في تقديري أن موضوع الحريات الفردية لا ينبغي الوقوف فقط عند تجلياته السياسية والحقوقية، التي تظهر عادة في الحراك الواقع على الساحة النضالية، وإنما ينبغي دراسة خلفيته الفكرية والفلسفية المؤطرة لتلك المقولات السياسية والحقوقية، حتى يمكننا ذلك من فهم كنه القضية، من حيث كونها تمتح من مرجعية معينة. لذلك نقرر بداية أن الخلاف في تناول هذا الموضوع خلاف مرجعي بالأساس، خلاف بين التصور الإسلامي لقضية الحرية الفردية، المبني على أصول الشريعة الإسلامية، ومقاصدها العليا الحاكمة، وبين التصور العلماني واتجاهاته المتعددة، وإن كانت العلمانية من الناحية الإيديولوجية ذات بعد واحد، وموقف مبدئي موحد من الدين عامة، ومن الشريعة الإسلامية خاصة، يؤطره الغزو الفكري الاستعماري، والاستلاب الحضاري، والإحساس بالدونية لدى النخبة المتغربة الفرانكفونية، المتماهية مع المنظومة الغربية والثقافة الاستعمارية في كل شيء. فقضية المرجعية وتحكيمها في هذا الموضوع الخطير والحساس، أعتبره جوهر الخلاف والصراع، وكنه المعالجة، وإلا سنظل تائهين في بيداء الفكر دون أن نخلص إلى نتيجة مرضية وواقعية، إذ التصور الإسلامي لموضوع الحريات الفردية يختلف تماما عن التصور العلماني. وهنا أقرر ما سبق أن كتبته تمهيدا لحوار مع العلامة عبد الصبور شاهين رحمه الله حول العلمانية، فقلت "لقد ظلت الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي مصدر الحكم والتشريع، ومنبع التوجيه والإرشاد، ومعين التسيير والتأطير للدولة والمجتمع، فكانت لها بذلك السيادة الكاملة، والريادة التامة، بالرغم من فترات الضعف والأفول التي تغشى من حين لآخر سير الدول والمجتمعات الإسلامية، إلى أن أتى الاستعمار الغربي بمنظور جديد لكيفية استعمار دول العالم الإسلامي، وخاصة منه العالم العربي. فكان مما أتى به ترسيخ العلمانية ثقافة وسلوكا وقوانين، فعمل هذا المستعمر الغاشم كل ما في وسعه لإزاحة الشريعة من دواليب الدولة ومؤسساتها، وأعانه على ذلك أن أنشأ كائنات على شاكلته، وصاغ بشرا على صورته، منسلخين عن حضارتهم، ومتنكرين لهويتهم، لا يرون إلا ما يراه المستعمر، ولا يفكرون إلا بعقليته. وقد عبر علال الفاسي رحمه الله أصدق تعبير، وبين أحسن بيان، لما آلت إليه أوضاع المسلمين اليوم بسبب السياسة الاستعمارية، والتبعية للأجنبي، فقال رحمه الله بما نصه: "لم يحصل أن فصل المسلمون عن أنفسهم في عصر من العصور كما فصلوا اليوم بسبب الاستعمار الأجنبي الذي هاجم ديارهم وأصابهم في ثرواتهم المادية، ولم يكتف بذلك حتى هاجمهم في لغاتهم وثقافتهم، وصاغ منهم كائنات على صورته، تردد ما يقول، وتعمل بما يوحي به دون أن تدرك أنها تعمل ضد نفسها وتحارب كيانها… لقد أصبح قسم من المسلمين -وجلهم من المسؤولين في الحكومات الإسلامية- يقومون مقام المستعمر في الذب عن الفكر الأجنبي المتمثل في القوانين المستحدثة، وكيل الطعن المتوالي على الفقه الإسلامي ورجاله ودعاة العودة إليه. بينما يقف أنصار الشريعة وعلماؤها موقف المشدوه، ضعيف السلاح لأنه لا سلطة لهم ولا حول ولا قوة، يواجهون بها هذا الزحف الاستعماري المتستر باسم قادة المسلمين الذين وصلوا للحكم باسم شعوبهم المسلمة ونضالها في سبيل الحرية". (دفاع عن الشريعة، المقدمة). من هنا دخلت العلمانية العالم الإسلامي، فأحكمت قبضتها بمساعدة من سماهم علال الفاسي بقادة ومسؤولي الحكومات الإسلامية، فهيمنوا على دواليب الحكم والمجتمع بالحديد والنار، وبنشر ثقافة وقيم الأجنبي المستعمر، الذي كانوا يدينون له بالطاعة والولاء، متبرمين من كل قيمهم الدينية والحضارية والعمرانية، صادفين عن كل سبل الرشاد والسداد، فكان أن خرجنا بذلك من الاستعمار الأصغر إلى الاستعمار الأكبر، الذي لم يزد الأمة إلا تخلفا وتقهقرا وارتماء في أحضان أعدائه". تحرير محل النزاع في هذا الموضوع وتحرير محل النزاع في موضوع الحريات الفردية يجعلنا نقسمها إلى قسمين: قسم الحرية الفردية فيه مسلمة ومقررة ابتداء، مثل حرية التعبير وإبداء الرأي، وحرية التنقل، وحرية اختيار شريك الحياة سواء من الرجل أو المرأة، لأن المعاشرة لا بد فيها من المساكنة والمرحمة والمودة، وحرية ما طاب من المأكولات والمشروبات، وذلك لا يكون إلا بالاختيار الحر دون ضغط من أحد، وهلم جرا من مثيلات هذه الاختيارات التي فطر الناس عليها "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون".[الروم:30]. وقسم الحرية فيه محل نزاع شديد، واختلاف عريض بين التيار العلماني اللاديني وبين المجتمع المسلم، وتعبيري بالمجتمع المسلم، لرفع الالتباس الذي قد يقع لبعض الناس، فيحسب أن القضية ما هي إلا خلاف بين العلمانيين والإسلاميين، وهذا القسم هو المتعلق بالحرية الجنسية بلا قيد ولا شرط، ولا مراعاة للضوابط الشرعية والأخلاقية. في البداية كانت الحرية وبعد أن بينا سلفا محل النزاع، وكشفنا عن حقيقته، وهو المتعلق بالحرية الجنسية، لا من حيث كونها فطرة مركوزة في جبلة الإنسان، ينبغي أن تصرف وفق مراد بارئها سبحانه وتعالى، ووفق شرعه الحكيم، أعني حسب مقتضيات شريعتنا الإسلامية، وإنما حسب التيار العلماني اللاديني أن تكون هذه الحرية الجنسية سائبة متحررة من سلطة الشرع وسلطة المجتمع، حتى يصير الإنسان فيها كالبهيمة السائمة السائبة، المنطلقة نحو الشهوة الجنسية بدون قيد ولا لجام. وليس هذا ضربا لمبدأ الحرية التي منحت للإنسان ابتداء، حتى كانت بداية حركته في الوجود، وليس السياسة وحدها كما جنح إلى ذلك أحد الكتاب، ولا الكلمة وحدها كما رأى آخر، وإنما كانت الحرية في البداية لقوله تعالى: "وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" [البقرة35]. لقد خلق الله آدم وأسكنه هو وزوجه الجنة، ومنحهما حرية التصرف، وحرية الفعل، وحرية الحركة، وحرية القول، والدليل على ذلك كله قوله تعالى: "وكلا منها رغدا حيث شئتما"، ونستخلص من ذلك: أولا: أن السكون يقتضي حرية الحركة والفعل، حيث آدم وزوجه سيتحركان ويتنقلان في الجنة وهذا دليل على الاستقرار واللبوث بها، إذ لا يتصور في معنى السكون عدم الحركية والفعل، وإلا لما تسنى لهما أن يأكلا منها، لأن طبيعة الأكل تتطلب حركة الفعل، وحركة الفعل تستوجب الحرية المعبرة عن الإرادة الإنسانية في تحقيق الفعل أو نفيه. ثانيا: أن قوله جل علاه "رغدا حيث شئتما" يحمل دلالة على مطلق حرية الأكل والتوسع فيه بلا قيد ولا شرط، لأن نعيم الجنة أعد للتوسع فيه والاستمتاع به، فلا يشمله مفهوم التبذير والإسراف. ثالثا: أن هذه الحرية قيدت بنهي صادر عن الذات الإلهية وهو قوله تعالى: "ولا تقربا هذه الشجرة…" وهو تقييد اختباري مصلحي، اختباري لمدى ضبط آدم وزوجه للشهوات المغروزة فيهما، ومصلحي لأنه مقرون بمدى الالتزام بالنهي الإلهي المتضمن للمصلحة، فلم تكن بذلك حرية مطلقة، فالحرية المطلقة غير موجودة البتة منذ آدم إلى يومنا هذا، وإنما تتقلص مساحة الحرية أو تتمدد بحسب الأنظمة الحاكمة فإن كانت عادلة تمددت الحرية، وإن كانت فاسدة مستبدة انكمشت الحرية. أصول الحرية الفردية الجنسانية نروم هنا تحديد بعض الأصول الفكرية والفلسفية والأيديولوجية سواء المصرح بها أو المستبطنة في ثنايا كلامهم، حاولنا الكشف عنها، وبيان معالمها حتى يكون القراء على بينة مما يساق لهم في قوالب براقة وخادعة، لاسيما الشباب منهم، وإن كانت هذه الأصول تحمل تهافتها ابتداء، بأدنى شيء من التأمل، وهي: الأصل الأول: ملكية الجسد لصاحبه ينطلق دعاة الحرية الفردية الجنسانية في تثبيت هذا الأصل من فلسفة مفادها أن الجسد ملك لصاحبه، لا يشاركه فيه أحد، وهذا ما عبر عنه غير واحد منهم، وينبني على هذا التصور أن للإنسان حقا في أن يفعل في جسمه ما يشاء، يهبه لمن يشاء، ويمنعه عمن يشاء، ولا يحق لأحد أن يمنعه من ذلك، ولا ينبغي أن يحولبينه وبين التصرف في جسده لا شريعة منزلة، ولا قانون مسطر، ولا عرف سائد، فكل ذلك غير معتبر عند هؤلاء البتة. يقول المسمى نور الدين عيوش، وهو من أبرز دعاة الجنسانية في المغرب: "حرية الجسد مهمة جدا، حرية الجسد فيها كثير من الأشياء:..حرية الجسد هي إنسان رجل أو امرأة، رجل يريد أن يعيش مع رجل آخر، هذا من حرية الجسد، أو امرأة تريد أن تعيش مع امرأة أخرى، هذا حرية الجسد، حرية الجسد أيضا هي أن يقول ويفعل الإنسان ما يشاء بجسده، الجسد هو ملك أي إنسان، والدولة يجب أن لا تتدخل في هذا الشيء. إذا كان إنسان على علاقة بسيدة يحبها، ولكن بلا زواج، وأراد أن يدخل معها فندق ليفعل ما يحلو له معها في هذا الفندق، لا يجب على الفندق أن يقول له -كما يوجد الآن- اعطني عقد الزواج بينك وبين هذه السيدة، هذا غلط، يجب على وزير العدل ويجب على الحكومة أن تغير هذه الأشياء، لأنه لم يعد يصح أن تبقى، لقد سبق أن تكلمنا عن حرية الجسد منذ سنين، وطالبنا بتغير القانون الحالي، وهذه القوانين المتأخرة (المتخلفة)، وتجعل الناس يروننا متأخرين (متخلفين)." ويذهب عيوش إلى أن "حرية الجسد تهم الإنسان" (انظر كلمة عيوش على اليوتوب: https://www.youtube.com/watch?v=rC7bCVqQ_Jo) ومرجعية فلسفة هؤلاء في الجسد، ترجع أصلا إلى التصور المادي للجسم، أي بمعنى تفسير التحكم في الجسم وملكيته نابعة من تصور الفلسفة المادية الماركسية، ومن التصور اللاديني للجسم عموما، فهو عندهم مادة مجردة يملكها صاحبها، ويملك معها حق التصرف فيه. وهنا يختلف التصور الشرعي الإسلامي عن الفلسفة المادية لمفهوم الإنسان وحرية التصرف في الجسد، فهو في تصورنا وعقيدتنا الإسلامية مخلوق لله تعالى، فهو مالكه وخالقه وبارؤه عز وجل، وهو الذي نفخ فيه من روحه تلك الروح العلوية القدسية، ثم كرمه وأسجد له ملائكته، وفي ذلك جاءت آيات كثيرة تجلي هذه الحقيقة، من ذلك: – قوله عز وجل: "وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين" [الحجر:28،31] – وقوله سبحانه: "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين" [ص:71،72] – وقوله تعالى: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ" [الفجر:27-28] فنسبها إليه تشريفا وسموا. – وقوله سبحانه وتعالى: "فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم، ونُقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى. ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، لكي لا يعلم من بعد علم شيئا" [الحج: 4] أبعد هذه الآيات وغيرها يقال إن "الجسد هو ملك أي إنسان" و"حرية الجسد تهم الإنسان"، مثل هذا لا يمكن أن يصدر عن إنسان فهم شريعة الله، وأدرك حقيقتها ومغزاها ومقاصدها، وإنما يصدر ذلك عمن جعل الحياة كلها عبارة -كما قلت آنفا- عن مادة مجردة، يتعامل معها بشكل ميكانيكي. ونضيف شيئا آخر ردا على هذه المقولة الفاسدة، ويؤكد في الوقت ذاته على أن الجسد ليس ملكا لصاحبه، ما جاء من أحاديث نبوية تنهى عن قتل الإنسان نفسه، أو يصيب منها شيئا يفضي به إلى إتلافها، والقضاء عليها، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا." (رواه مسلم). وصفوة القول هنا أن التيار الجنساني يتكأ على القول بملكية الإنسان لنفسه، ويوهم الناس على أنه محق في ذلك، حتى يطلق القيود للحرية الجنسية، فهي بذلك تبع لملكية الجسد، ولا يخفى على الألباء تهافت هذا الأصل الذي يتمسكون به. والأدهى والأمر أن هؤلاء لا تهمهم مبادئ الشريعة الإسلامية في تحقيق كرامة الإنسان وأنه ملك لله تعالى. الأصل الثاني: التنكر للأخلاق ومناهضتها إذا تمعنا في "مقولات" الجنسانيين، محاولين أن نرجعها إلى أصولها الفلسفية، فلا جرم أنها تمتح من موقف الفلسفة المادية الجدلية التي لا تلتفت إلى الأخلاق، وإنما تعتبرها منتمية إلى الطبقة البرجوازية والوصايا الدينية الغيبية، لأجل ذلك تعتبر الجنس عملا بيولوجيا محضا، لا علاقة له بالأخلاق. يقول دركايم: "إن الأخلاقيين يتخذون واجبات المرء نحو نفسه أساسا للأخلاق، وكذا الأمر فيما يتعلق بالدين، فإن الناس يرونه وليد الخواطر التي تثيرها القوى الطبيعية الكبرى أو بعض الشخصيات الفذة (يعني الرسل) لدى الإنسان. ولكن ليس من الممكن تطبيق هذه الطريقة على الظواهر الاجتماعية اللهم إلا إذا أردنا تشويه الطبيعة." (قواعد المنهج في علم الاجتماع نقلا عن الإسلام والجنس لفتحي يكن 18). ويقول فرويد: "إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسي..وكل قيد من دين أو أخلاق أو مجتمع أو تقاليد هو قيد باطل ومدمر لطاقة الإنسان وهو كبت غير مشروع." (نقلا عن الإسلام والجنس يكن 18). ولهذا ليس من الغريب أن نجد دعاة الجنسانية يركزون فقط على الإشباع الجنسي، مع التغييب الكامل للمنظومة الأخلاقية والتربوية، وعدم الالتفات إلى المشاكل الحقيقية التي يتخبط فيها المجتمع، ورصد الأولويات، وعلى رأسها الوضع المعيشي، على اعتبار أنهم من دعاة التحليل الاقتصادي لكل الظواهر، إن جاز لنا اليوم أن ننسبهم إلى هذا المنحى، ولكن همهم الوحيد هو إنشاء جيل مشوه ممسوخ بعيد عن مقومات المجتمع المغربي المسلم، همه فقط في ما بين رجليه، لا تشرئب نفسه وتتطلع إلى المعالى، ولا تسمو إلى الرقي الإنساني. والغريب أن يغيب المبدأ الأخلاقي عند العلمانيين الحداثيين الجنسانيين، لا لشيء إلا لكونهم ولدوا في مجتمع مسلم، توارثت أجياله شيئا غير قليل من الأخلاق، وبالمقابل نجد من الغربيين من ينبه إلى خطر تبدل القيم الأخلاقية، التي أفضت إلى العلاقات الجنسية المحرمة، وهذا ما أكده الدكتور كلود سكوت نيكول، منذ زمن بقوله: "إن المشكلة التي تواجهنا اليوم هي تبدل قيمنا الأخلاقية التي شجعت وتشجع إقامة العلاقات الجنسية المحرمة. وهذه بدورها سببت ازديادا حادا في إصابات الأمراض الناتجة عن الإباحة الجنسية." (الإسلام والجنس فتحي يكن 43)، ولكن كل شيء يهون مع تضخم الأنا الإديولوجي، والانغماس الكامل في خدمة الأجندة الغربية الاستعمارية المدعومة. الأصل الثالث: العداء للإسلام المتتبع لدعاة الجنسانية سيخلص إلى أن من أصولهم، العداء للإسلام، لأخلاقه وقيمه ومبادئه، وتشريعاته، فلا غرابة أن يصرح أحدهم بأنه ضد الدين، وطبعا هذا الموقف ينسجم مع القاعدة الماركسية "المبتكرة" (الدين أفيون الشعوب)، (ولا إله والحياة مادة). ولما كان الإسلام في نظر هؤلاء عقبة كأداء، تقف في وجه تحرير الجنس والتمرد على قيم المجتمع المسلم، كان لا بد أن ينصبوه العداء، وينال حظه من الازدراء، سواء بالقول أو بالتصريحات المغرضة، أو عن طريق رفع لافتات تزدري كل ما هو محرم، وتدعو إلى إباحته وممارسته، ورفع القيود عنه بإبطال وإلغاء فصول من القانون الجنائي. والمتتبع لدراسة الأفكار وتطورها، سيجد أن الجنسانيين بنصبهم العداء للإسلام، وإباحة الجنس والترويج له، يلتقون مع المعتقدات والأفكار الماسونية، والتي من ضمنها "إباحة الجنس واستعمال المرأة كوسيلة للسيطرة" و"تهديم المبادئ الأخلاقية والفكرية والدينية، ونشر الفوضى والانحلال والإرهاب والإلحاد" وغيرها من الخطط الجهنمية لتدمير العالم كله بله الأمة الإسلامية. (انظر الثورة الجنسية أبو محمود سيف الإسلام 20). هذه في نظري أبرز أصولهم، وما عداها فيدور في فلكها، ويسير على سبيلها، وإنما حبذنا الاختصار، على التطويل في ذكر باقي أصولهم. ومنها نخوض في بيان غايات ومقاصد دعوتهم. غايات الحرية الفردية الجنسانية نحدد هذه الغايات والمقاصد لهذه الدعوة الدخيلة على المجتمع المغربي المسلم فيما يلي: أولا: تحرير الجنس تحريرا كاملا، بحيث يصير متاحا من غير متابعة قانونية، وإن كان الواقع يشهد غض السلطات الطرف عن الإخلال بالحياء العام، والممارسات في بعض الأماكن، لكن دعاة الجنسانية لم يكفهم هذا، وإنما يناضلون من أجل التخلص من بعض القوانين المجرمة للممارسة الجنسية خارجة إطار الزوجية، والمجرمة للإجهاض، بل الأدهى والأمر، أن يطالبوا حتى بمماسة الشذوذ الجنسي، وعدم تجريم الخيانة الزوجية. ثانيا: تفكيك بنية الأسرة المسلمة المبنية أصالة على نظام الزوجية، ومنه تتفرع القرابة والنسب، هذا البناء المتماسك بقوة الشريعة ونظام الفطرية المركوز في الجبلة الإنسانية، يتوخى هؤلاء القضاء عليه، لتحل محله المشاعية الجنسية، بحجة أن العلاقة بين الراشدين لا ينبغي التحجير عليها، وإنما تتم بعلاقة رضائية. وليس لهذه العلاقة التي سموها زورا وبهتانا سبيلا واحدا سوى الدعوة الصريحة إلى الفساد بشتى أنواعه، من اللواط والزنا، وغيرهما من أوجه الفساد. هذا الفساد (تسونامي الجنس) قد حذر منه الناصحون من بعض عقلاء الغرب، الذين اكتووا بناره، حتى حسبوه أخطر من القنبلة الذرية، وفي ذلك يقول جورج بالوشي هورفت في كتابه (الثورة الجنسية): "والآن، وبعد أن كادت أذهاننا تكف عن الخوف من الخطر الذري، ووجود (سترونيتوم 90) في عظامنا وعظام أطفالنا. لا يفتقر العالم إلى عناصر بشرية تقلق للأهمية المتزايدة التي يكتسبها الجنس في حياتنا اليومية، وتشعر بالخطر إذ ترى موجة العري وغارات الجنس لا تنقطع. ينشغل هؤلاء الناس انشغالا جادا بالقوة الهائلة التي يمكن أن تصل إليها الحاجة الجنسية إذا لم يحدها الخوف من الجحيم، والأمراض السارية، والحمل.. وفي رأيهم أن أطنانا من القنابل الجنسية تنفجر كل يوم، ويترتب عليها آثار تدعو إلى القلق، قد لا يجعل أطفالنا وحوشا أخلاقية فحسب، بل قد تشوه مجتمعات بأسرها." (نقلا عن الإسلام والجنس لفتحي يكن 10). وكتب جيمس رستون في النيويورك تايمز مؤخرا: "إن خطر الطاقة الجنسية قد يكون في نهاية الأمر أكبر من خطر الطاقة الذرية؟؟" (نفس المرجع السابق10). و"في نيسان سنة 1964 أثيرت في السويد ضجة كبرى عندما وجه 140 من الأطباء المرموقين مذكرة إلى الملك والبرلمان يطلبون فيها اتخاذ إجراءات عاجلة للحد من الفوضى الجنسية التي تهدد حقا حيوية الأمة وصحتها، طالب الأطباء بقوانين ضد الانحلال الجنسي". (الإسلام والجنس 14). بهذا يتبين أن المقصد الأصلي من وراء دعوة الجنسانيين، هو تفكيك وحدة الأسرة، وتفكيك نسبها، وتفكيك قرابتها، ليسهل تفكيك انتمائها إلى الإسلام المتمثل في المبادئ والتشريعات والقيم المنظمة للأسرة. فالجنس في الإسلام ليس مقصودا لذاته، لإشباع الرغبة الشهوانية فقط، وإنما مقصده الأسمى حفظ النوع البشري، وبه يتم مقصد حفظ العمران، وبه أيضا تتحقق غاية الغايات وهي عبودية الله تعالى. فالإسلام لا يكبت الغرائز المودعة في الفطرة الإنسانية، فيشلها عن وظائفها، وإنما يوجهها ويرشدها ويضبطها لتحقق مقاصدها النبيلة وغاياتها السديدة الرشيدة. فهل لدعاة الحرية الجنسية من مقاصد، سوى اتباع الشهوات وقضاء الأوطار بطريقة قد تكون أخس من الحيوان، الذي تعرف جماعة منه نظام الزوجية والتعاون والتآزر، فلا ريب أن دعاة الجنسانية أضل سبيلا. ثالثا: ترسيخ النظام الاستعماري، الذي لازلنا نعاني من تبعاته واستحواذه على خيرات البلاد، للمزيد من تمكين الهيمنة الأجنبية، وتدليل الصعاب للاختراق الصهيوني، الذي أصبح اليوم مهددا للدولة المغربية بنشاطاته المشبوهة. فعن طريق الجنس تسهل السيطرة والهيمنة، قد يبدو هذا ضربا من الخيال، ولكن الحقيقة أن الاستعمار الغربي والصهيوني وأتباعه ينفذون إلى الشباب عن طريق الجنس، ولهم في ذلك شبكات، شبكات الدعارة المغلفة بأسماء براقة. ولمعرفة مدى استغلال الجنس للسيطرة أنقل هنا ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون: "يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا…إن فرويد منا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس، لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار أخلاقه". ولهذا لا ينبغي أن نستغرب، في ظل هذا البند البرتوكولي الصهيوني، وغيره مما هو مخفي، من أن تقوم شرذمة من المثليين والملاحدة، لا يمثلون أي شيء في المغرب، من الدعوة إلى جمع في (24 من دجنبر 2016)، لتأسيس جمعية أطلقوا عليها اسم "جمعية أقليات" يحسبون أنفسهم أقلية مضطهدة، في حاجة إلى إطار جمعوي يضمهم، وإطار قانوني يحميهم. إذن فدعاة الجنسانية أقروا بذلك أم لا، فإن غايتهم خدمة المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني، واختراق بنية المجتمع المغربي المسلم، وهذا ملحوظ منذ زمن غير يسير تجلى أكثر في ما سموه ب"الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، والتي أمليت على الوزير السعدي وأتباعه العلمانيين بكرة وأصيلا. وصفوة القول مما سبق، أن الدعوة إلى الحرية الفردية الجنسانية مخالفة لشرع الله تعالى، ومخالفة للدستور المغربي، الذي يقر أن الإسلام دين الدولة، ومخالفة لمقتضيات إمارة المؤمنين التي منها حفظ الدين وإقامة الدنيا، ومناهضة للمبادئ الإنسانية الفطرية الراقية، فحق للعلماء والأمة والشرفاء في هذا البلد والعالم أن يتبرؤوا منها، حتى اعتبرها العلامة المغربي والمؤرخ النحرير أحمد الناصري رحمه الله من وضع الزنادقة، قال: "واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا، لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية." (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 8/130 طبعة وزارة الثقافة). ولهذا وجب على العلماء الأتقياء الذين يشعرون بمسؤولياتهم تجاه أمتهم ودينهم، والمناضلين الشرفاء الغيورين على وطنهم، والأسر المغربية الأصيلة المشهود لها عبر التاريخ بالكرامة والشهامة والعزة والرفعة، أن يتصدوا لهذا الفساد العريض، والداء العضال، والسم القاتل، ألا وهو الحرية الجنسية، فإن بانتشارها أهلك الله أقواما، وأباد آخرين، قال الله عز وجل في قوم لوط: "وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين". وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ."(رواه ابن ماجة والحاكم).