عندما قال عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق الأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية، قبل أيام قليلة، إنه لو بقي رئيسا للحكومة لما قبل الزيادة في الأجور، بدعوى أن وضعية البلاد تتطلب التقشف وترشيد الميزانية، وعندما أثنى على زوجته أمام الملأ، وقال فيها "ما لم يقله مالك في الخمر"، فإن الرجل في الحقيقة كان يقذف كلاما يؤمن به عن قناعة، ولم يكن يبحث عن "البوز" كما يظن البعض. هذا هو بنكيران.. يحكي لي صديق صحافي اشتغل في جريدة كان يرأس بنكيران تحريرها قبل سنوات عديدة أن مشكلة الأخير الكبرى كانت دائما لسانه، فهو لا يلوك أبدا الكلام في فمه سبع مرات قبل أن ينطق، كما يقول المثل الفرنسي Le sage tourne sept fois sa langue dans sa bouche avant de parler.. هذا هو بنكيران.. يعود الصديق إلى تلك الأيام عندما كان بنكيران يقترف مثلا خطأ في التدبير الإداري أو المهني، أو يغضب صحافيا، أو يثير امتعاض قيادي في العدالة والتنمية أو حركة التوحيد والإصلاح، فإن الجميع لم يكونوا يفاجؤون بذلك.. لسان بنكيران وقتها وحتى قبل ذلك كان يلجمه شخص واحد فقط هو الراحل عبد الله باها.. كانوا يسمونه "الحكيم"، وكان العلبة السوداء لبنكيران وكاتم سره، ومطفئ نيرانه، ومُخمد العواصف التي يقترفها لسانه. هذا هو بنكيران.. يتذكر الصديق الصحافي كيف أن بنكيران كان "يجهل" "أبجديات مهنة الصحافة" وهو رئيس تحرير، لكنه رغم ذلك كان يجمع الصحافيين في اجتماعات التحرير في مقر الجريدة بحي المحيط بالعاصمة، ليلقي عليهم كلمته التي غالبا ما تكون خليطا من الموعظة الدينية والنصيحة الدنيوية. ويستحضر الصديق يوم جمع بنكيران حوله في بهو مقر الجريدة الصحافيين الذين كانوا ينتظرون منه توجيهات مهنية تطور أداء صحيفتهم تلك، لكنه خيب ظنهم عندما نصحهم بالتوجه للعمل في التجارة والقطاع الخاص، ساردا قصة نجاحه في معمل "جافيل" الذي كان يملكه حينها. هذا هو بنكيران.. كما يتذكر متحدثي كيف أن "الزعيم" لم يكن يخجل من القول إنه لا يعرف حينها من الأنترنيت سوى شيئين اثنين، الأول هو موقع "إسلام أون لاين" الشهير، الذي كانت جماعة الشيخ القرضاوي تديره من مصر، والثاني هو موقع "غوغل".. هذا كل ما كان يعرفه بنكيران وهو رئيس تحرير "جريدة الإخوان". هذا هو بنكيران.. يقول الصحافي، وهو يفتح علبة ذكرياته مع بنكيران، إنه عندما سمع الرجل يصرح بكل قناعة وفخر بأنه ما كان ليرفع أجور الموظفين لو كان رئيسا للحكومة تذكر يوم رفض رفع أجور صحافيي جريدته، ورفض تطبيق الاتفاقية الجماعية للصحافيين المهنيين سنة 2006، بالذريعة نفسها: الترشيد وأخذ الوضعية المالية للجريدة بعين الاعتبار.. هو الكلام نفسه والمنطق نفسه وإن تغيرت صفة الرجل.. حينها كان رئيسا لتحرير جريدة، واليوم يردد القناعة نفسها وهو رئيس حكومة أسبق. هذا هو بنكيران.. ولا ينسى الصديق يوما مفصليا في حياته عندما خير بنكيران ثلة من الصحافيين بين الموافقة على شروطه والإبقاء على رواتبهم دون زيادة، ضدا على ما تنص عليه الاتفاقية الجماعية للصحافيين، أو الفصل من العمل؛ فاختاروا المغادرة ليتطوروا بعد ذلك في درب مهنة "صاحبة الجلالة". المثير، حسب الصديق، هو ما قام به بنكيران في بضعة أيام، فكان يوم سبت عندما حضر لقاء قرآنيا، ووزع أموالا على بعض القراء والشيوخ الحاضرين، وذرف الدمع وهو ينصت إلى آيات الله الكريمات، ولكن 3 أيام بعدها فقط، وتحديدا يوم أربعاء، "جاء قراره بطرد خيرة صحافيي جريدته دون رحمة ولا شفقة ولا دمعة"، وفق تعبيره. هذا هو بنكيران وبالرجوع إلى عقيلة بنكيران الفاضلة، نبيلة بنكيران، وهي بالمناسبة ابنة عمه، فقوله قبل أيام إنها تستحق كل الثناء، وإنه وضعها في الرتبة 60 من اللائحة الوطنية للنساء في انتخابات 2016، وإنه يراها أفضل منهن جميعا، وإنها تطعم القطط والكلاب، و"تستحق الجنة"،..الخ (قوله هذا) ليس سوى رجع صدى لما يعتقده الرجل بالفعل. هنا يتذكر المتحدث كيف أن بنكيران (وهو سماع مطيع لزوجته) أنصت يوما لتذمر زوجته من كلام فقيه وخطيب مسجد كان يكتب مقالات في جريدة الحزب، بسبب ما تفوه به الإمام حينها من انتقادات للداعية المصري عمرو خالد (الذي كان محبوبا جدا لدى أسرة بنكيران)، فما كان من هذا الأخير إلا إصدار قرار جازم برفض جميع مقالات ومداخلات الفقيه المذكور.. نِعْم السياسي أنت، ونِعمْ الصحافي أنت، ونِعْم الزوج الظريف أنت يا بنكيران.. فاحفظ عليك لسانك.. ألم تسمع قولة الإمام الشافعي: (احفظ لِسانك أَيها الإِنسان.. ليَلدَغَنك إِنّه ثعبانُ كَم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانهِ.. كانَت تَهابُ ِلقاءَهُ الأَقرانُ )