لغتنا العربية، لغة القرآن الكريم، أصبحت مهددة ومستهدفة منذ دخول النفوذ الأجنبي إلى قلب الأمة الإسلامية، وكان تركيز التغريب والغزو الثقافي على لغتنا بالغ الدقة، من حيث إنه المفتاح لكل حرب توجه نحو العقيدة الإسلامية، أو الفكر، أو التراث، أو التاريخ الإسلامي، وحتى القرآن الكريم نفسه، وكان دعاة التغريب في مخططاتهم يعرفون مدى ارتباط اللغة العربية الفصحى بانتشار الدعوة الإسلامية، ومدى ارتباط جماعة المسلمين باللغة العربية، بوصفها لغة عقيدة وفكر وثقافة، بل لقد كانت لغات الترك والفرس وغيرها تكتب بالحروف العربية. إن تركيز النفوذ الأجنبي على اللغة العربية هو بمثابة الحرب على القرآن الكريم نفسه، لأنه إذا نزلت اللغة العربية إلى مستوى متدن وهابط واستمرت في ذلك، سيجيء يوم يبدو فيه بيان القرآنكأنه مختلف وغامض لارتفاعه عن مستوى اللغة العامية، وعند ذلك ينفصل القرآن عن لغة الكتابة ويُقرأ بقاموس، ويتحقق بذلك هدف النفوذ الأجنبي بعزل القرآن عن اللغة العربية لا قدر الله. ويجب أن نتنبه تماماً لدور مراكز تعليم اللغة العربية في جامعات فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الجامعات الغربية، حيث إنها تعمل على تنفير أبناء المسلمين غير العرب من تعلم العربية، إضافة إلى اتهامها بالجمود والعقم، وأنها لا تصلح للحياة إلا لمجتمع بدوي، ولا تساير الحياة الحضارية. إن هذه حرب على اللغة العربية وبالتالي على الإسلام والقرآن، لأنه هو الكتاب الوحيد الذي احتفظ بلغته الأصلية وحفظها من عوادي الفناء، وسيحفظها على مر الدهور، وستموت اللغات الحية المنتشرة في العالم اليوم كما ماتت لغات حية كثيرة في سالف العصور، إلا اللغة العربية فستبقى بمنجاة من الموت، وستبقى حية في كل زمان مخالفة للنواميس التي تسري على سائر لغات البشر. ولا غرو فهي متصلة بالمعجزة القرآنية الأبدية، والقرآن هو الحصن الحصين الذي تحيا به اللغة العربية، وتقاوم أعاصير الزمن، وعواصف السياسة المعادية ووسائلها الهدامة. إن النفوذ والغزو الثقافي الأجنبي أعد مخططاً لإيقاف اللغة العربية عن طريق القسر والتحدي، وبفعل عوامل غير طبيعية أقام السدود أمام نمو اللغة العربية وسيرها مع الإسلام في خط واحد، وخاصة في المناطق التي اتسع فيها نطاق الإسلام من قبل، ولولا هذه المحاولات التي تقودها قوى التنصير العالمية، والتي تفرض على مناهج التعليم في تلك البلاد لغات أجنبية، ولهجات عامية، لما استطاعت قوة أن تحول بين العربية الفصحى ومسايرة الإسلام، لأنها اللغة التي تجعل القرآن الكريم دستور الإسلام ومنهجه الاجتماعي والفكري، وتحمل السنة والفقه والتراث. والكثير من البلدان التي تحررت من نفوذ الاستعمار حالياً، لا يزال النفوذ الفكري يزين لأهلها ويغريها بمدارس تقوم دراستها وبرامجها على اللغات الأجنبية، فضلاً عن المدارس الجديدة التي يسمونها مدارس اللغات، وكذلك الأمر في مدارس الألسن التي لا تقوم برامجها على اعتبار اللغة العربية هي الأساس، بل تقوم على فلسفة مغرقة في التبعية والولاء الأجنبي، ويطمح المشتركون فيها في أن تحتضنهم الدول الأجنبية في مناصب وأوضاع متميزة يخدمون فيها خصوم أمتهم، في حين كان المفروض أن تكون كل اللغات التي يتعلمها المسلم خادمة للفكر الإسلامي. يجب على المسلم الابتعاد عن الشبهات التي طرحت في أفق اللغة العربية من أجل خلق روح الكراهية لها، والمتمثلة في: – تطوير الفصحى حتى تقترب من العامية (الدارجة)، فهذه دعوة مريبة ترمي إلى التحلل منالقوانين والأصول التي صانت الفصحى خلال خمسة عشر قرناً، فإذا تحللن من هذه القوانين والأصول، كانت نتيجة ذلك تبلبل الألسنة، واتساع رقعة الاختلاف بين الأقطار العربية حتى تصبح عربية الفكر شيئاً يختلف كل الاختلاف عن عربية القرن الأول الهجري أو عربية اليوم، وتصبح قراءة القرآن الكريم والتراث العربي الإسلامي كله متعذر على غير المتخصصين من دارسي الآثار ومفسري الطلاسم. – هناك معركة العامية (الدارجة) التي دعا إليها بعض العلمانيين بقصد القضاء على وحدة الأمة تحت لواء الفصحى، وهي معركة خاسرة، حيث ثبت أن الفصحى أطوع في التعبير من العامية، إضافة إلى أننا لسنا في حاجة إلى لغة دارجة ثالثة كحلقة وسطى بين العامية والفصحى، وأخطر ما في هذا الاتجاه تبني اللهجات الدارجة والمحلية للمسرحيات والتمثيليات وما يسمى بالأدب الشعبي. – محاولة تطبيق مناهج اللغات الأوربية على اللغة العربية ودراسة اللهجات العامية، ولما كان المنهج الوضعي الحديث يجعل أساسه في دراسة اللغة دراسة اللهجات والتركيز على الكلام المنطوق دون المكتوب، فإن الهدف هنا هو صرف الأفكار عن علاقة اللغة بالدين في سبيل إحياء القوميات الحديثة في الغرب وغيره، وإذا كان الأوربيون قد فرقوا بين اللغة العربية المستعملة في النصوص المقدسة والطقوس وبين اللغة التي يتكلم بها الناس في حياتهم اليومية، ومصالحهم الخاصة، فإن الفصحى ليست هي اللغة اللاهوتية أو لغة العبادة فحسب، ولكنها تجمع بين الغرضين، كذلك جمعت اللغة العربية بين الأسلوب الديني والأسلوب العلمي، وعبارة لغة الدين هي عبارة كهنوتية لا تنطبق على العربية، وهي مرتبطة بالمسيحية في الغرب، ومن هنا فإنه يلزم أن يكو لنا موقف إزاء نظريات علم الأصوات الحديث فلا نأخذها مطلقة مسلماً بها، لأن العلوم الإنسانية الغربية الوافدة تختلف اختلافاً واسعاً عن مفهوم العلوم الإنسانية الإسلامية. ومن هذا المنطلق، فنحن مطالبون بقدر أكبر من الوعي واليقظة إزاء مؤامرة احتواء اللغة العربية وتفريغها من مقوماتها، بعد مؤامرة حبسها عن النماء والانتشار في العالم الإسلامي. إن أخطر ما ندعو إليه هو القدرة على التحرر من سيطرة اللغات الأجنبية على اللسان العربي، وضرورة تعريب كل التعليم كنطقة انطلاق إلى الأصالة، وإيماناً بأن لغة القرآن الكريم هي لغة الحياة، وأنها ليست لغة أثرية، بل لغة متجددة وقادرة على استيعاب متغيرات العصر. ونحن مطالبون بأن نحمي لغتنا من إقحام ألفاظ اللغات الأجنبية عليها، لأن ذلك يجعلها مهلهلة خالية من جمال صنعتها الفريدة ونسيجها المنسجم، إضافة إلى أنه من الضروري حماية الجملة القرآنية والحذر من خطر الدعوة إلى إسقاط حركات الإعراب. وقد رافق التنافس بين اللغات الأجنبية، وعلى وجه الخصوص اللغتين الفرنسية والإنجليزية في البلدان التي احتلتها على أفق الثقافة الإسلامية مخطط خطير، كان يعمل النفوذ الأجنبي على بث الثقافة الغربية وحجب مفاهيم الفكر الإسلامي من خلال النفوذ الاستعماري الذي فرض على التعليم لغته ومفاهيمه وعلومه، التي تختلف اختلافاً كبيراً عن علوم الإسلام، سواء في مجال التربية أو النفس أو الأخلاق أو الاجتماع.