جاء في كتاب "السيّر للذهبي": «عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج، الأنصاري السلمي الغنْمي». يعد من أبرز زعماء المدينةالمنورة، وسيدا من سادات قبيلة بني سلمة، كان لابنه "معاذ بن عمرو" وصديقه "معاذ بن جبل" فضل كبير في دخوله للإسلام، وتعالوا لننصت لابن إسحاق في "المغازي" وهو سيرد لنا قصة إسلام عمرو، يقول: «كان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة، وشريفا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يعظمه، فلما أسلم فتيان بني سلمة، منهم ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل، كانوا يدخلون على صنم عمرو، فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، فيغدو عمرو، فيجده منكبا لوجهه في العَذِرة (مكان طرح الفضلات)، فيأخذه عمرو ويغسله ويطيبه، ويقول : « لو أعلم من صنع هذا بك لأخزينه، ففعلوا ذلك مررا ، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، وقال: إن كان فيك خير فامتنع، فلما أمسى أخذوا كلبا ميتا، فربطوه في عنقه، وأخذوا السيف فأصبح، فوجده كذلك فأبصر رشده وأسلم، وقال في ذلك أبياتا منها: تالله لو كنت إلها لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن» هكذا فتح الله قلب عمرو للإسلام فهداه إلى نور الحق فتذوق حلاوة الإيمان ونعمة التوحيد، يقول عز وجل: " قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " [سورة الرعد، آية: 16]. إن عظمة هذا الصحابي الشهيد تكمن في كونه إنقاذ لصوت الحق كما تبدى له، ولذلك قال ابن إسحاق:" فأبصر رشده فأسلم"، فهو لم يعاند ولم يستسلم لغي النفس وشيطانها، بل سلك طريق الهدي في أول منعطف، يقول عمرو: أتوب إلى الله سبحانه وأستغفر الله من ناره وأثني عليه بآلائه بإعلان قلبي وإسراره إنه القلب، تلك المضغة التي يصلح بها الجسد، فتكون دليل صاحبها نحو التوبة والطاعة والانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى. عُرف عمرو بن الجموح بالسخاء والجود، فزكى فيه الإسلام هذه الخصلة الكريمة، كيف لا وقد ضرب الرسول (ص) للمؤمنين أروع الأمثلة في الكرم فكان عليه السلام كالريح المرسلة، ولا عجب أن يُسخٍّر عمرو كل ماله لخدمة الإسلام والمسلمين، ويكفيه فخرا أن رسول الله (ص) قدم في حقه شهادة تمتدح خلّته المحمودة هاته، إذ رُويّ أن الرسول الكريم (ص) مرّ بجماعة من بني سلمة فسألهم: "من سيدكم يا بني سلمة" قالوا: "الجدُّ قيس، على أننا نبخله"، فقال بيده هكذا، ومدّ يده:" وأي داء أدوأ من البخل، بل سيّدكم عمرو بن الجموح" وفي رواية: "بل سيدكم الجعد الأبيض، عمرو بن الجموح" (رواه البخاري في الأدب المفرد وغيره). وفي ذلك يقول أحد الشعراء الأنصار: فسوّد عمرو بن الجموح جُوده وحقَ لعمرو بالندى أن يُسوَّدا إذا جاءه السؤال أذهب ماله وقال: خذوه، إنه عائد غذا لكن جود بن الجموح لم يقف عند حد بذل المال، بل تعداه إلى التضحية بالنفس في سبيل إعلاء كلمة الله، يقول رب العزة:" لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" [سورة النساء، آية: 95]. ومن المعلوم أن جهاد المال اقترن بجهاد النفس في القرآن في عشر مواضع. لاشك أن ثورة الإسلام ما كان لها أن تنجح لولا هذه العصبة من المؤمنين الذين نذروا أنفسهم وأموالهم لنصره دين الحق، فهذا عمرو بن الجموح لم تمنعه إعاقته عن الجهاد في سبيل الله فالمعروف أنه كان أعرجا، وبالرغم من أن أبناءه حالوا بينه وبين الخروج إلى موقعة "بدر"، إلا أنه لما سمع رسول الله (ص) يحث المؤمنين على قتال قريش في معركة "أحد"، ما كان منه إلا أن قصد رسول الله وتوسل إليه أن يأذن له بالخروج معه إلى الجهاد وكله أمل في نيل شرف الشهادة، يقول: "ووالله إني لأرجو أن أخطر بعرجتي هذه في الجنة". هكذا سار عمرو بمعية أبنائه الأربعة فولج أرض المعركة غير هيّاب، فلقن مشركي قريش دروسا في الاستبسال والشجاعة فقاتل حتى 'قتل رضوان الله عليه، هو وابن أخيه ومولى له، فلما رآه رسول الله (ص) مسجى في هجعته قال: "كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة". رحم الله عمرو بن الجموح وأسكنه فسيح جناته، فقد كان نموذجا للتضحية والفداء واسترخاص النفس في سبيل توطيد دعائم دين الإسلام.