ترسيخ الثقة بين الإدارة و المواطن هي الخطوة الأولى للخروج من دواليب التخلف. فمادام المواطن لا يثق في الإدارة فدوام التخلف مضمون. ولكن لماذا لا يثق المواطن في الإدارة؟ أولا و قبل كل شيء، المواطن لا يثق في الإدارة لأن الإدارة لا تنصف موظفيها الأوفياء بل تظلمهم، و الظلم هنا يكون شنيعا في كثير من الأحيان. فإذا كانت الإدارة لا تنصف موظفيها الأوفياء أولا، فكيف لها أن تنصف دافعي الضرائب عموما...؟ ولكن، ماذا يريد الموظفون الأوفياء حتى لا يشعروا بالظلم و بالإجحاف في حقهم من طرف الإدارة؟ إنهم لا يريدون لا جزاء و لا شكورا، و لا مأذونيات و لا امتيازات خاصة، و لا مقالع رمال و لا رخص تجارية استثنائية، إنهم فقط يريدون أن لا تتم معاقبتهم إن هم عملوا جاهدين من أجل الخير، إن هم رفضوا الرشوة و حاربوها، إن هم رفضوا التعامل بالمحسوبية الفجة الوقحة أو تسببوا في انتشار جوّ من المساواة و الشفافية في محيطهم الإداري، إن هم حبّبوا الإدارة للمواطن، إن هم عملوا جاهدين في سبيل الوطن. المصيبة والطامة الكبرى هي أن يعتبر الجميع إلا من رحم ربّي، -في إطار الفكر الانهزامي السائد-، أن الموظفين الأوفياء هؤلاء إنما يطالبون بتحقيق معجزة مستحيلة في الإدارة، يطالبون بمعجزة حتى يتمكنوا من العمل دون مضايقات، و دون تهميش، و دون طرد، و دون عزل، و دون تحقير، من لدن الإدارة، يعني من طرف بعض الرؤساء و بعض مسيري الإدارة. و لهذا السبب ترى الموظفين الأوفياء و كأنهم يحاولون الحصول على رخصة من بعض رؤسائهم، لتفادي العقاب و الويلات، قبل الإقدام على فعل خير بسيط كرفع مظلمة، أو تبسيط مسطرة، أو التبليغ على سرقة أو اختلاس، أو تبذير ساطع وقح للمال العام، من داخل الإدارة، إلى آخره... يا للهول. إذا كان على الموظفين الأوفياء الحصول على رخصة خاصة من أجل العمل الجاد و المسؤول، فكيف للبلد المسكين أن يتقدم؟ إنما علاقة الموظفين برؤسائهم أو بإدارتهم كعلاقة الأطفال بأبيهم داخل الأسرة الصغيرة. فإذا كان الأطفال الصغار في أسرة ما، مثلا، لا يعتبرون أن الرشوة شيء قبيح لا يجب إتيانه، فهذا يعني أن أبوهم لم يلقنهم ذلك. أما أن يلقن الآباء لأطفالهم العكس تماما، و النماذج كثيرة طبعا...، بأنّ لا سبيل للنجاح و الفلاح، و لا مجال للحصول على المال الكافي إلا عبر سلك طريق الرشوة، و بأن لا مجال للتعامل مع الإدارة أو للحصول على الحقوق دون رشوة، فهذا يعني أننا أمام آباء يرتكبون جريمة ضد الوطن و الدولة و الإنسانية و الدين. المهم أن المسؤولية مسؤولية الآباء و ليست مسؤولية الأطفال، ما داموا صغارا دون سن التصويت. ولكن حذار، من كان مرتشيا و هو غير قاصر، فهو مسؤول على جريمته التي تلحق الضرر البليغ بالناس جميعا، و لو ترعرع في بيئة أو أسرة مرتشية. إنه القانون. وأما الإدارة التي تعاقب النزيه و تعمل على ترقية المرتشي، فهي إدارة تربّي موظفيها على الرشوة و الهوان و ليس على المسؤولية و الفلاح. الإدارة إذا تحتل مرتبة أب الأسرة بالنسبة للموظفين، و ذلك لأن الإدارة هي التي تقرر ترقية الموظفين أو معاقبتهم. فإن هي شجعت النزاهة و لم تعاقب النزهاء كان الموظفون نزهاء، و إن هي شجعت الرشوة و دأبت على ترقية المرتشين كان الموظفون مرتشين. المسألة غاية في البساطة. و لكن حذار، من كان مرتشيا من الموظفين، فهو مسؤول على جريمته التي تلحق الضرر البليغ بالوطن و بالناس جميعا، و لو ترعرع في إدارة مرتشية. إنه القانون. ومن هي الإدارة؟ الإدارة ليست شبحا، كما أنها ليست شخصية خيالية -في الرواية الأدبية الإبداعية الخيالية المحضة طبعا...-. الإدارة هي مجموعة من المسؤولين. فقط. و المسؤولون هؤلاء يقومون بتربية أجيال الموظفين الذين هم مسؤولوا الغد. قديما كان هناك من يقول أن لا بد للرشوة أن تتفشى في كل دواليب الإدارة للمحافظة على النظام الذي لم يكن قد اكتسب المناعة بعد. أما اليوم و النظام قوي منيع لا يزحزح، فهل من مبرر لعدم تغيير المنهج القديم... ؟ لا، قطعا، بطبيعة الحال. قديما كان مبرر واحد يقدّم في كل الحالات التي يتم فيها معاقبة النزهاء ألا و هو مبرر المحافظة على النظام. كان هذا المبرر كافيا لإسكات الجميع. أما اليوم فهذا مبرر متجاوز. ولكنه مبرر تم استبداله بتبريرات واهية عجيبة غريبة حسب الحالات. فهذا نزيه تمت محاصرته من طرف غير النزهاء في الإدارة، و لكنه عوض الفرار بجلده فرّ بذهنه، فكتب رواية خيالية مثلا، فتم عزله أو إعفاؤه، و متابعته، ثم تهميشه، بتهمة إفشاء سر مهني ألا و هو الرشوة، و ذاك نزيه بلّغ عن علاوات وزير مالي و خزّان عمومي فتم عزله ثم محاكمته بتهمة إفشاء سر مهني ألا و هو فضح ما يتقاضى وزير مالي و ما يتقاضى خزان عمومي من علاوات غير مستحقة من مال الشعب، و هذا...، و هذا...، و القائمة طويلة. الإدارة ليست شبحا، كما أنها ليست شخصية خيالية -في الرواية الأدبية الإبداعية الخيالية المحضة طبعا...-. الإدارة مجموعة من المسؤولين. فقط. فما على هؤلاء سوى أن يغيروا المنهج المعتمد إلى حد الآن -في الرواية الأدبية الإبداعية الخيالية المحضة طبعا...-، -و هو منهج متجاوز نظرا لوعي الشعب قاطبة و نظرا لعالمية العالم اليوم-، و تغييره بمنهج سليم يتم فيه كفّ الأذى على الموظفين الأوفياء الذين لا يطيقون الظلم والرشوة. و إذا كانت من "مرحلة انتقالية" -لا نهاية لها...- وجب التعامل معها...، فالمنهج السليم عليه أن يجعل من الإدارة إدارة فعالة تكلّف النزهاء، أو الموظفين الأوفياء، بمهمات تجعلهم بعيدين كل البعد عن "الإضرار" ب "المرحلة الانتقالية" تلك...، دون المساس بمصالحهم و بحقوقهم المكتسبة، أو برتبهم، كما أن على المنهج السليم رد الاعتبار لكل هؤلاء النزهاء الأوفياء الذين تمت دحرجتهم إلى مراتب أدنى، مع احتساب الأقدمية، و تسليمهم فارق الأجور الذي لم يتقاضوه منذ تاريخ معاقبتهم بالعزل، أو بالإعفاء، أو بالتهميش، أو بالطرد، أو بالتنكيل كيفما كان شكله، المهم رد الاعتبار لهم حتى يعلم الجميع أن الإدارة تغيرت فعلا إلى الأفضل و الأحسن فيغير الجميع سلوكه إلى الأفضل و الأحسن. ترسيخ الثقة بين الإدارة و المواطن هي الخطوة الأولى للخروج من دواليب التخلف. ولكن، أن تخرج صحافة ما ذات صباح بغثة لتقول، مثلا، بأن محكمة إدارية ما، حكمت على أول مسؤول في مدينة ما، بإلغاء قرار عزل أصغر عون في نفس المدينة، فهذا لن يعيد و لن يرسّخ الثقة أبدا بين الإدارة و المواطن الذي لن يحسب كذا خبر سوى مناورة إدارية لدر الرماد في العيون كالعادة، و ذلك لأن المواطن يعلم أن لو كانت من إرادة حقيقية من قبل الإدارة لترسيخ الشفافية، لتم رد الاعتبار للموظفين الأوفياء، و لتم الكف على تهميشهم و معاقبتهم، و لأعيدوا لمناصبهم بل لمناصب أفضل. وانتهى الكلام بكلام الرئيس الحكومي الذي يقول بأنه غير مسؤول على "الإدارة الحقيقية"... فإذا كان الرئيس الحكومي فعلا لا يريد فعل الخير، و إذا كان غير صادق أو مخطئ في كلامه النهائي في قصة أو رواية "العفاريت و التماسيح" الخيالية...، فما على خصومه السياسيين، أصحاب الحديث عن "أصول العصرنة"، إلا أن يثبتوا حسن نيتهم و ذلك برد الاعتبار للموظفين الأوفياء، أولا و قبل كل شيء، لأن الجميع يعلم أن أصحاب الحديث عن "أصول العصرنة" باستطاعتهم ذلك الآن و قد جاء على رأس "الإدارة الحقيقية" من هو محسوب عليهم. وملحوظة "لكل غاية مفيدة": الموظفون الأوفياء ليسوا "فلاسفة" كما يريد أن يصنفهم البعض للتخلص من قضيتهم...، بل هم رجال الميادين الإدارية الأكفاء، ولكنهم محرومون من مزاولة مهنتهم لأنهم نزهاء فيحاولون تزجية الوقت بالكتابة أو بوسائل سلمية سليمة أخرى في انتظار الإنصاف و شكرا على انتباهكم. سيداتي سادتي، الإدارة ليست شبحا. مع كافة الاحترام و السلام. وتستمر الرواية الأدبية الإبداعية الخيالية المحضة في الجزيرة العجيبة الغريبة الأعجوبة المعزولة.