هوية بريس – الأحد 23 غشت 2015 إذا اتفقنا على أن الانتخابات التي تقام في معظم الدول العربية -ومن بينها المغرب- هي انتخابات غير قائمة على أسس شرعية؛ لأنها جعلت الديمقراطية -ولو في شقها الإجرائي العملي- مرجعا لها، وبذلك خالفت في حقيقتها ما دلت عليه أسس الشورى في الإسلام؛ وإذا سلمنا بوقوع انحرافات شديدة لدى بعض الحركات الإسلامية وروادها في مقاربة الواقع المفروض -أعني به الديمقراطية- من فقه الضرورة إلى فقه التوسع، حتى قال أحدهم: "لم يعد شك في أن الديموقراطية هي السبيل الوحيد في عودة الخلافة الراشدة"؛ وبانخراط بعض من انخرط في اغتنام ما قد تجود به زبالة الديمقراطية حتى نسي أنه جوزها مشاركا بالترشيح أو التصويت استثناء لا غير (مكره أخاك لا بطل)، أي إنه اعتبر المشاركة في دواليبها على خلاف الأصل، إلا أنه سرعان ما انقلب عنده خلاف الأصل هذا وأصبح أصلا مطردا، فكان أشبه بمن استطاب الميتة وهي لم تشرع إلا لسد الرمق والحفاظ على النفوس. وإذا اعترفنا بوجود تنازلات كبيرة من لدن من اقتحم أمواج السياسة من الإسلاميين، وخيب بهذه التنازلات آمال من تصور سهولة الموقف، ورأى أن القفز من الأعالي قد يستطيعه حتى من لا يزال يحبو .. قلت: رغم هذا وذاك، فهذا لا يمنع من تقليب النظر في حكم التصويت على الأصلح من وجوه متنوعة حتى نميز مكمن الخطأ من فعل الصواب، ودرجة المفاسد من المصالح المتوخاة، فهب أننا ذهبنا إلى عدم التصويت، فماذا سنجني من هذا الموقف؟ قد يقول قائل: سنبين للناس أن الديمقراطية، باعتبارها فلسفة، هي كفر، وباعتبارها آلية، فهي جور، ولن يمنعنا من قول ذلك خشية فوات منصب أو كرسي أو مداراة أو مداهنة، بل سنصدع ساعتها بالحق.. قلت: إن القول بجواز المشاركة في السياسة في ظل الديمقراطية أو التصويت على الأصلح لا يمنع من الصدع بالحق، ولا يخرس الأفواه، وإنما منشأ الخطأ هو أننا نريد جميعا القيام بالدور نفسه دون مراعاة فقه اختلاف الأدوار، وهذا خطأ وقصور في فهم الواقع ومعرفة الواجب فيه، بل يجب أن يكون منا من سيصدع بالحق، ويجوز لبعضنا أن يسكت عنه، ويحظر أن يكون منا وفينا من يقول المنكر، قولا واحدا. ومرحلة الضعف التي نعيشها تقتضي منا هذا النظر، بل لن أجازف إذا قلت ما من عالم مصلح أو داعية رباني يحمل هم أمته إلا وقد تمر عليه هذه المواقف الثلاثة، وليعتبر أحدنا في واقعنا اليوم بمنبر الخطيب، وكيف يتدرج بين هذه المنازل الثلاث، وماذا سيكون مصير المنبر لو ألزمناه دورا واحدا، وماذا سيجني الناس من عاقبة التزامه. وكما أن الضرورات تقدر بقدرها، فإن المفاسد توزن بمآلاتها. ولكن الرزية -وقد وقع فيها بعض الإسلاميين- هي قول الباطل، والتهوين من أمره، وتزيينه للناس باسم المصلحة. والخطأ ليس في أصل فكرة المدافعة لأهل الفساد والإفساد في المجال السياسي، وإنما الخطأ -إن وجد- هو خطأ فردي يتحمله من وقع منه ذلك، ثم لن يكون عن واجب النصح والبيان مناص حينئذ. وقد يقول قائل: سوف لن نتلطخ بأدران الديمقراطية ولن نصاب ببعض لوثة العلمنة، وتبقى معالم التوحيد صافية نقية، واضحة للعموم الناس.. والحق أقول: إن صاحب هذا الكلام يعيش في برج ناء عن واقع الحياة، ولا يدري أنه سواء قال بالمشاركة السياسية من حيث الترشيح أو التصويت أو لم يقل بها، فإن العلمانيين لن يتركوه، بل سيسعون في التسلل إلى أدق تفاصيل حياته دون استئذان منه أو من أحد: سواء فيما يتعلق ببيته وأسرته، وفيما يرتبط بتعليمه ومدرسته، وفيما يحدد سبب رزقه وسياسة الاقتصاد، وفيما يقنن أخلاق مجتمعه وجماعته…، والفرق بين من اختار المشاركة السياسية من عدمها هو أن الأول بصير بواقعه، واقعي في تفكيره، يدفع ما استطاع من المفاسد بارتكاب أخفهما، والثاني ألجم نفسه بفقه النعامة حسب التفسير الشعبي المشهور وإن كان فيه ما فيه (وأستسمح من توابع التشبيه فأنا لا أريد أن أتطاول على إخوتي وأحبتي). والعجب ممن يثني على المدافعة التي حصلت من المجتمع المدني (الجمعيات الاجتماعية والثقافية السياسية) ويشيد بها إبان خطة إدماج المرأة في التنمية، ويرفض المشاركة السياسية ترشيحا أو تصويتا ! ويا يلت شعري، لأن قبول فلسفة المجتمع المدني عمليا والاستفادة من جانبه الإيجابي ما هو إلا مظهر من مظاهر قبول الديمقراطية عمليا؛ فهو مصطلح غربي المنشأ والمفهوم والوظيفة، فالتلطخ بأدران الديمقراطية في هذا الواقع ما له من دافع، ولكن الفقه في رفعه ودفعه والتقليل منه قدر المستطاع. وقد يقول قائل: سنتجنب الوقوع في الكفر باعتبار أن الديمقراطية هي حكم الشعب بنفسه، والأصل أن الحكم لله سبحانه، ولم نجد دليلا في الشرع يبيح الوقوع في الكفر لأجل جلب مصلحة أو دفع مفسدة؛ فليس هناك مصلحة أعلى من مصلحة التوحيد، كما ليس هناك مفسدة أشد من مفسدة الكفر. ويراد بالوقوع في الكفر في هذا السياق المشاركة في المجالس البرلمانية التشريعية باعتبارها مجالس طاغوتية تجيز التشريع من دون الله. قلت: التشريع من دون الله كفر لا نختلف فيه، وهو طاغوت يجب أن نكفر به، ولكن هل ما وصفتم به مجالس البرلمان في سائر البلدان الإسلامية، ومنه المغرب، دقيق؟ إن الدستور المغربي، وهو المعبر عن حقيقة ولائه وانتمائه، يعلن أن المملكة المغربية دولة إسلامية، وهذا يعني أن مؤسساتها يجب أن تخضع لنظام الإسلام، ومنها البرلمان. لكن إذا خُرق ما تم به التأصيل فهذا يرجع لسوء التنزيل، وقلة المناصرين للإسلام داخل قبة البرلمان. من الممكن جدا أن يعترض علينا معترض بأن لفظ الديمقراطية وارد في الدستور المغربي، وقد سبق التقرير آنفا أنه كفر من حيث هو لفظ يدل على فلسفة معينة. إلا أننا في الواقع لا ننكر تغيير مدلول المصطلح حسب عرف الناس واستعمالهم، أو ما يسمى بجغرافية المصطلح، فلفظ التأويل -مثلا- إن كان يراد به التفسير عند السلف إلى حدود القرن الثاني أو الثالث الهجري، فقد صار يدل عند المتأخرين على معنى آخر هو صرف اللفظ عن ظاهره لوجود قرينة. ومن تأمل سياق لفظ الديمقراطية في الدستور المغربي واعتبر به، فلا يتردد في أنه يراد به مدلول العدل، ولْتتأمل ما جاء في ديباجته حتى تكون على بينة: "إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون". ذلك، وإن كنا لا ننكر هذا الأمر، فكذلك لا ننكر أن في الدستور المغربي عبارات موهمة تعكر صفو هذا الاعتقاد. هذا أولا. وثانيا: لنُسلم افتراضا وجدلا أن المجالس البرلمانية اغتصبت حق الله في التشريع وهذا كفر، فهل يصح لغة وشرعا أن الذي دخل إلى البرلمان بنية الدفاع عن شرع الله وحقه الخالص في التشريع، ثم عرضت مسألة ما على أعضاء البرلمان تخالف الشريعة الإسلامية، فرفع هذا الداخل صوته بالرفض، وأخبر به القريب والبعيد من خلال وسائل الإعلام، لكن الأعضاء احتكموا بحسب نظام البرلمان إلى منطق الأغلبية ومُرر التشريع بناء عليها، قلت: هل يصح -لغة وشرعا- أن نعتبر هذا الذي دخل ودافع وأنكر واقعا في الكفر مشرعا له؟؟؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين؟ كل ما في الأمر أن المسلم الذي صدر منه ذلك بالنية والصفة المذكورة أعلاه، قد احتكم إلى آلية وهي الأغلبية، وهذه، في جوهرها، لا توصف لا بإيمان ولا كفر، فقد تكون آلية جائزة وقد لا تكون، بحسب أدبيات النظام الخاضعة له، فهي تبع للنظام الذي تتبناه. ولما افترضنا جدلا أنه نظام غير إسلامي، فقد احتكم بهذا الاعتبار إلى حكم غير حكم الإسلام أو إلى وسيلة ليست إسلامية، إلا أن ما وقع فيه ليس من باب التشريع، وهذا من باب تنقيح المناط وتحقيقه، ولهذا قلت إن وصف القائل ذاك لم يكن دقيقا وأعيده أيضا هنا، وهذه المرة من جهة أخرى. ثم قد يقال: هل التحاكم لغير الإسلام أمر هين؟ أبادر وأقول: هو أيضا لا يجوز، والتحاكم إليه رضا كفر وطاغوت، ولكن في أحوال الاضطرار وانعدام البديل قد نلتجئ إلى ذلك، وتكون لنا في الشرع رخصة وفي الأمر فسحة، وإذا كان أكثر العلماء المعاصرين جوزوا التحاكم إلى المحاكم الوضعية -وهي غير إسلامية- عند الاضطرار وعدم وجود البديل، والمتحاكم إليها لا يسعى إلا إلى تحقيق مصلحته الخاصة المشروعة، فكيف بالتحاكم إلى آلية الأغلبية على الوصف الذي ذكرناه لأجل المصلحة العامة أو مصلحة الأمة؟ فمن استبصر بقاعدة الحاجة، وأن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة، كان أوفق الناس. وثالثا: يجب أن نعلم أن مجالس الديمقراطية – إن صح هذا التعبير – ليست على وزان واحد، فإن كان منها ما يتعلق بالسلطة التشريعية وقد تقوى الشبهة عند بعضهم في هذا الباب، فإن منها ما يتعلق بتدبير أموال الأمة وخيراتها، وأعني بذلك المجالس الجماعية والحضرية، فكيف يصح شرعا وعقلا أن نترك تدبير خيرات الأمة للمفسدين ولا نصوت لفائدة المصلحين؟ بل من مكن للمفسدين بصوته أو سكوته فهو مشارك في الإثم، ولا ينبغي أن نختلف في هذا الأمر، ولهذا لا أتردد في القول بوجوب التصويت في هذا النوع من الانتخابات للأصلح. وقد يقول قائل: هب أننا صوتنا، وقد قمنا به سابقا، فماذا استفدنا من الحكومة الحالية وهي حكومة الإسلاميين؟ فلم نستفد منها شيئا يذكر، بل وقع التضييق على الدعاة، وحرموا من بعض المنابر، ومُررت قوانين ليست على سَنن الشرع الحنيف… قلت: من المغالطة أن نصف الحكومة الحالية بأنها حكومة الإسلاميين، وهي خليط من اليسار إلى اليمين؛ شركاء متشاكسون كل أخذ حصته وانطلق، ولنعتبر بموضوع الإجهاض كيف بدأ ومن وراءه حتى نعلم أهي حكومة إسلامية أم خلق مشوه!؟ بل واقع حزب العدالة والتنمية وسط الحكومة الحالية -وإن كان هو يترأسها- أشبه برأس الرجل المريض، لا تسعفه يد ولا تخضع له رجل إلا لمما، وهذا الحال يدعو للشفقة عليه وتلمس الأعذار له، والعمل على تخليصه من هذا الوضع بالانخراط في التصويت للأصلح، لتكون حصة المصلحين أكثر حظا وأقوى سندا. ثم من هذا الذي يستطيع أن يجزم أننا لم نستفد من وجود الإسلاميين في الحكومة الحالية شيئا يذكر، أو أن المصالح المحصل عليها أقل بكثير من المفاسد المترتبة بوجودهم فيها؟ فالحكم على أدائهم يجب أن يكون من خلال دراسة علمية متأنية، تتبنى منهج الاستقراء والاستقصاء، وذكر الأرقام، فهي أصدق قيلا. ثم هل من المعقول أن نحاكم تجربة سياسية وليس لها من العمر في تدبير شؤون البلاد إلا ما تعلمون!!؟؟؟ -أبهمت ذكر المدة استحياء حتى لا أفرط في حق محاوري ولا أتمالك نفسي- ذلك أنه لو لم يكن من الثمار المجنية سوى الاطلاع على دواليب أقسام الدولة والتدريب على فقه صناعة القرار لكان ذلك شيئا عظيما نثمنه، بل كان المتوقع أن تكون النتائج أسوأ حالا مما تنقمون، ومن قرأ كتاب "الحكومة الملتحية" تأكد من صحة هذا القول. وأنا أدعو الناشطين السياسيين من الإسلاميين والدعاة إلى الله أن يستفيدوا من هذا الكتاب، فهو أشبه -في بعض مباحثه- بدراسة مستقبلية واعية للحركة الإسلامية في المجال السياسي والدعوي، وقد قدم مؤلفه قراءة نقدية لعديد من الأمور المتعلقة بالحركة الإسلامية، ويظهر أن حزب العدالة والتنمية لم يستفد منها جيدا. وختاما أقول: إن المشاركة السياسية بالترشيح أو التصويت في ظل الديمقراطية المقيتة ما هي إلا استثناء لا يجوز أن نُسَكنه موطن الأصل، فتختل عندنا الموازين والمعادلات، بل الأصل هو الدعوة إلى الله، ننخرط فيها بشكل يرفع عنا إثم الواجب الكفائي، فهناك تقصير لا تخطئه عين، فأكثر الناس، إلا من رحم الله، بعيدون عما نتكلم عنه أو نحلم به، ومن فاته تقدير حقيقة حجمه فاته الكثير، ويجب أن تكون المشاركة السياسية في ظل الوضع الحالي في خدمة الدعوة إلى الله، وألا نقع في صورة الأمة التي تلد ربتها، فلنُصوِّت على الأصلح ولْتَبَرَّ البنتُ أمها. والله أعلم.