عندما نكتب "عبقرية اللغة الأمازيغية"، فليس ذلك فقط من باب التبجح الذاتي الذي يبديه المرء تجاه لغته القومية كتعبير عن عشقه لها واعتزازه بها. فكل لغة هي في الحقيقة ظاهرة عبقرية في حد ذاتها. ومظاهر هذه العبقرية قد تختلف من لغة إلى أخرى: فقد تتجلى في المرونة الاشتقاقية لهذه اللغة، أو في نظامها النحوي والتركيبي، أو في قدرتها على نحت الألفاظ والمصطلحات الجديدة وعلى التطور والتكيف، أو في كفاءتها وإمكاناتها التجريدية أو الشعرية أو الخطابية، وغير ذلك من مواطن هذه العبقرية وتجسيداتها التي لا يمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلا عبر الدراسات اللسانية والنحوية المقارنة لهذه اللغة. سأحلل في هذا الموضوع أحد مظاهر عبقرية اللغة الأمازيغية التي ظل استعمالها شفويا لعشرات القرون. هذا الجانب من عبقرية الأمازيغية يستأثر بالاهتمام ويشدّ الانتباه لأنه، كما يبدو، يكاد يكون ميزة خاصة بالأمازيغية، ويشكل جوهر عبقريتها التي تنفرد بها عن الكثير من اللغات: إنه الفعل أو النظام الصرفي في اللغة الأمازيغية. لماذا لم تمت الأمازيغية؟ لا تظهر أهمية هذا السؤال ووجاهته إلا عندما نعرف أن لغات كثيرة، كانت قوية ونافذة وحاملة لحضارة وثقافة، ماتت وانقرضت بعد أن تعرضت لغزو عسكري وثقافي ولغوي أجنبي، مثل اللغات القديمة لحضارات ما بين النهرين، واللغة المصرية القديمة، واللغات الأمريكية التي كادت أن تختفي نهائيا بعد أربعة قرون فقط من الهيمنة الأوروبية على القارة الأمريكية. هذا في الوقت الذي بقيت فيه اللغة الأمازيغية حية صامدة ومتداولة، رغم أنها تعرضت هي كذلك للغزو والاستعمار والهيمنة الأجنبية، ولمدة ثلاثة آلاف سنة تقريبا. فكيف يمكن للغة كالأمازيغية، لا جيش لها ولا سلطة ولا دولة دائمة ولا كتابة ولا كتاب مقدس، أن تصمد وتحافظ على وجودها وبقائها؟ يمكن تفسير صمود الأمازيغية بحيويتها الشفوية وطبيعة النظام الاجتماعي الأمازيغي، وبما يتميز به الإنسان الأمازيغي من ارتباط شديد بأرضه، وبأسباب جغرافية كالجبال والصحاري التي تعتبر معاقل طبيعية للأمازيغية تمتنع عن جيوش المستعمر، وبالتالي تبقى في منأى عن كل غزو لغوي وثقافي. في الحقيقة، كل هذه العوامل، التي يمكن استحضارها لتفسير صمود اللغة الأمازيغية، توفرت حتى لدى الشعوب الأخرى كالتي أشرنا إليها. وعلى الرغم من ذلك انقرضت لغاتها ولم تستطع هذه العوامل منعها من الموت أمام زحف لغة وثقافة الحضارة الأجنبية الغازية. وإذا كان لهذه العوامل من دور جزئي في الحفاظ على الأمازيغية، فإن هذا الدور لم يكن ممكنا إلا بوجود عامل رئيسي حاسم. فما هو هذا العامل، أو ما هو سر صمود ومناعة اللغة الأمازيغية؟ إنه النظام الفعلي والصرفي للغة الأمازيغية. وهذا ما سنشرحه بعد أن نبين وظيفة ودور هذا النظام في اللغة بصفة عامة. الفعل في اللغة: يعتبر الفعل هو "دينامو" اللغة وقلبها ومحركها. لهذا فإنه يصعب جدا أن نتواصل بلغة ما، حتى ولو كنا نفهم كلمات معجمها اللغوي، إذا كنا لا نعرف تصريف أفعالها. وعلى العكس من ذلك يسهل التواصل بأية لغة بمجرد ما نعرف استعمال أفعالها، أي تصريفها حسب الأزمنة والأشخاص. وهكذا فإن الطفل، رغم أنه يبدأ في تعلم ومعرفة أسماء الأشياء مع عامه الثاني، إلا أنه لن يكون قادرا على التكلم والتواصل بلغة أمه إلا عندما يصبح متمكنا من استعمال الأفعال وتصريفها ابتداء من السنة الرابعة بصفة عامة. كل هذا يؤكد أن للفعل، وما يرتبط به من نظام للصرف، الدور الأول والمركزي في اللغة. فعندما نقول بأن لغة ما لا تزال حية متداولة، فمعنى هذا أن نظامها الفعلي والصرفي لا زال مستعملا في التواصل والتخاطب بتلك اللغة، حتى وإن كان جزء من معجمها لا ينتمي أصلا إلى نفس اللغة. كما أن لغة ما تصبح ميتة عندما لا يعود نظامها الفعلي والصرفي مستعملا في التواصل والتخاطب، حتى ولو أن جزءا من معجمها اللغوي الألفاظ والكلمات يستمر حيا ومستعملا في لغات أخرى، مثل اللاتينية التي ماتت لأن نظامها الفعلي والصرفي لم يعد مستعملا في التواصل الشفوي، وهذا على الرغم من أن الألفاظ ذات الأصل اللاتيني لا تزال تشكل الجزء الأكبر من معجم عدد من اللغات الأوروبية كالفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية... يشكل إذن النظام الفعلي والصرفي للغة ما نظامَ المناعة لهذه اللغة. إذا زالت هذه المناعة، ماتت معها تلك اللغة، أي مات نظامها الفعلي والصرفي، وليس معجمها اللغوي. وهو ما يعني أنها لم تعد تستعمل في التخاطب والتواصل الذي يستخدم ذلك النظام الفعلي والصرفي. ولأن الفعل يشكّل نظامَ مناعة للغة ما، فإنه من المستحيل أن تصرّف أفعال لغة ما طبقا لقواعد النظام الصرفي الخاصة بلغة أخرى: فلا يمكن مثلا أن نصرّف الفعل الفرنسي Commencer عربيا كأن نقول: أنا أكومنسي، أنتَ تكومنسي، أنتِ تكومنسين… ولا أن نصرّف الفعل العربي "بدأ" فرنسيا كأن نقول: Je abdao, tu tabdao, vous tabdauna…. وإذا كنا لا نعرف ما مدى صحة هذا المبدأ بالنسبة للغات أخرى نجهل كل شيء عن نظامها النحوي والصرفي كاللغات الأسيوية مثلا، فهذا لا يمنع من الجزم بأن هذا المبدأ قاعدة عامة تجعل من كل نظام فعلي وصرفي للغة ما نظامَ مناعة خاصا بتلك اللغة، يرفض كلَّ فعل أجنبي عن هذا النظام كما رأينا في المثال المتعلق بالعربية والفرنسية. كيف تموت اللغات الشفوية؟ إن اللغات الشفوية التي لم تعرف بعدُ الكتابة، تموت وتنقرض لسببين اثنين: إما بموت أهلها ومستعمليها، فلا يعود أحد ممن يجيدها حيا يمارسها ويتحدث بها. وإما بموتها هي وانقراضها. وإذا كان السبب الأول ممكنا من الناحية النظرية والمبدئية، فإنه من الناحية العملية والواقعية والتاريخية مستبعد الوقوع: فلم يسبق لشعب أن أبيد بكامله دفعة واحدة وفي لحظة واحدة. فيكفي أن تكون هناك بضع أسر من ذلك الشعب تتكلم لغته لتكون تلك اللغة لا تزال حية وبإمكانها أن تعود إلى ما كانت عليه من انتشار ومكانة إذا وجدت ظروفا مناسبة. يبقى إذن أن السبب الأول لموت لغة ما هو كفّ مستعمليها الأصليين عن الاستمرار في استعمالها والتحدث بها، وليس موتهم المادي واختفاؤهم من الوجود، وذلك بالتخلي عنها واستبدالها بلغة أخرى. ولماذا يتخلى شعب عن لغته الشفوية ويستبدلها بلغة أخرى أجنبية؟ يرجع ذلك في الغالب إلى أسباب سياسية تُنتِج بدورها أسبابا أخرى اقتصادية ودينية وثقافية... فالتاريخ يثبت لنا أن كل الشعوب التي أضاعت لغتها، حصل لها ذلك نتيجة غزو عسكري أعقبه غزو ثقافي ولغوي وديني. فبما أن الغزاة، بحكم غلبتهم وانتصارهم، يصبحون أصحاب القرار والسلطة والسيادة، فكذلك لغتهم تصبح ذات سلطة وسيادة، فتُفرض أولا في الكتابة والمعاملات الرسمية، قبل أن تبدأ في تنحية اللغة الأصلية، المستعملة شفويا، تدريجيا وشيئا فشيئا إلى أن تختفي هذه الأخيرة نهائيا من الاستعمال في التخاطب والتواصل. ويتم ذلك باختراق اللغة الغازية الجديدة لمعجم اللغة الشفوية الأصلية، الذي يستمر في التناقص والتراجع إلى أن لا يبقى منه شيء يستعمل ويتداول في التخاطب. ومع ذلك فإن غزو الألفاظ الجديدة لمعجم اللغة الأصلية لا يعني موت هذه الأخيرة ونهايتها، ما دام نظامها الفعلي والصرفي والتركيبي لا زال مستعملا في التعبير والتواصل، الشفوي دائما، ولو بمفردات أجنبية عن قاموس اللغة الأصلية للبلد. لهذا فإن الضربة القاضية والقاتلة لهذه اللغة الشفوية، تكون عندما يحلّ النظام الفعلي والصرفي للغة الأجنبية محل النظام الفعلي والصرفي للغة الأصلية، فتصبح الأفعال مستعملة ومصرّفة طبقا لقواعد اللغة الأجنبية الدخيلة. وهو ما يعني، بكل بساطة، استعمال هذه اللغة الدخيلة في التخاطب والتواصل بين السكان الأصليين. وهنا نكون أمام موت اللغة الأصلية حتى ولو استمرت كلماتها مستعملة ومتداولة، لأن اللغة ليست هي الكلمات والألفاظ، بل هي النظام الفعلي والصرفي والنحوي والتركيبي كما هو معلوم. لنتأمل المثال التالي: "أريد كافي نوار" (Café noir). فرغم أن هذه الجملة تتكون من كلمة عربية واحدة (أريد) وكلمتين فرنسيتين، إلا أنها جملة عربية لأن نظامها الفعلي والصرفي عربي. وإذا قلنا: "قهوة سوداءJe veux "، فالجملة تكون فرنسية لأن نظامها الفعلي والصرفي فرنسي. هكذا يشكّل إذن النظام الصرفي "دينامو" اللغة وقلبها ومحركها، كما سبق أن قلت، وبالتالي فاللغة باقية ما بقي هذا "الدينامو" يعمل ويشتغل، وتموت وتنقرض عندما يتوقف هذا "الدينامو" عن أداء مهامه ووظائفه، ويستبدل بنظام صرفي للغة أخرى دخيلة. لكن كيف يُنحّى النظام الصرفي للغة شفوية أصلية، ويحل محله النظام الصرفي للغة أجنبية؟ أي كيف تموت اللغة الأصلية وتستبدل بلغة أخرى أجنبية تستعمل مكانها في التخاطب بين الناس؟ عندما تغزو أفعال اللغة الأجنبية، الغالبة والقوية، اللغةَ الأصلية المغلوبة والضعيفة، فإن رد فعل هذه الأخيرة يكون كالتالي: تحاول المقاومة وقطع الطريق عن دخول تلك الأفعال إلى لغتها. لكنها، بحكم أنها لغة مغلوبة وفاقدة للكتابة وللسلطة السياسية والدينية، فإن مقاومتها لا تجدي، إذ مع استمرار انتشار اللغة الأجنبية، الغالبة والقوية، تتغلغل أفعالها داخل بنية اللغة الوطنية الضعيفة والمغلوبة. وقد تحاول ضم تلك الأفعال، ذات المصدر الأجنبي، إلى نظامها الصرفي واللغوي لتستعملها وتصرّفها كما لو أنها أفعال تنتمي إلى نظامها اللغوي الأصيل، لكن نظامها الصرفي يرفض هذا الحل لأن كل نظام صرفي هو بمثابة نظام للمناعة خاص بهذه اللغة أو تلك، كما سبق أن شرحنا. وبالتالي فلا تقبل هذه اللغةُ الأصلية الأفعالَ التي ليست من صلب نظامها اللغوي. فلا يبقى أمام ضعف اللغة المحلية وافتقارها إلى الكتابة والسلطة السياسية، إلا أن تستسلم لتغلغل النظام الصرفي للغة الأجنبية الغالبة داخل نظام التواصل الشفوي للغة السكان الأصليين، إلى أن يختفي نهائيا النظام الصرفي للغة المحلية. واختفاؤه يعني موت هذه اللغة المحلية وانقراضها، لأن استعمال نظام فعلي وصرفي للغة أجنبية في التواصل والتخاطب، يعني، بكل بساطة كما سبقت الإشارة، استعمال هذه اللغة الأجنبية في التخاطب والتواصل. وبما أن اللغة المحلية المعنية هي لغة شفوية وتخاطبية، فإن عدم استعمالها في التخاطب والتواصل الشفوي يعجّل بموتها ونهايتها. سر خلود وصمود اللغة الأمازيغية: أما اللغة الأمازيغية، فلا تنطبق عليها هذه السيرورة التي تؤدي حتما إلى تدمير اللغة الغالبة للغة الشفوية المغلوبة والقضاء عليها، ذلك لأن النظام الفعلي والصرفي للأمازيغية (وكذلك الدارجة المغربية لكون نظامها التركيبي أمازيغيا) يقبل بسهولة مدهشة إدماج الأفعال الأجنبية وضمها إليه، واستعمالها وتصريفها كما لو كانت أفعالا أمازيغية أصيلة، بدون أي نشاز أو استثقال قد يدلان على أن الفعل غير أمازيغي. وهذه خاصية عجيبة تميز اللغة الأمازيغية، وتشكل عبقريتها التي تنفرد بها عن الكثير حتى لا نقول كل من لغات العالم، كما سبقت الإشارة، خصوصا أنه ليس لهذه الخاصية نظير في لغات عالمية نعرف نظامها النحوي والصرفي كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والعربية. والذي يهمنا من هذه الخاصية، العجيبة كما قلت، هو نتائجها الخطيرة، المتمثلة في بقاء الأمازيغية وصمودها وخلودها، والتي (النتائج) تجيب عن السؤال الذي سبق أن طرحناه: ما هو سر صمود ومناعة الأمازيغية؟ لنأخذ كمثال الفعلين العربيين (بدأ، خدَم)، ومقابلهما الفرنسيين (Commencer, travailler)، ونستعملهما في الجملتين الأمازيغيتين التاليتين: "bdiv ad xdmv بديغ أد خدمك" (بدأت أعمل، أشتغل)، "kumansiv ad trabayiv كومنسيك أد ترابييغ" (بدأت أعمل، أشتغل). فالجملتان تتكونان من أفعال عربية (بدأ وخدم) في الأولى، وفرنسية (Commencer, travailler) في الثانية، من حيث الأصل اللغوي والمعجمي لهذه الأفعال. لكن لا أحد سيقول، ممن يعرف اللغة الأمازيغية، وكذلك ممن يجيد العربية والفرنسية، أننا نتكلم في هاتين الجملتين بالعربية والفرنسية وليس بالأمازيغية القحة من الناحية النحوية والصرفية. بل حتى الذي لا يفهم، من مستعملي الأمازيغية، معنى الجملة الثانية ذات الكلمات الفرنسية، فإنه لا يشك، مع ذلك، في أن تلك الجملة لغة أمازيغية وليست لغة أخرى. فرغم أن هذه الأفعال هي في أصلها أجنبية وليست أمازيغية، إلا أنها تصبح أمازيغية بمجرد ما يتقبلها ويتبناها نظام المناعة الخاص بالأمازيغية، وتستعمل وتصرّف طبقا لقواعد النظام الصرفي الأمازيغي، لا فرق بينها وبين أي فعل أمازيغي أصيل. وهكذا مثلا، إذا كان الفعلان العربيان، "بدأ" و"خدم"، قد دخلا إلى الأمازيغية وأقصيا، نتيجة انتشار العربية وغلبتها، الأفعال الأمازيغية التي تؤدي نفس المعنى (ammë, ssnti - skr, qdc, أمّر، سّنتي سكر، قدش)، والتي لم تعد تستعمل في التواصل اليومي بالأمازيغية، فإن ذلك لم ينل شيئا ولم ينقص شيئا من اللغة الأمازيغية، ما دام أن النظام الصرفي الأمازيغي تمثّل هذين الفعلين العربيين واستدمجهما وتبناهما وأصبح يصرّفهما طبقا لقواعد الصرف الخاصة بالأمازيغية ككل الأفعال الأمازيغية الأخرى: فنحن لا نقول في الأمازيغية: "بدأتَ تخدم، بدأتم تخدمون، بدأتن تخدمن…"، بل نقول: "tbdid ad txdmd, tbdam ad txdmem, tbdant ad txdmnt تبديد أد تخدمد، تبدام أد تخدمم، تبدانت أد تخدمنت"، وهو كلام أمازيغي فصيح لا أثر فيه للعربية رغم أن الأصل المعجمي للفعلين عربي. وكذلك بالنسبة للجملة الأخرى ذات الأفعال الفرنسية: "kumansiv ad trabayiv كومانسيغ أد تراباييغ"، فهي كلام أمازيغي سليم رغم أن الفعلين فرنسيي الأصل. وقس على ذلك بالنسبة لعشرات من الأفعال العربية أو الفرنسية أو من لغات أخرى، والتي تستعمل يوميا في الأمازيغية دون أن يشعر مستعملوها بأنها أفعال غير أمازيغية، أو يخامرهم شك في أنهم يتكلمون بغير الأمازيغية. بل هناك أفعال تبدو أمازيغية حتى في أصلها المعجمي والاشتقاقي، ولا يكتشف أصلَها العربي إلا من له إلمام عميق بالمعجم الأمازيغي وأصوله اللغوية، مثل: "صلى"، "صام" ومصدريهما: "çal, çum, tçallit, açummi زالْ، زوم، تزالّيت، أزومّي". وكما أن هناك أفعالا عربية اتخذت مكانها داخل المعجم الأمازيغي لا تمييز بينها وبين الأفعال الأمازيغية الأصيلة، بفضل الخاصية العجيبة للنظام الصرفي الأمازيغي، فكذلك لا شك أن هناك أفعالا وكلمات كثيرة ذات أصول ترجع إلى كل اللغات الأجنبية التي عرفتها بلاد تامازغا، كالبونيقية والفينيقية. لكننا لا نستطيع أن نتعرف على أصلها غير الأمازيغي لأن اللغات التي تنتمي إليها هذه الأفعال والكلمات ماتت وانقرضت. وكمثال على ذلك كلمات " afllus أفلوس" (صغير الدجاج)، "urtu أرتو" (شجرة التين)، "asnus أسنوس" (جحش)، والتي لا زالت تستعمل يوميا في الأمازيغية دون أن يشك أحد في أصالتها الأمازيغية الخالصة، إلا من يجيد اللاتينية ويعرف أن تلك الكلمات الفاظ لاتينية أصلية: ăsĭnus (حمار)، Hortus (الحديقة في اللاتينية، ثم أصبحت تطلق في الأمازيغية على شجرة التين التي تمتلئ بها حدائق بلاد تامازغا، وذلك من باب تسمية الشيء باسم جزء منه)، Pullus (صغير الدجاج = كتكوت). وما يصدق على العربية، أو اللغات الأخرى التي سبق لها أن غزت شمال إفريقيا، يصدق أيضا على الفرنسية والإسبانية: فالأفعال الفرنسية الممزّغة كثيرة بمنطقة القبائل بالجزائر حيث دام الاستعمار الفرنسي مدة أطول من التي دامها بالمغرب. وهكذا نجد مثلا من يستعمل فعل"Finir" الفرنسي بدل "كمل" ذي الأصل العربي، فيقول: "Oad ur finiv عاد أور فينيغ" (لم أتمم بعدُ)، بدل "oad ur kmlv عاد أور كملغ" الأكثر انتشارا. وبشمال المغرب، هناك أسر تستعمل أفعالا ممزّغة ذات أصل إسباني مثل trabajar (اشتغل) و"Terminar" (أكمل، أنهى)، فتسمع: "ad rapv ad trabaxarv أد راحغ أد تراباخارغ" (سأذهب إلى العمل)؛ "oad ur itirminar عاد أور إيتيرمينار" (لم ينته بعدُ). وهناك فعل إسباني دخل حديثا إلى الأمازيغية، مرتبط بظاهرة "لحريگ" (الهجرة السرية). وهو فعل " kular كولار" الذي يعني "تسلل". فنسمع: "kularn vur mritc كولارن غور مريتش" (تسللوا إلى مليلية). وقد تبنت الأمازيغية في السنين الأخيرة الفعل الإنجليزي المرتبط بتكنولوجيا الإعلاميات، وهو فعل "To format"، الذي يعني محو كل ما يتضمنه القرص الصلب وإعداده من جديد لتلقي المعطيات. وهكذا نسمع داخل محلات إصلاح الحواسيب: "is tfurmatid ddisk nni? إيس تفرماتيد دّيسك نّي؟" (هل هيأت ذلك القرص الصلب؟). وهذا يُظهر أن الأمازيغية، نظرا لمرونة نظامها الصرفي، تستطيع اقتباس لغة التكنولوجيا وتكييفها مع نظامها اللغوي بسهولة مدهشة كما سبقت الإشارة قد لا تتوفر في لغات أخرى. كل هذا يبيّن أن أية لغة أجنبية دخلت إلى بلاد تامازغا، مهما كانت قوية وغالبة ونافذة ومهيمنة، فإنها لا تستطيع أن تقضي على اللغة الأمازيغية كلغة تواصل وتخاطب، كما حصل للغات الأخرى، وذلك بسبب ما يتميز به النظام الصرفي للأمازيغية من مرونة وقدرة على استيعاب الدخيل واحتوائه وتمزيغه. فبدل أن تدمر اللغات الأجنبية الغازية اللغة الأمازيغية، فإن هذه الأخيرة تدجّنها وتستفيد منها بجعلها جزءا من قاموسها ومعجمها. وقد تموت هذه اللغات كما حدث للفينيقية واللاتينية ويستمر جزء من معجمها تستعمله الأمازيغية بعد تمزيغه وتكييفه مع قواعدها النحوية والصرفية. بل إن الأمازيغية تأخذ بعض المفردات من اللغة الأجنبية فتعطيها وظائف وخصائص ودلالات جديدة لا تتوفر عليها في لغتها الأصل: فاللفظ العربي "القرد"، الذي أصبحت مناطق أمازيغية كثيرة تستعمله بدل الاسم الأمازيغي "abavus, ibki, azoäuä "أباغوس، إبكي، أزعظوظ"، والذي (القرد) هو اسم لا فعل له في العربية، اشتقت منه الأمازيغية فعلا لازما ومتعديا، فنقول: * " iqqurrd يقّورد" ، أي جلس كالقرد، جلس جلسة القرد؛ * "isqurrd it إسقورد يت"، أي أجلسه جلسة القرد؛ * "itqrurud إيتقرورود"، أي يمشي مشية القرد. ويقصد به في الغالب العجزة والمسنين الذي يمشون منحنين على عصاهم كما يفعل القرد عندما يسير متكئا على قائمتيه الأماميتين. كلمة "حجر"، التي لا فعل لها في العربية يفيد "رمى بالحجارة" (حجّر وتحجّر لهما معنى آخر)، تستعمل في الأمازيغية فعلا، فنقول: " ipjjar it إحجار يت"، أي رماه بالحجارة. والعجيب أن الأمازيغية تستعمل فعل "ipjjar إحجّار" (رمى بالحجارة)، والذي هو عربي في اشتقاقه لكنه لا يوجد كفعل في العربية، ولا تستعمل الاسم "حجر" المتداول كاسم في العربية، محتفظة باستعمال الاسم الأمازيغي "açru أزرو" (الحجارة). كذلك فعل "نقّط" العربي، تستعمله الأمازيغية بدلالة جديدة لا توجد في العربية، وذلك عندما نقول بالأمازيغية: " ançar itnqqï أنزار إتنقّط"، أي "المطر ينزل قطرات". للفعل العربي "ذَرَعَ"، المشتق من كلمة "ذراع" (ما بين المرفق والرسغ)، معانٍ كثيرة كما هو مفصل في "لسان العرب". لكن لا أحد هذه المعاني يفيد "عانق"، أي وضع شخص ليديه، بذراعيهما، حول عنق شخص آخر ليضمّه إليه تعبيرا عن محبته له وحفاوته به. وبهذا المعنى الجديد، الذي لا يوجد في العربية، تستعمل الأمازيغية فعل "darro" ذارّع"، المصاغ من كلمة "ذراع" العربية. وهكذا نقول بالأمازيغية: * "idarro as" إيذارّع اس"، أي عانقه. * "mdarraon "مذارّعن"، أي تعانقا أو تعانقوا (لا يوجد مثنى في الأمازيغية ولا في الدارجة المغربية). وهنا نلاحظ أن الأمازيغية صاغت من هذه الكلمة (ذراع)، ذات الأصل العربي، فعل مشاركة (من أفعال المشاركة) هو "mdarro مذارّع". وهذا دليل وتأكيد على أن هذا الفعل، رغم أصله المعجمي العربي، لم يبق عربيا لا في معناه ولا في شكله، بل أصبح يستعمل كفعل أمازيغي "أصيل" يخضع لقواعد اللغة الأمازيغية الخاصة بأفعال المشاركة. والأمثلة كثيرة على هذا التعديل الذي تدخله الأمازيغية على الكلمات والأفعال الأجنبية الممزغة، لتعطيها وظائف وخصائص ومعاني جديدة تجعلها أكثر غنى وأكثر دلالة مما كانت عليه في لغتها الأصلية. الأمازيغية ليست لغة بجذرين فقط مثل العربية: فلأن العربية ذات جذرين فقط، الثلاثي والرباعي (وهو قليل جدا ليبقى الأصل هو الثلاثي)، فهي لغة مقيدة في قدرتها على ضم الألفاظ والأفعال الأجنبية واستدماجها، لأنها، بحكم حصر اشتقاقاتها في الثلاثي والرباعي، لا تقبل من الجديد إلا ما يتطابق مع جذريها الثلاثي والرباعي. لهذا فإن الألفاظ الأجنبية التي دخلت إلى العربية بقيت أجنبية، ولم تستطع أن تتعرّب لتصبح كما لو أنها مفردات عربية، لأن قاعدة حصر الجذور في الثلاثي والرباعي ترفض هذه الألفاظ، مثل: صولجان، فردوس، سلسبيل، زمهرير، ديموقراطية، برلمان، برنامج، إيديولوجيا…إلخ. كما أن بعض هذه الأفعال الأجنبية، التي اضطرت العربية إلى استعمالها، بقيت "أجنبيتها" ظاهرة وواضحة مثل فعل "دمقرط"، الذي هو شيء أجنبي عن العربية لأنه فعل خماسي يخالف الجذور العربية التي تتكوّن من الثلاثي في الغالب والقليل من الرباعي، كما سبقت الإشارة، ولا مكان فيها للخماسي مثل "دمقرط" و"برنمج" الذي حذف نونه ليستقيم مع النظام الصرفي للعربية (برمج)، لكن مع الاستمرار في استعمال اسم "برنامج" بعد الاحتفاظ على النون الذي هو حرف أصلي في هذه الكلمة غير العربية. وهذا خرق لقواعد اللغة العربية، فرضه عدم انسجام هذا اللفظ الأجنبي مع هذه القواعد، التي تقضي بأن الحروف الأصلية لجذر الكلمة يحتفظ على عددها كاملا في الاسم والفعل المصاغين من هذا الجذر. أما الأمازيغية، فإنها تمزّغ الأسماء بنفس السهولة التي تمزغ بها الأفعال. فيكفي أن نضع للاسم العلامة الأمازيغية للتأنيث (حرف التاء) أو للتذكير (حرف أ) ليصبح اسما أمازيغيا مؤنثا أو مذكرا، يسري عليه ما يسري على كل اسم أمازيغي من قواعد اللغة الأمازيغية، مثل: "Tamdint تامدينت" (المدينة)؛ "taktabt تاكتابت" (الكتاب، وهي التسمية تاكتابت المستعملة بالقبائل الجزائرية انظر "Dictionnaire de tamazight", coordination Azedine Tagamount, Berti éditions, Alger 1995)، "Tadyyulujit تاديّولوجيت" (الإيديولوجيا)؛ " Tadimuqratit تاديموقراطيت" (الديموقراطية)؛ " Taïumubilit تاطوموبيليت" (السيارة)؛ " Amsmar أمسمار" (المسمار، لا يبدو أن الكلمة عربية في أصلها)؛ "Amkan أمكان " (المكان)؛ " Axddam أخدّام" (الخادم، العامل)؛ " Anjjar أنجّار" (النجار)؛ " Atraktur أتراكتور" (الجرار بالفرنسية)؛ "Aäbib أضبيب" (الطبيب)… إلخ. فهذه الألفاظ، ذات الأصل الأجنبي، أصبحت أمازيغية تخضع لما تخضع له باقي الأسماء الأمازيغية من قواعد التذكير والتأنيث والجمع. هذا هو سر صمود اللغة الأمازيغية لمدة ثلاثة آلاف سنة في وجه اللغات التي غزت تامازغا حتى مات الكثير من تلك اللغات، واستمرت الأمازيغية حية متداولة تستعمل في التخاطب اليومي بين السكان. إنها حقا ظاهرة فريدة. فإذا كانت الأمازيغية لغة بلا سلاح، وبلا جيش، وبلا سلطة، وبلا كتاب مقدس، فإن سلاحها وجيشها وسلطتها وكتابها المقدس هو خصائصها النحوية والصرفية التي تجعل منها اللغة/المعجزة، اللغة الخالدة التي لا تُقهر ولا تُهزم ولا تفنى ولا تموت. فإذا وجدت هذه اللغة المدرسةَ والعناية والإرادة السياسية الجدية، فإنها في ظرف عشرين سنة أي المدة التي يتطلبها إعداد المتخرجين الذين يلتحقون اليوم بالمدرسة ستصبح من اللغات المنافسة للغات التي لها اليوم الصدارة والهيمنة. ويبدو أن خصوم الأمازيغية يعرفون هذه الحقيقة، لهذا يعرقلون مشروع تدريس الأمازيغية، لأنهم يعرفون أنه إذا تكافأت الفرص بينها وبين العربية والفرنسية، فإنها ستتجاوزهما وتتفوق عليهما في ظرف وجيز. الدليل الآخر على أمازيغية الدارجة المغربية: هذه القدرة على ضم وهضم الألفاظ والأفعال الأجنبية وتمزيغها بشكل يجعل منها جزءا كاملا من النظام اللغوي الأمازيغي، التي تتوفر عليها الأمازيغية وتفتقدها العربية، موجودة ومعروفة أيضا في الدارجة المغربية. الشيء الذي يعطي لها هوية خاصة تجعلها مختلفة جذريا عن العربية التي تفتقر إلى هذه الخاصية. لنأخذ كمثال الأفعال الفرنسية "Chanter" (غنّى)؛ و"Tirer" (أطلق النار)؛ و"Finir" (أتم، أنهى)؛ و"Commencer" (بدأ). فسنلاحظ أنه يمكن استعمالها بسهولة في الدارجة المغربية كما لو كانت أفعالا تنتمي أصلا إلى هذه اللغة. فنقول: "كَنْشنْطِي" (إنني أغني)، "راهم كَيْشنْطِيوْ" (إنهم يغنون)، "شنْطِي لْينَا شي غنية ديال رويشة" (غنّ لنا إحدى أغاني رويشة)... "تيرا عليه بالكابوس" (أطلق عليه النار بالمسدس)، "هذاك العسكري ما يعرفش إتيري مزيان" (ذلك الجندي لا يعرف إطلاق النار بشكل جيد)... "فيني ذيك الخدمة دغيا" (أنهِ ذلك العمل بسرعة)، "راهم باقي ما فيناوش" (لم ينتهوا بعد)... "كومانسيت فيه مع الصبح" (بدأته مع الصباح)، "كمانساو لمتحان مع ثمنية" (شرعوا في الامتحان على الساعة الثامنة)... في حين أنه لا يمكن، كما سبق بيان ذاك، أن نستعمل في العربية هذه الأفعال الأجنبية التي يرفضها النظام النحوي والصرفي والمعجمي لهذه اللغة. وهذه الخاصية، المتمثلة في القدرة على استيعاب و"تدريج" (جعله جزءا من الدارجة) الأفعال الأجنبية، الحاضرة في الدارجة والغائبة في العربية، هي خاصية أمازيغية كما شرحنا ذلك. وهذا تأكيد آخر ودليل آخر على أن الدارجة المغربية هي لغة أمازيغية في روحها النحوية والصرفية والتركيبية. (انظر موضوع "هل الدارجة المغربية لهجة عربية؟" على رابط "هسبريس" http://hespress.com/writers/76224.html").