برع علماء اللغة العربية قديما و حديثا في بيان قوة سبك اللغة العربية ، و سمو بلاغتها ، و عظم نظمها ، فقد وجدوا فيها الكثير من المكنونات التي تستدعي الباحث فيها للانكباب عليها ، و تثير فضوله ، و تستوقفه كثيرا لملامسة هذه اللغة الجمالية التي رصفت أيما رصف ، بتراص كلماتها ، و انتظام جملها حتى أسرت الملتقي و جعلته مستلذا تعابيرها ، وغائصا في لججها العميقة . فعلومها الإثنا عشر التي تتمثل في : النحو و الصرف و العروض و القافية و اللغة و القرض و الإنشاء و الخط و البيان و المعاني و المحاضرة و الاشتقاق و الآداب كانت أهم مستخلصات الدراسات التي اكتنفت اللغة العربية ، و زبدة ما استخرج منها ، و إثباتا قويا ، و حجة دامغة أنها تحوي خطابا علميا يمتح من المنطق الرياضي ، و علم الجمال أساسه المتين ، لذلك كانت اللغة العربية وسيلة الإنسان للتعبير عن ذاته ، و محاورة العالم و التماهي معه ، و تسمية الأشياء بمسمياتها ما دامت مفرداتها مطاوعة في التعبير ، و سلسة في الاشتقاق ، و غير جامدة البتة ، أنظر إلى علم النحو الذي يعد مثالا لمنطق التركيب المحكم ، مثل البناء الذي لا ينبني على أساس هار ، و إنما على أساس صلب قوي الدعائم ، متراص البنى . و علم الصرف مثال لنغمة الكلمة العذبة ، التي تمتزج فيها الأصوات مشكلة سمفونية جميلة تنساب في الأفواه و لا تجد غضاضة في نطقها ، أما علم العروض الذي يعد موسيقى الشعر فهو قيثارة اللغة العربية التي تبين بجلاء جمالية هذه اللغة ، و انتظامها في شكل موسيقي أثير ، و هكذا كل علم من علوم اللغة العربية إلا و يشدك إلى تأمل عبقرية نظم هذه اللغة و براعة بيانها. ليس غريبا أن تكون اللغة العربية لغة تواصل ، لفظيا كان أو غير لفظي ، فقد وصلت علومها إلى إثبات أن السكوت بلاغة ، فهي تحقق إيصال المعنى بشتى الضروب التي تمكن متكلمها من استضمار المعنى الحقيقي في تعابير مسكوكة بالمجاز الذي يعد قمة البحث اللغوي الذي يتيح للمبدع إخقاء المراد إيصاله في قوالب دلالية متعددة كالتشبيه و الاستعارة و الكناية ... ، لذلك فلا غرو أن نقول إن متكلم هذه اللغة ، و المخاطب بها يشعران بالاستطراب حين يتكلماها ، و حين تستطربها أذنهما ، فليس غريبا أن تقول العرب عن لغة القرآن التي تعد أفصح ما نطق به : "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق. وما يقول هذا بشر" . فحين تتصفح أهم مصادر هذه اللغة التي تتمثل في القرآن الكريم ، و السنة النبوية ، و كلام العرب نظما و نثرا تجدها كلها تدور حول كينونة واحدة ، أولها حسن تنظيمها ، و بعدها عن الخلل ، و مراعاتها أحوال المخاطبين ، و مقتضيات أحوالهم ، ثانيها أنها لغة مطاوعة لكل زمان و مكان ، ما دامت مخارج أصواتها سلسة ، و ما يتيحه معجمها من تسمية الأشياء بمسمياتها ، دون عسر أو إنهاك ، أو جمود و مغالاة . حري بالباحث في هذه اللغة العظيمة أن يغوص في لججها و مكنوناتها العميقة ، فليس من السهل الوصول إلى أسرار هذه اللغة ، و لكن الباحثين فيها ، و بالرغم من المشقة التي قد يعانونها و هم خائضون في فك شفراتها ، إلا انهم يجمعون على متعة البحث فيها ، و عدم الكلل و النصب حين يستخرجون منها إعجازها العظيم الذي حوته لغة القرآن الكريم ، التي صانت جوهر هذه اللغة من شوائب اللحن و مما يفقدها جماليتها التليدة . لذلك فغير منطقي البتة المناداة بتقزيم هذه اللغة و اتهامها بالجمود و التحجر و بعدها عن العصر الحديث و عدم مسايرة علومه ، فالذين يقولون ذلك إما أنهم لم يدرسوا هذه اللغة و لم يجشموا أنفسهم عناء البحث فيها و ملامسة ما تحويه من بدائع و جواهر ، أو ينطلقون من خلفيات إيديولوجية تعي أن في القضاء على اللغة العربية قضاءً على أمة بأكملها و خلق استيلاب كلي يطول جميع مظاهر حياتها الثقافية و الاجتماعية ، و هذا ما سنسعى إلى الإفاضة فيه في المقال الثاني الذي سنبين فيه أن هذه اللغة غير عاجزة عن مسايرة العصر الحديث و عن علومه الحديثة ، فلم يكن غريبا أن تكون هذه اللغة حقا لغة علم .