بدل السؤال التقليدي، الذي لا يخلو من نزوع عاطفي، (هل الإنجيل كلمة الله)، يقترح الأستاذ الباحث، الدكتور علال بلحسني، مدخلا آخر، لمناقشة موضوع الأناجيل، التي يعتد بها المسيحيون، وذلك بالتركيز على ما سماه، (سؤال الموثوقية )، من خلال كتابه الذي يحمل عنوان: ( سؤال الموثوقية في الأناجيل الأربعة ) (1)، والذي يمكن إدراجه ضمن مايسمى بالبحث في علوم الأديان، وهو علم إسلامي أصيل، اهتم به العديد من كبار العلماء والمفكرين القدامى، كالجاحظ في كتابه (الرد على النصارى)، وابن حزم الأندلسي في كتابه (الفصل في الأهواء والملل والنحل)، والسموأل بن يحيى المغربي في كتابه (غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح). ولعل ما يميز هذا البحث الذي نحن بصدده، هو هذا التركيز المنهجي، على مقاربة ما سماه الباحث، بسؤال الموثوقية في الأناجيل الأربعة، التي تعتمدها الكنائس اليوم، بالاستناد إلى منهجين علميين، يعلن عنهما الباحث، في مقدمة هذا الكتاب؛ المنهج الإستقرائي، والمنهج المقارن (ص: 5)، وهو الاختيار العلمي الذي يرافق الكاتب طيلة هذا البحث، الذي يستهله بتقديم تعريفات مركزة للأناجيل الأربعة (إنجيل متى، إنجيل مرقس، إنجيل لوقا، إنجيل يوحنا) (ص:8)، مع الإشارة إلى بعض الملابسات، التي كانت وراء الاكتفاء بهذه النسخ من الأناجيل، مقابل التخلص من غيرها (ص:9)، ثم ينتقل بعدها لعرض هذه الأناجيل على سؤال الموثوقية، كما حددها الكاتب، من خلال التركيز على جملة قضايا وتفصيلات، تهم أصل هذه الأناجيل، كاتبوها، ظروف كتابتها، لغة كتابتها، مؤكدا على وجود مجموعة من الثغرات والنقائص، التي تطعن في قيمتها العلمية، وتشكك في درجة موثوقيتها (من ص: 12 إلى ص: 36). ويعرض الباحث، بالكثير من التفصيل، الذي بدا ضروريا، العديد من أوجه التناقض والاختلاف، بين هذه الأناجيل الأربعة، في الكثير من القضايا والمواضيع، التي تحتل مكانة مركزية في عقائد المسيحيين، وهي على التوالي: – شجرة نسب المسيح: حيث يشير الكاتب إلى العديد من تناقضات الإنجيلين (متى) و(لوقا)، مع ماجاء في سفر أخبار الأيام الأول، من العهد القديم، بخصوص بعض ملوك بني إسرائيل الذين جعلهم (متى) أجداد المسيح (ص: 37_38)، وفضلا عن تناقضه مع (لوقا)، يشير الكاتب إلى تناقض (متى) مع نفسه أيضا، في مسألة نسب المسيح (ص: 39 إلى 41)، ويعرض جداول توضيحية تكشف بجلاء، أوجه التناقض بين الإنجيلين، (متى) و(لوقا)، في هذه المسألة (ص: من 52 إلى 56)، ليؤكد بعدها أن أسلم طريقة لمعالجة مسألة نسب المسيح هي، رده إلى أمه البتول، كما يشهد بذلك إنجيل (متى) نفسه (ص:58_59). – أسماء التلاميذ: وبصدد هذه المسألة يسجل الباحث، العديد من أوجه الإختلاف والتناقض، بين الأناجيل (ص:63_64)، بين (متى) و(مرقس) من جهة، وبينها وبين (لوقا) من جهة أخرى (ص:65)، وكمثال دال، يشير البحث إلى بعض أوجه الإختلاف، حول عدد هؤلاء التلاميذ، بين القول بإحدى عشر، أوإثني عشر، أوأربعة عشر (ص: 67_68)، ما يعني أن هذه الأناجيل، يقول الكاتب: ( تعيش أزمة حقيقية من حيث موثوقيتها، الأمر الذي يجعلنا مقتنعين غاية الإقتناع، بفقدان هذه الأناجيل لأبسط شروط الصحة والموثوقية) (ص:68)، ويتقدم الباحث بعدها، لبسط مجموعة من المسائل والقضايا الأخرى، التي تهم عقائد المسيحيين، والتي يحتدم حولها الخلاف بينهم، وأكتفي بذكر بعضها: – مسألة تعميد المسيح (ص: 76_77)، – إبليس يجرب المسيح (ص:78)، – يسوع يدعو تلاميذه (ص: 79 إلى 82)، – معجزات يسوع، ويعرضها الباحث بشكل مستفيض، (من ص: 83 إلى ص: 93)، حيث يستعرض مختلف الروايات، المتعلقة بالمعجزة، ثم يشير إلى أوجه التناقض والاختلاف بين الأناجيل، في تناولها للحادثة الواحدة. وبعد رصد العديد من أوجه التناقض والاختلاف بين الأناجيل، في رواياتهم للقضية الواحدة، ينتقل الباحث إلى مستوى آخر، يتعلق برصد مجموعة من التناقضات، داخل الإنجيل الواحد، وفي المسألة الواحدة، ويقدم كدليل مجموعة من الأمثلة الدالة، أسرد عناوينها كما جاءت في الكتاب: – شهادة يسوع لنفسه، بين إثباتها حينا، ونفيها حينا آخر، في نفس الإنجيل (ص: 110)، – هل يسوع جاء ليلقي سلاما، أم تفرقة وحربا، القولان معا واردان في إنجيل (متى) (ص: 111_112)، – بطرس شيطان أم رسول، كلا الوجهان واردان في إنجيل (متى)، ( ص: 113_114_115)، – هل المطلوب بغض الوالدين أم محبتهما، كلا المضمونان يردان في إنجيل (لوقا) (ص: 115_116)، – ماذا يصنع التلاميذ مع أعدائهم (ص: 116_117)، – مصير يسوع، حيث يلاحظ تناقض (متى) مع نفسه (ص: 117_118)، – هل يقدر العالم أن يبغض تلاميذ المسيح، حيث يسجل تناقض (لوقا) مع نفسه، في نفس الإنجيل (ص: 118_ 119)، – عودة المسيح، حيث يلاحظ التناقض في مسألة زمن عودة المسيح، داخل النسخة الواحدة من الإنجيل (ص: 119_120)؛ ويتوقف الكاتب طويلا، عند مسألة (صلب المسيح )، لما لها من قيمة عقدية بالنسبة إلى المسيحيين، حيث يكشف العديد من أوجه الإختلاف والتناقض بين الأناجيل الأربعة، في رواية أحداث الصلب، وما رافقها من ملابسات، كعشاء عيد الصفح، والقبض على يسوع، ومحاكمته أمام المجلس اليهودي، وغيرها من التفاصيل، التي نقرؤها ضافية، في ثنايا هذا البحث (ص: 120 إلى ص: 146)، ويورد الكاتب نصوصا من الأناجيل الأربعة، تحكي مجمل تفاصيل ما يسمى (صلب المسيح )، مع التوقف عند الكثير من التناقضات والإختلافات التي رافقت روايات هذه القضية، رغم أهميتها الكبيرة، وقيمتها العقدية، بالنسبة إلى المسيحيين (من ص: 146 إلى ص: 193)، ويختار الباحث في النهاية، أن يختتم مقاربته، لمسألة الموثوقية في الأناجيل الأربعة، بكلمة للمفكر (موريس بوكاي)، يؤكد من خلالها ملازمة التناقضات واستمرارها، في كل نسخ الأناجيل الأربعة (ص:193_194). بعض ملامح البناء المنهجي للكتاب: اعتمد الباحث، في مقاربة مسألة الموثوقية في الأناجيل الأربعة، على مجموعة من الإختيارات المنهجية، نشير منها إلى مايلي: _ اختيارات تتعلق بالمضمون: وتتلخص غايتها العلمية، حسب تقديري المتواضع، في مساءلة دعوى المسيحيين القائلة بألوهية المسيح، وفي التدليل على الأخلاط والتناقضات التي تتضمنها مصادرهم الدينية، ممثلة في الأناجيل الأربعة، التي ناقشها الكتاب؛ وفي هذا الصدد، يشير الباحث إلى ظروف وملابسات، إبعاد الأناجيل التي تقول بالتوحيد، في مقابل الإبقاء على تلك التي تقول بألوهية المسيح (ص:8_9_10)، ويضرب مثالا ب(يوحنا) الذي طلب منه كتابة إنجيل، يتضمن القول بألوهية المسيح (ص: 35)، ما يعني الطعن في المصدر الإلهي للأناجيل، وتهافت دعوى كتابتها بإلهام من روح القدس، كما يقول المسيحيون. اختيارات تتعلق بالبناء الشكلي للكتاب، نعرضها كمايلي: أولا _ الحجاج العقلي: يميل الكاتب إلى ما يمكن تسميته، بالحجاج العقلي، القائم على التدليل المنطقي، في مناقشته للكثير من القضايا التي يأتي على ذكرها، وذلك انسجاما مع طبيعة الموضوع، الذي يقوم على مساءلة واختبار، صدقية مصادر الأناجيل، مثال ذلك قوله: (كما أنه من غير المستساغ عقلا أن تكون هذه الأناجيل قد كتبت بإلهام من روح القدس … ) (ص:11)، ما يقتضي بالضرورة اعتماد البناء المنطقي، في إيراد الأدلة وترتيب الأحكام، المراد بلوغها، يقول: (…وبينما يذكر(متى) و(مرقس) اسم تداوس…نجد(لوقا) يذكر يهوذا الأسخريوطي….) (ص: 66). ثانيا _ اعتماد منهجية المقابلة بين النصوص: يعتمد الباحث أسلوب المقابلة بين نصوص الأناجيل، بما ييسر الكشف عن أوجه الإختلاف والتناقض فيما بينها، مثال ذلك: ( بعد مقابلة هذين النصين، نجد أن (متى) يقول… بينما في (لوقا)…) (ص:100)، واستعمال عبارات تفيد المقارنة، مثال ذلك: يقول (بعد مقابلة هذه النصوص بعضها ببعض نجد أن…) (ص: 138)، وفي موضع آخريقول: (من خلال هذه النصوص نجد أن (متى) و(مرقس)… إلا أن (يوحنا)… أما (لوقا) فقد جعل هذه المحاكمة…) (ص:145). ثالثا _ التنويع في إيراد الروايات: يختار الباحث الإعتماد على نصوص الأناجيل الأربعة، بشكل مباشر، وإيراد كل النصوص التي يبدو أنها تسعفه، في خدمة انشغاله العلمي، والمتعلق بسؤال الموثوقية، من هنا نفهم الدلالة العلمية لهذا الكم المعتبر من النصوص الإنجيلية، التي يحفل بها الكتاب، والتي تتفاوت من حيث عدد مرات ورودها، تبعا لنوع الحدث والقضية، وكذا لنسخة الإنجيل نفسه، ويقدم الباحث تفسيرا لهذا الإختيار، (ص: 187_188)، وكما تأتي الروايات مختصرة حينا، تأتي أيضا، مفصلة حينا آخر، مثال ذلك، مافعله أثناء مناقشة مسألة (إنكار بطرس للمسيح ) (من ص: 146 إلى ص:153)، وقد ينفرد إنجيل معين، بأمور خاصة به، إنجيل (يوحنا) نموذجا (ص:188 إلى 191). أربعة _ الإستشهاد بنصوص داعمة: يختار الكاتب أحيانا، الإستشهاد بنصوص لباحثين ومفكرين، بما يعضد مقاربته لقضية معينة، الإمام أبوزهرة، وكتابه (محاضرات في النصرانية )(ص: 16_17)، عبد الرحمان باجه جي زاده وكتابه (الفارق بين المخلوق والخالق)(ص: 17_18)، الدكتور(موريس بوكاي) وكتابه (التوراة والإنجيل والقرآن الكريم ) (31_32)، رحمة الله الهندي، وكتابه ( إظهارالحق) (ص: 82)، أحمد عبد الوهاب وكتابه ( المسيح في مصادر العقائد المسيحية ) (ص: 109)، محمد عبد الرحمان عوض، وكتابه (الإختلاف والإتفاق بين إنجيل برنابا والأناجيل الأربعة ) (ص: 114_115)، أبي محمد عبد الله الترجمان الميروقي، وكتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ) (ص: 132_133)، ابن حزم وكتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 2 ص 50) (ص: 160). خامسا _ عرض جداول للإيضاح: يختار الباحث أحيانا، عرض جداول توضيحية، تلخص بتركيز، مجمل ما يتم عرضه ومناقشته من قضايا (ص: 42_43 )، و(ص: 52 إلى ص: 56، بصدد مسألة نسب المسيح)، (ص: 65، بصدد مسألة تلاميذ المسيح )، (ص:125_126، بصدد مسألة حادثة صلب المسيح )، (ص: 140_141، بصدد مسألة العشاء الأخير للمسيح)، (ص: 151_152_153، بصدد مسألة إنكار بطرس للمسيح )، (ص: 168_169، بصدد أحداث الصلب )، (ص: 179_180، بصدد قيامة المسيح من القبر)، (ص: 191_192، بصدد حدث ظهور المسيح)، ولنفس الغرض التوضيحي يعرض الكاتب خريطتين توضيحيتين، ترصدان الأماكن التي أخذ إليها المسيح، مكان محاكمته، مكان صلبه، (ص: 161_162). سادسا _الإنتهاء بخلاصات: بعد عرض نصوص الأناجيل، المعنية بالمسألة المراد مناقشتها، اعتمادا على أسلوب الإستقراء والمقارنة، ينتهي الكاتب إلى خلاصات يضمنها إجاباته العلمية، في شأن القضية التي يكون بصددها، مستعملا عبارات تفيد الإجمال والإشمال، مثال ذلك قوله: (والحقيقة أن المسيح… ) (ص: 57)، (وخلاصة القول…) (ص: 62)، ( من خلال هذا يتبين أن…) (ص:83)؛ ويختار الباحث أحيانا، الميل إلى تأكيد خلاصاته، بلغة جازمة، هي أقرب إلى أحكام قيمة، مثال ذلك قوله: (وبما أننا لا نعرف أي الإنجيلين أصاب، وأيهما أخطأ…. )(ص:63)، وقوله: (….الأمر الذي يجعلنا مقتنعين غاية الإقتناع، بفقدان هذه الأناجيل لأبسط شروط الصحة والموثوقية…) (ص:68)، وقوله: (إن الإختلاف بين هذه النصوص واضح غاية الوضوح…) (ص: 101)، وعموما، هذه هي أبرز الخلاصات العلمية، التي انشغل بها هذا البحث، وصاغها في خاتمته، لهذا الكتاب (ص:195_196_197). بعد الإنتهاء من قراءة هذا البحث الماتع والمفيد، بدا لي أن الكاتب، كان مهتما برصد سؤال (الموثوقية)، في الأناجيل الأربعة، كما قدمها، أكثر من اهتمامه بالبحث عن تسجيل حكم قيمة فكري عقدي معين، على هذه الأناجيل، وأزعم أن هذا الإختيار المنهجي، شكل نقطة قوة هذا البحث، ما قادني إلى إحداث تنويع على العنوان الذي اختاره الكاتب، وكتابة هذه القراءة، تحت اسم: (الأناجيل الأربعة وسؤال الموثوقية ). 1_ (سؤال الموثوقية في الأناجيل الأربعة _ د.علال بلحسني _تصفيف وطباعة: سليكي أخوين -طنجة- الطبعة( 1) يوليوز 2018 ).