هوية بريس – الحسن شهبار قبل عشرين سنة تقريبا، كنت استمعت لخطبة جمعة مسجلة في شريط سمعي لخطيب مغربي مغمور، لم أكن أعرف حينها اسمه ولا أين يخطب، وكان موضوع خطبته في مسألة وجوب توحيد الصيام والفطر؛ فأحدث ذلك خللا كبيرا في ذهني، واضطرابا دام سنتين متتاليتين.. ولو كان هذا الخطيب فقيها بما يقول لما أحدث في عقلي هذا الاضطراب الكبير، ولناقش المسألة نقاشا علميا على طريقة الفقهاء، ولذكر مذاهبهم فيها، ثم ناقش أدلة كل مذهب، ولرجح في الأخير الرأي الذي ظهر له قوة أدلته.. ولكن هذا الخطيب لم يفعل شيئا من ذلك بتاتا، وإنما جعل خطبته في بيان أن المغاربة يصومون يوم العيد فيعصون أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وأنهم يفطرون اليوم الأول من رمضان عمدا؛ فيجب عليهم القضاء والكفارة، وهو في كل ذلك يحتج بالآيات والأحاديث العامة التي تحرم صيام يوم العيد، وتوجب الكفارة على من تعمد انتهاك حرمة شهر الصيام!! ولأنني حينها لم أكن قرأت في الفقه إلا كتاب (منهاج المسلم)، وكان وقر في قلبي تعظيم الدليل من الكتاب والسنة والتسليم المطلق له؛ فقد خيل إلي من شدة جهلي حينئذ، أنني حصلت على كنز ثمين؛ فغدوت أناقش كل من لقيته في طريقي أو جمعني به مجمع بمضمون تلك الخطبة التي حفظتها من كثرة سماعي لها.. وعندما كنت أناقش والدي وبعض أصدقائه كانوا يردون علي بجواب واحد ووحيد، وما فقهت جوابهم هذا إلا بعد مدة طويلة، عندما أراد الله بي خيرا، ويسر لي قراءة بعض كتب المذاهب الفقهية.. كانوا يقولون لي في جوابهم: "هؤلاء العلماء الذين يعدون بالآلاف في المغرب كلهم لم ينتبهوا لهذه الكوارث لقرون، حتى بعثت أنت اليوم لكشفنها!!".. ولم يكن جوابهم هذا ليصدني عن رأيي؛ بل ما كان يزيدني إلا ثباتا عليه، فإن العبرة عندي ليست بكثرة العلماء ولا بقلتهم، وإنما العبرة بالدليل، وأنا أدور مع الدليل حيث دار.. والحق لا يُعرف بالرجال، وإنما اعرف الحق تعرف أهله، ولا يهم إن كان هذا الحق الذي عرفته ليس له أهل، فأنت الحق، وأنت أهله، وأنت الأمة ولو كنت وحدك!! إن الإشكال الكبير الذي لم أجد من ينبهني إليه، أو من يصفعني على وجهي لأنتبه إليه هو: أين هو الدليل على أن المغاربة يُفطرون عمدا في اليوم الأول من رمضان، ويصومون يوم العيد؟ إن مسألة تعظيم الدليل والانقياد له مسألة عظيمة جدا، ولكنها سلاح ذو حدين إذا أسيء فهمها وتنزيلها.. فهل أنا مؤهل لفهم الدليل وتنزيله على الواقعة؟ وهل الخطيب الذي استمعت له -وكان يلحن كثيرا- مؤهل لذلك؟ لقد سألت مرة أستاذي الدكتور محمد أبياط عن هذا الأمر؛ فذكر لي أنه سأل شيخه الأستاذ الطاهري رحمه الله يوما هذا السؤال: لماذا علماء المشرق عندما يُسألون عن مسألة يذكرون الجواب عنها مصحوبا بالدليل من القرآن أو السنة، وعلماء المغرب عندما يُسألون يجيبون بقول مالك أو سحنون أو غيرهما من فقهاء المذهب؟ فكان جوابه رحمه الله: "ربما علماء المشرق قد بلغوا رتبة الاجتهاد؛ فأصبحوا يأخذون الأحكام مباشرة من الكتاب والسنة، وأما علماء المغرب فلم يصلوا لهذه المرتبة، ولذلك إذا سئلوا يُجيبون بما فهمه علماء مذهبهم من الكتاب والسنة"! يا له من جواب تقشعر منه الأبدان، ويفيض بالتواضع والأدب مع العلماء، ويبرز لنا المنهج السليم للتعامل مع الدليل.. إن كثيرا من الناس يخلطون بين الدليل وبين فهم الدليل، وإنه لمن المعلوم من الدين بالضرورة أنه لا يجوز لأحد أن يُقدم رأيا لأحد على كلام الله ورسوله؛ بل من اعتقد جواز ذلك فقد خلع عنه رداء الإسلام، ونصوص الأئمة الأعلام معلومة في هذا الباب.. ولكن الإشكال الذي يحتاج إلى جواب هنا هو: ما الفرق بين الدليل وبين فهم الدليل؟ ومن يحق له أن يفهم الدليل وينزله على الواقعة؟ عندما تسأل شخصا سؤالا فقهيا فيجيبك جوابا ما، ويعضد جوابه بآية أو حديث؛ فإنه يجيبك بما فهمه هو من الآية أو الحديث.. فالدليل ليس هو الآية ولا الحديث، وإنما ما فهمه هذا الشخص من هذه الآية أو ذلك الحديث.. ولذلك نجد الفقهاء يختلفون في المسألة الواحدة ويحتجون فيها بنفس الآية أو الحديث، وكل يفهم منهما خلاف ما فهمه الآخرون.. وعندما تسأل شخصا آخر نفس السؤال؛ فيجيبك بقول مالك أو سحنون أو خليل، فليس معنى هذا أنه لم يذكر لك دليلا، أو أنه قدم قول مالك وسحنون وخليل على قول الله ورسوله.. وإنما أجابك بما فهمه مالك أو سحنون من الآية المتعلقة بمسألتك تلك.. ولك أن تحكم بعد هذا: أيهما أقرب للصواب؟ الذي أجابك بفهمه هو للآية والحديث، أم الذي أجابك بفهوم العلماء الكبار مثل مالك؟ ولا يغرنك ما يُشوش به هنا بعضهم من أن هؤلاء العلماء يُقدمون كلام الرجال على كلام الله ورسوله.. اللهم أذا كنت من فصيلة الذين يقولون عن هؤلاء الجبال: هم رجال ونحن رجال! إن جواب الفقيه الطاهري رحمه الله الذي سبق هو نفس الجواب الذي كان يذكره لي والدي وأصحابه.. ومعناه أن الآية والحديث يحتملان النسخ والتقييد والتخصيص ووجود المعرض لهما.. فهل أنت مؤهل لجمع هذه الأدلة والترجيح بينها؟ إنني أستغفر الله كلما تذكرت كيف كنت أسمح لنفسي بالتطاول على الأدلة والترجيح بينها وأنا لم أقرأ سطرا واحدا في علم أصول الفقه، ولا ختمت متنا صغيرا في الفقه.. ورأيت بأم عيني شبابا يستدلون ويُرجحون وهم لا يستطيعون قراءة الحديث قراءة سليمة من اللحن، وشجعهم على ذلك تلك الفوضى الخلاقة التي تنتشر داخل التيارات السلفية بكل أطيافها، ولعل الله ييسر الحديث في هذا الأمر لاحقا. بعد سنتين من سماعي لتلك الخطبة قدر الله لي أن أستمع لشريط آخر مسجل للشيخ أبي إسحاق الحويني حفظه الله تعالى، ذكر فيه مسألة اختلاف المطالع ومذاهب العلماء فيها وأدلتهم، ورجح القول بوجوب توحيد المطالع، وأنه إذا رؤي الهلال في أي بلد من البلدان الإسلامية يجب على كل البلاد الأخرى ما يجب على ذلك البلد من صوم أو فطر.. ولكنه قال كلاما حكيما بعد ذلك أزال ما كان وقع في صدري من ضيق بسبب تلك الخطبة المشؤومة؛ فقد ذكر أن العلماء الذين ذهبوا إلى القول بوجوب توحيد الصيام والفطر كان مما قصدوا إليه توحيد الأمة الإسلامية في هذا الباب، وحيث إن الأمة الإسلامية اليوم متفرقة ومتشرذمة، ولا يملك العلماء أمر توحيدها؛ فإن الحكمة تقتضي أن نتوحد داخل البلد الواحد، ولا بأس بالعمل بالرأي المرجوح تحقيقا لمقصد عظيم، وهو توحيد البلد الواحد، وتوحيد الأسرة الواحدة.. ذلك أن العمل بالرأي الراجح لا يحقق المقصد العام من توحيد الأمة الإسلامية، ويؤدي إلى زرع الفرقة والشقاق بين أفراد الدولة الواحدة؛ بل وبين أفراد الأسرة الواحدة.. فانظر إلى الفرق الشاسع بين كلام العلماء وبين كلام الجهلاء.. إن هذا الذي ذكره الشيخ الحويني من زرع للفرقة والشقاق بين أفراد المجتمع الواحد، وبين أفراد الأسرة الواحدة كان واقعا رأيته بعيني وعشته بنفسي، وعانيت منه كثيرا، ويشهد الله أنني ما كنت أفعل ذلك مكابرة ولا عنادا، وإنما أفعله تدينا وتقربا إلى الله تعالى بما كنت أعتقد أنه حق مطلق يأثم كل من خالفه.. ولذلك فأنا اليوم بحمد الله تعالى من أشد الناس التماسا للأعذار عندما أجد من يفعل مثلما كنت أفعل، ولا تعجبوا من وقوع مثل هذا؛ فالساحة أُخليت من العلماء الربانيين الصادقين الذين يثق الناس بهم، والمنابر أُنزل من فوقها فرسانها الحقيقيون، والمساجد أقفرت من وجود الكراسي العلمية، وحل محلها نُتف من دروس الوعظ والإرشاد يؤديها وعاظ أغلبهم لا يميز بين يديه اليمنى عن اليسرى، ولا يعرف الضمة من الكسرة.. فمن يُرشد الشباب الحيارى، وينقذ الغرقى في بحار الشبهات والشهوات؟ إنني لا زلت أذكر يوم ذلك العيد، وقد اغتسلنا ولبسنا الجديد، وتجمعنا في بيت أحد الأصدقاء، وكنا مجموعة من الشباب لا نتجاوز العشرين؛ فقام منا خطيب صلى بنا صلاة العيد وخطب بعدها خطبة قصيرة ذكرنا فيها بالصبر والقبض على ديننا كقابض على جمر، وهنأنا بالعيد وباختيار الله لنا لنكون من المهتدين إلى معرفة الحق، ثم انصرفنا على أشق إحساس وآلمه في يوم عيدنا؛ إذ سرعان ما ذهب عنا ما كنا نجده من فرح وسرور، وحل محله الحزن والألم، وخلا الجو من المتعة، وأضحى مثيرا للضجر والسأم.. فكيف نحتفل بالعيد والناس لا زالوا في صوم؟ وتخيل حالك وأنت وحدك في البيت طاعم ومن حولك صائمون.. تُخفي عنهم حالك حتى لا تُعرض نفسك للسخرية أو الاحتقار.. وعندما يُصبح الناس في يوم عيدهم فرحين مستبشرين، ومكبرين ومهللين، وحامدين لله شاكرين، تُصبح أمن نائما من الشاخرين! فيا أيها الحبيب: خذها مني نصيحة خفيفة الوزن، غالية الثمن، ثقيلة النفع: الزم غرز العلماء، ولا تبرم أمرا لنفسك إلا بمشاورتهم ومراجعتهم في كل صغيرة وكبيرة، وابحث عن الربانيين منهم الراسخين في العلم؛ فإذا ظفرت بهم فعض عليهم بالنواجذ.