، وهل يكون بناء فرنسا باختطاف الأغنياء للدولة أم بالعودة على فرنسا الثورية، فرنسا التي تنحاز إلى الشعب. ومن جهة ثالثة، سيكون الصراع بين حزب يراهن على الاستثمار والأمن والاستقلال (الجمهورية إلى الأمام) دون مس بمكونات المجتمع الفرنسي، وحزب يرى أن قوة فرنسا في عودتها لهويتها، وتخليصها من المهاجرين، بل وتخلصيها أيضاً من كلفة البقاء في المعطف الأوروبي التقدير أن التطورات التي تجدّ في الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية ستكون الأكثر حسماً، لأن الشكل الذي سيتم التعاطي به مع هذه القضية وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية هو الذي سيحدد شكل التأثير في فئة المترددين، وسيعطي للخطاب السياسي تأثيره، ويمكن أن يضفي على تدخل القضاء للتحقيق في الشركات الاستشارية زخماً سياسياً مؤثراً على المزاج الانتخابي.