البحث عن هوية قاتلة يتكون هذا المقال من ثماني فقرات، حاولت فيها تناول أهم الأسئلة التي طرحتها قضية تدريس الدارجة، وتفنيد كل الحجج التي اعتُمدت في الدفاع عنها، مبتدئا بنقد طريقة الطرح والتقاطب غير المفيد الذي عولجتْ به هذه القضية الخطيرة. وقد تعمدت التراوح بين التحليل العلمي الدقيق والسخرية الحجاجية، بين اليونة والقسوة الخطابية حيث يلزم ذلك، مستعينا بعالم الحيوان للتلطيف في لحظات خاصة. أردت للمقال/الدراسة أن يكون مقروءا وجذابا من قبل فئات عريضة. سيُغضب هذا المقال الكثيرين، فمعذرة، لست مستعدا لمجاملة أحد في شأن الوطن واللغة العربية. 1 نقطة نظام: الخروج من مهرجان "بني دَالَانَ" 11 من أعطاب الحياة السياسية الموروثةِ عن سنوات الرصاص، في المغرب، أنَّ جميعَ الأطراف تُفضِّل اللعبَ خارجَ الملعب، لتُمرِّرَ ما يُمكن تمريرهُ بعيدا عن الأنظار، وفي غِيابِ الآخرين، حتى ولو كان خيرا، أو صادراً عن حُسنِ نِيَةٍ، كقضية "القَسَم على المُصحف" المشهورة. هذا هو المأخذُ الأولُ الذي أخذَهُ الجميعُ على السيد نور الدين عيوش الذي "كَمَّسَ" ما دار في ندوتِه وتوجه به إلى القصر الملكي. وهي ندوةٌ مُهرَّبة بالنظر إلى موضوعها؛ غاب عنها ذَوُو الاختصاص، وأصحابُ الحقوق: جلس المتنادون لتفويتِ تركة الفصحى في غياب القضاة والورثة. (ومن فلتات اللسان الكاشفة قول السيد عيوش للأستاذ عبد الله العروي: لو عرفتُ أنك ستتفق معي، أو تؤيدني، لاستدعيتك!!). ولذلك فربما تكون هذه أكبرَ محاولةٍ للسرقة السياسية عرفَها ما بعْد الدستور الجديد. فقد اعتقدنا أن سلوكَ الفاعلين السياسيين سيتغيرُ تدريجيا بعد هذا الدستور الذي حددَ بعضَ قواعد اللُّعبة برغم غموضها، وإن كان هو نفسُه قد "خَرجَ من الخيمة" على الحالة التي تَرَوْن، بعدَ أن سُرقت منه، في اللحظة الأخيرة، مَدَنيةُ الدولة بنفس المنهجية الاختلاسية. ولا شك أن السيد عيوش (ومَن مَعَه) ما كانَ ليَجْرُأ على هذا القَفز العُلوي لو لم يَسْتأنِسْ بسلوك الحكومة اليمينية الحالية التي تُقايضُ التأويلَ الديمقراطي الحداثي للدستور بالمقاعد و"التمكين" وتمرير بعض أفكارها المعادية للحداثة بعيداً عن أنظار المعارضة والمجتمع المدني. وقد وصل بها الأمر إلى حد تقديم هَدايا مفضوحة رُدَّتْ في وجهها، كما وقع في قضية "القوانين التنظيمية" التي اختطفتْها الحكومةُ بفجاجة وسوء تأويل من البرلمان وأعادها الملك إليه. هذا النوع من الغِش في اللعب لن يخدُم المصالح العليا للمغرب، وسيُعقِّد أموراً معقَّدةً بطبيعتَها، مثل قضيتي اللغة والوحدة الوطنية. ومَن يُثيرُ الغبار قَصْدَ استغفال شُرَكائه (في العصر الحديث خاصة) سُرْعانَ ما ينكشفُ عنه الغبارُ ويَكتشفُ بنفسه أنه أكبرُ المغفلين. ولعل هذا هو الانطباع الذي خرج به السيد عيوش من هذه التجربة، فقد انهال عليه الطوب والحجارة من كل صَوْبٍ وحَدَب. وقدْ بَينتْ محاولةُ بعض خبرائه الدفاع َعن مشروعه أنه "كَانْ مْحَزَّماً بَالْﮕَرْعَةِ الدكالية!". بمثل هذا السلوك الاستغفالي يتحول الأذكياء إلى موضوع للتَّندُّر. نتمنى أن يستمر الملكُ في رد مثل هذه الهدايا الملغومة، حتى يقتنع مُوَرِّدُو تلك البضائع ومصدِّروها أن المغرب دَخَلَ منطقةَ الضوْء والسوق الحرة. 12 أما الفوضى التي وقعتْ بعْدَ انتشار "شائعة" استبدال الفُصحى بالعامية، نتيجة تدخل كثير من المُفْتين المتطفلين على الموضوع، وأشباه المتعلمين، وأصحاب الحسابات الخفية، فقد ذكَّرتني بجمْع، أو تجمُّع، "بني دَالانَ" في قول الشاعر: كَأنَّ بَني دَالانَ إِذْ جَاءَ جَمْعُهُمْ فَرارِيجُ يُلْقَى بَيْنَهُنَّ سَوِيقُ السَّويقُ: "الزَّمِّيطَة"، بكل بساطة، دقيقٌ من حبوب مُحَمَّصة (مَﮕلية). والفراريج: جمع فَرُّوج، صغارُ الديوك، ودُونَها الفَلاليسُ، جمع فَلُّوس. هل تعرفون ما يقعُ حين يُلقى السَّويقُ بين الفراريج؟ أبناء المدن لا يعلمون: تتطايرُ مُتصايحة في نفس الوقت، وتضربُ بأرجلها وأجْنِحَتها فتُبعثر السويق، فلا هي انتفعتْ به، ولا تركته لغيرها ينتفع به. وبنو دالان يَضِجُّون جميعاً في نفس الوقت، فلا يسمعُ أحدُهم ما يقوله الآخرُ، ولا ينتفعُ بكلامه. وزَمِّيطةُ السيد علوش تَنازعَها الفراريجُ والفلاليسُ قبلَ أن يقتربَ منها الديوكُ شبهُ العُقلاء مثلي مطالبين بشيء من النظام. ومعروف أن الفروج الأعرج هو الذي يَقْلبُ الشَّﮕْفة فيُريق الماء ويحرم الآخرين منه. أمامَ هذا الهجوم العنيف الذي اُسْتُغِلَّت فيه أصواتٌ حادةٌ، ومخالبُ جارحة، أصبحَ بُوبُولْ، وهو كبيرُ دُيوك السيد عيوش ورائدها، يَفِرُّ بتاجه الأحمر الطري ليجد نفسه وجها لوجه مع قُرون تُيوسِ الرمال القادمة حالاً من الثُّلث الخالي (خالي من العقل في الغالب) لنصرة لغة "مقدسة"! يَعتقدون أنها كانتْ هكذا منذ الأزل؛ لم يُزَدْ فيها حرفٌ، ولم يُنقصْ منها حرف! وستبقى كذلك ليتفاهَمَ بها أهلُ الجنة، حسَبَ حديثٍ أجمع المدققون الثقاة على أنه موضوع. ورغم أن الحوارَ بين العربية الدارجة، أي الرائجة، والعربية الفصحى، أي الممعيرة، كان يبدو شأنا "عُروبيا" "أعرابيا" في خطاب الإخوة المنشغلين ببناء الأمازيغية المعيار وتمكينها في التعليم والإعلام وفَّقَهُم اللهُ إلى سواء السبيل فقد رحَّبَ الكثيرُ منهم بدعوة السيد عيوش، وتحدثوا عن الطبيعة الوطنية للدارجة المشبعة بالروح الأمازيغية، المندمجة في نظامها النحوي، بخلاف الفصحى التي سيُشدد عليها الخناق حتى تَعودَ إلى جُحرها الضيق في جزيرة العرب، حسَب أكثر التعليقات تشاؤما. هكذا قال فراريج الأنتيرنيت وفلاليسُها الذين ينطحون أيَّ لَوْنٍ يخالف لونَهم الوحيد المحبوب قَبْل أن تُنبههم الديوكُ العاقلة، التي حنكتها التجاربُ، إلى أنَّ تعميمَ الدارجة لا يُشكل خطرا على الفُصحى فحسب، بل هو خطر على الأمازيغية أيضا. فلا ينبغي الانجراف مع التيار، إذ الوقوف في وجه الفصحى التي "لا يتحدثُ بها أحد" وهذه أمنية أخرى أهونُ من الوقوف في وجه دارجة يتحدث بها أغلبُ السكان، ويكاد يفهمها الجميع، ومن هنا بدأوا في مراجعة قولهم بأن الدارجة "لغة مغربية" لأنها بنت الأمازيغية أيضا. ولا شك أن الأمازيغية هي خالةُ الدارجة المغربية، والخالةُ رحيمة كالأم، ولذلك يظهر أن من يريدون تمزيق الطفل في تجاذب مع أمه الطبيعية البيولوجية يحملون توكيلا مزيفا من الخالة. هذه نقطة نظام مقلوبة، وإن عدتم عدنا. وسنحاول في النقط التالية استشكال بعض القضايا التي تعامل معها الطرفان باستسهالٍ أو تجاهلٍ ضارين. وكلامنا مجرد اجتهاد يخاطب العقول والنوايا الحسنة، مهما قست لغته. 2 العربية الفصحى كائن تاريخي متطور من الطبيعي أن يرى الأصوليُّ أنَّه ليس هناك مُشكلٌ أصلا، لأن نمطَ العيش الذي يَعيشُه، ومُستوى الفكر الذي يُفكرُه لا يَستهلكُ حتى لغةَ القرن الثالث والرابع الهجريين. وقد عانينا من هذا العطب الأصولي، في العقود الثلاثة الأخيرة، ونحن نُحاول تجديدَ مناهج البلاغة والدرس الأدبي: فكل اقتراح جديد يُشكل لديهم خطرا على الهوية العربية الإسلامية، ويُكوِّن استلابا أو مؤامرة خبيثة. وإذا أعوزهم الفهم والتحليل والمقارعة بالحجة فلا يعوزهم الكيدُ والهجاء. ولذلك فأيُّ توسُّع في اللغة يجعلهُم يثورون ويحتجُّون بالشعر الجاهلي ولغة أعراب الجاهلية. ولِستْر عجزهم يسحبون المقدس على التاريخي؛ فاستعمالُالدارجة بالنسبة إليهم استهانةٌ بلغة القرآن الكريم ومعصيةٌ لربِّ العالمين. أما الديوك "بوبول وأصدقاؤه" فحين يسمعُون هذه اللغة المتعصِّة للجاهلية يُصابون بالرعب، ويختلط عليهم الأمر فيرون أن الداء كلَّه في اللغة العربية، وأنها أصلُ كل الشرور، وتطويرُها مستحيل لأنها مُشتركةٌ مع أقوام رُكِّبتْ عيونهم في ظهورهم، وعقولهم وحواسهم، تحت أحزمتهم، وَ"الوَجْهْ المَشْروكْ مَا يَتّْغْسَلْ". فيَسْعَوْن للتخلص منها بشتى الحيل والمكايد، ولو خنقاً في الظلام. للخروج من هذه الثنائية المُسمِّمةِ التي لن تخدُم اللغة العربية، ولا التلاحم الوطني، نقترح تأمل بعض الحقائق التاريخية والمعضلات الواقعية، وعلى رأسها تقعيد اللغة العربية، وعلاقتها بالمقدس. وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء. اللغةُ العربيةُ الفصحى التي نكتبُها اليومَ ليستْ كُلَّ "كلامِ العربِ" في الجاهلية، ولا في صدر الإسلام، أي أنها ليست اللغةَ الأبديةَ التي يخافُ الأصوليون الدينيون والقوميون من دخولها في حوار وتفاعل مع الدوارج، ولا هي تلك التي يريد "الآخرون" التخلصَ منها. هي كائن جديد حي متطور. تتطور بالإيقاع الذي يتطور به أصحابُها الذين لا يقرؤون من بين خلق الله أجمعين. اللغةُ ليستْ أقراصاً تُشربُ فيقعُ التقدمُ، ومَن يَعتقدُ غيرَ ذلك فما عليه إلا أن يقتني "حبةْ لَفْهامَة" ويشربَها، وهي بأقل من ثمن التراب، ومن الأحسن أن يقتنيها من مدينة مراكش التاريخية. اللغةُ العربيةُ كائنٌ تاريخيٌّ متطوَرٌ، هذا ما يشهد به العلماءُ الذين وضعوا التصميم الأولي (الكروكي) لما عُرف بالفصحى. ولم ينتهوا من وضع هذا التصميم إلا بعدَ أكثرَ من قرن من هجرة الرسول! أي من بداية تكوين الدولة التي طلبتْه ورعتْه. لا تستغربْ هذا الكلام! وتَوَقَّفْ عن نتْفِ لِحْيتك، ولطْم صلعَتك! اِستمعْ إلى هذه الشهادة، من بين شهادات أخرى: سأل رجلٌ أبا عمرو بن العَلاء (وقد مات حوالي سنة 157ه) قائلا: "أخبرني عَما وضعتَ مما سميتَه عربية، أيَدخلُ فيه كلام العرب كُلُّه؟ فقال: لا. فقال الرجل: "كيف تصنع فيما خالفتْك فيه العربُ، وهم حجةٌ؟ فقال: أعْملُ على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغاتٍ". (تنوير: أبو عمرو بن العلاء خبيرٌ لغوي بالمعنى الحديث للخبرة، أي مَرجِعٌ في اللغة، هو أحد أشهر قراء القرآن السبع، وأحدُ أكابر أئمة اللغويين الذين ساهموا، قبْل سيبويه، في وضع أُسس النحو العربي. النحو الذي سيتعامل به الناسُ في الحواضر الإسلامية الجديدة. وهو صاحبُ القولة المشهورة: "ما انتهى إليكم مما قالتْه العربُ إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثيرٌ"). كال: "ماقلته العرب"، دون استثناء. وقد عَلَّقْتُ على الحوار أعلاه، منذ حوالي عقدين من الزمان، بالعبارة التالية: "النص صريح في أن "العربية" اسمٌ جديدٌ لشيء جديد ("ما وضعْتَ مما سميتَه عربية")، ثم هُناك ما قبل العربية، وهو "كلام العرب" الذي شُطر شطرين.." (انظر كتابنا: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها. ط2. 122). إذن، أولُ درسٍ ينبغي أن يتعلمَه هؤلاء اللاعبون الشاردون خارجَ الميدان هو أن "العربية" ليست لغةَ الأعراب، بل هي لغة حضارة، هي زُبدةُ ما استُخلصَ من "لغات العرب" التي غُرْبِلتْ صوتيا (فأُهملتْ أصواتٌ)، ومُعجميا (فأهملت ألفاظٌ، وأضيفت ألفاظ)، وتركيبيا (فأهملت تراكيب: مثل أكلوني البراغيث)، ونُطقيا وتنغيميا (فأهملت لكنات وتنغيمات وكشكشات). وبعد ذلك كله أُعْمِلتْ آلياتٌ كثيرةٌ لاستيعاب النص القرآني والشعر الرفيع، ضمنَ هذه اللغة الجديدة، فنُسب بعضُ تراكيبهما إلى التوسع والمجاز والحمل، وبعضُها إلى "القراءات" و"اللغات"...الخ. وينبغي الانتباه إلى أن أكابرَ من قاموا بهذه العملية (وعلى رأسهم سيبويه) ليسوا عرباً، ولم تَجرِ هذه العملية داخل الجزيرة العربية، بل في الحواضر الجديدة التي تفاعلت فيها الأجناس والحضارات. وعليه فالفلاليس الذين يطالبون العربية الفصحى بالعودة إلى جزيرة العرب مخطئون. ولكي يُريحَ كُلُّ تِيسٍ نطَّاحٍ قرونَه قليلاً يلزَمُه أن يتذكرَ أن هذه "التصفية" و"التفصيح" كانت تأخذ بعين الاعتبار الحديثَ النبوي الميسِّر: "إن هذا القرآنَ أُنْزلَ على سبعة أحْرف، فاقرؤوا ما تيسِّر منه". وتلافيا لأي لَجاجةٍ أترك للقارئ أن يتتبع الأخبار َ المتواترة المتصلة بهذا الحديث، ما صح منها يقينا، وما حامت حوله الشكوك، (فالدلالة واحدة) ليعلمَ أن القرآنَ الذي عَمِلَ النحاةُ على استيعابه في القالب الجديد الضيق (بعدَ قرن ونصف من وفاة الرسول صلوات الله عليه) مرت عملية تسجيله بمراحل، بعضُها جرى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي سَنةِ وفاته خاصة (عَرْضُ القرآن سنويا على جبريل)، ثم بعد وفاته، آخرها ترجيحُ الخليفة عثمان (ض) للمصحف الذي استخرجَهُ وعُرف باسمه، وإحراقُ ما سوى ذلك. وقد تحدثَ العلماءُ المسلمون في هذا الموضوع، عبْر التاريخ دون حرَج. فلماذا لم يقف رجالُ ذلك الزمان، وفيهم الصحابةُ والتابعون، الثقاةُ الصالحون الورعون، في وَجْه هذه العملية التاريخية التي تعاملت مع "الأحرف السبعة" في ضوء تقارب "لغات العرب" بفضل الإسلام نفسِه، حيث أصبح من الممكن، بعد عقود، أن يُقرأ القرآنُ بحرف واحد مُلقح بباقي الحروف؟ الجوابُ بسيط: يتلخصُ في أنَّ أولئك الناس كانوا مُقبلين على الحياة، يعيشون حركة التاريخ باعتبارهم صُناعاً فاعلين؛ لا يُرعبُهم التطورُ، لأنهم كانوا ينظرون إلى الأمام. من المعروف أن هناك أصواتاً خرجت من صفوف ورثة الماضي، والمتضررين من ذلك الحاضر لتصيح: أوقفوا هؤلاء العجم! إنهم يختزلون كلام العرب في قوالب منطقية قادمة من لغات المجوس وفلسفة الوثنيين! ومنطقُ العربية غيرُ منطق اليونان. كانت حربا بين القياس المختزِل والسماع المنتشِر، ولا علم بدون اختزال. لم تَصمُد الأصواتُ القليلةُ التي أصرَّتْ على استمرار القراءة بكل الأحرف. هذه الدينامية التي أَدمجت "لغاتِ العرب" و"أحرفهم" و"قراءاتهم" في خطاطة سيبويه ليست إلا موجة من موجات المد الذي أطلقه عمر بن الخطاب لهيكلة الدولة الجديدة ابتداء بإنشاء الدواوين على نمط وخبرة الأمم المجاورة التي تمتلك خبرات ومهارات تفوق ما كان بِيَدِ عرب الجزيرة حيث البداوة غالبة...الخ. وهي نفسُها التي جعلت الحجاج ومعاوية يقتحمان البحر الأبيض المتوسط، لا يلتفتان إلى بكاء من يبكي على تركة الجاهلية، أو ما توهمه من امتيازات صدر الإسلام. والحَجَّاجُ هو نفسُه الذي أمَرَ بِ"توقيف" نص القرآن عن طريق إحصاء أحْرُفه صونا له من كل عبث. وما كان ليفكر في ذلك لو لم تكن لتفكيره دواعيه. (انظر جدولا لإحصائه في كتابنا تحليل الخطاب الشعري البنية الصوتية ص. 102). لقد تطلبتْ عمليةُ توليد اللغة العربية من "كلام العرب" و"لغاتهم" و"قراءاتهم" حوالي قرن ونصف من الزمن. وتَولَّد عن الحوار في الموضوع مدارسُ نحوية، أشهرها مدرسة البصرة التي رجَّح أكثرُ شُيوخها القياس، ومدرسة الكوفة التي غلَّب أكثر شيوخها السماع. وسيبويه الذي صار رمزا للنحو العربي، بمثل ما كان أرسطو، وما يزال، رمزا للمنطق اليوناني، مات حوالي 180ه، عن عمر دون الأربعين سنة. "غِيرْ أَجِي وَصْنَعْ لُغَه مَنْ لَهَجَاتْ!!!". كان توحيد المصحف وتوحيد اللغة يسيران جنبا لجنب. (ومع ذلك ففي القرن السادس عشر أرسل المنصور الذهبي بعضَ المرابطين إلى إيران لإحضار نسخة من القرآن الذي يدعي الشيعة الاحتفاظ به، ويسمونه مصحف فاطمة، ويدعون أنه أوسعُ من مصحف عثمان. (انظر سيرة أنطونيو دي صالدانيا، وما زالوا يتهمون بها بإخفائها إلى اليوم). خروجُ لغة عالمة "فصحى" من لهجاتٍ وكلامٍ شفوي مسألةٌ مُعقدةٌ تتعاضدُ فيها السُّلطتان: السلطة السياسية الصاعدة الجذابة غير الخائفة من المستقبل، والآخذة بزمام المبادرة، والسلطة العلمية النشيطة المندمجة في مشروع علمي شمولي: في جميع المجالات. أما فصلُ اللغة عَنِ العلم والمال وادعاءُ الرغبةِ في تطويرها (كما في مشروع السيد نور الدين عيوش) فَمحضُ عبثٍ، إن لم يكن شيئا آخر! فهل اللغةُ عنصرُ تخلُّف أم ضحيةٌ له؟ تنوير: حاول الأستاذ عبد الله العروي أن يُبسِّط قضيةَ الفرق بين الشفوية والكتابية ويُحسِّسَ بخطورة السعي لتكريس شفوية مجتمع خارجٍ لتوه من الشفوية، فلمْ يجدْ مِن مُحاوِريه، ولا مِن مُتتبعيه، مُعيناً لتطوير النقاش. وكنتُ أتمنى لو اسْتحضرَ التجربةَ التي وصفَها جاك ﮔودي في كتابه: العقل الكتابي (أو التصويري) La raison graphique وقَصَّها على المستمعين ليفهموا الفرقَ بين عقلية "الكتابي" الذي يتَصورُ ويُخطط، أي يعمل عمل المهندس، وعقلية "الشفوي" الذي يتصرف فيما يقع بين يديه، أي يعمل عَمل المرقِّع. الفرق بين العقل الكتابي والعقل الشفوي هو الفرق بين كفاءة المهندس ingénieur وكفاءة المرقِّع bricoleur. وقد كان الغرض من العملية التي وصفها كودي إقامةَ الدليل على فساد النظرية التي تتحدث عن وجود عقلية بدائية غير سببية، حيث ثبت بالدليل القاطع أن الفرق بين البدائي وغيره هو الكتابة. فالأطفال الذين أخذوا من قبيلة شفوية بدائية بغانا وكُتِّبوا (عُلِّموا الكتابة) تخرجوا من الجامعات الغربية مهندسين. هذا عن الدرس الأول، أما الدرس الثاني، فهو أنَّ خُروجَ العربية من "كلام العرب"، أو "لغاتهم"، أو "حروفهم" أو "قراءاتهم"لم يؤدِّ إلى انقراض ذلك الكلام، أو موت تلك اللغات والحروف والقراءات، بل استمرَّ كل ذلك موجودا بقوة في بوادي الجزيرة العربية، وفي كل مكان استقرت فيه كُتل قبلية عربية كبيرة إلى زمن قريب، وبِدَرجات متفاوتة إلى الآن. وظهر بجانب ذلك، في البيئات الجديدة، مثل شمال إفريقيا، "كلامٌ جديد"، أي لهجات جديدة متأثرة بمعطيات البيئات المحلية (الأمازيغية) والشرقية (هجرات القبائل) والغربية (الاستعمار، خاصة في المدن الشاطئية). استمرت هذه اللهجات القديمة والطارئة والمختلطة على هامش اللغة المعيار التي كانت منزوية في أضيق الأماكن الدينية والإدارية: في عقود النكاح والأملاك المحفوظة عن ظهر قلب، وفي الخطب المكرورة المحنطة في الجُمَعِ والأعياد، خطب ابن نباتة مثلا، وفي المكاتبات السلطانية والعهود والمواثيق. يجب أن ننظر إلى الموضوع نظرةً تاريخية تطورية. إن لغةَ واحةِ سكورة بورزازات، التي وُلدت فيها (واحة النخيل والقصبات التي تمر بجانبها وأنت خارج من ورزازات في اتجاه الشرق على بعد حوالي 30كلم) كانت قُبيلَ مُنتصف القرن الماضي (أي قبل دخول الراديو والمدرسة، والدراجة العادية والنارية، وطاحونة الحبوب، والعمل المأجور...الخ) قريبةً في معجمها، غيرِ الفلاحي، من لغة الشعر الجاهلي، في حين كان المعجمُ الفلاحي مشوبا بالأمازيغية. أما نظامها الصرفي والنحوي فقد تغير قليلاً في اتجاه الاختزال والتسكين. من ذلك الوقت إلى الآن وقع تغيرٌ في المعجم فحسبُ، حلت الكوكوت محل الحماس وبقي الكسكاس هو الكسكاس. وهل كان بالإمكان ألا تستمر لهجات وتظهر أخرى؟ الجواب عندي هو أن استمرار الدوارج كان أمراً حتميا، فهي مجرد تَوسُّع جديد في اللغة، أي خروجٌ عن ضوابطها التي وُضعتْ في ظرفٍ خاص، في القرن الثاني الهجري: من الممكن أن تختفي أصواتٌ وتظهر لُكنات، وتختفي ألفاظ وتضاف أخرى...الخ. بل من المفروض أن تُقتبسَ صيغ تركيبية من الأمازيغية. وأشهرُ الأصوات التي اختفت، دون أن يحزن لاختفائها أحد، حرفُ "الضاد" الذي تُنسب إليه العربية، حيثُ يُقال: "لغة الضاد"! لقد ذهبَ الضادُ (أو ذهبت الضاد) وبقيت العربية. وذهبت حروف أخرى من النطق وظلت جثثها في الكتابة أو التجويد، مثل "الذال" و"الثاء" في المغرب. (فسحة: ذات مساء من الموسم الدراسي 1995 جلستُ مُرشداً، استمع إلى عروض طلبة الدراسات العليا بجامعة الملك سعود بالرياض، في إطار تهييئ التسجيل في الدكتوراه. وعندما جاء دور الطالب س (أستاذ بالثانوي)، وهو متميز عن بقية زملائه الطلبة الباحثين بسنه المتقدم ولحيته العريضة، ومظهره الفخم، شرعَ يقرأُ بهدوء وأبهة وفخامة مُطبِّقا قواعدَ التجويد في احترام المخارج، وكلما نطق الضاد ينتفخُ لسانُه حتى يسُد ممر الهواء بين شفتيه. ظهر لي أنه يتكلف قلْبَ الضاد ظاء. لا أدري كيف "شَالَتْ نَعامتي" فنبهتُه لذلك، فاستوى متحفزا للمناظرة، مُحتجًّا بأن نُطقه هو النطق العربي الصحيح الذي ينبغي التمسُّك به. تذكَّرتُ وقتَها ما كتبه المرحوم حسان تمام من صعوبة التعرف على ذلك الحرف، فلم أحرمهُ لذة الانتصارِ. ومن يومها كسرتُ عصا "فظيع" فصارت "فضيع" حتى أنسى ذلك الموقف. انتهت الفسحة، وعاد النكد). والخلاصة هي أن محاولة تفصيح الدوارج بصورة اصطناعية، وفي أجل قريب، وهمٌ يُجافي منطق التطور، لا ينافسه في "ضلاله" غيرُ محاولة تحجير الفصحى وقياس صيغها الحالية والمحتملة الظهور على لغة أعراب الجاهلية التي أقصاها النحاة. 3 الدارجة ولغة العلم 3 1 عن أي دارجة يتحدثون؟ إن حديث السيد عيوش عن الشروع في التطبيق في مدارس خاصة تُشرف عليها جمعية زاكورة (حوالي 540 مدرسة) يتناقضُ مع الحديث عن تقعيد الدوارج وتَكْتيبِها، فمتى قُعِّدت وقد شُرِع في تطبيقها؟ هذا السلوك من باب وضع العربة أمام الحصان، كما يُقال. هذا التناقض ناتجٌ عن ركوب الغموض في التعبير عن الغرض: هل هو الاستعانة بالدارجة عند الحاجة إليها في دراسة الفصحى، كما هو معمول به في جميع مستويات التعليم، أم أن الدارجة هي موضوع الدراسة: هي البداية اليوم والنهاية غدا! الدخول في التطبيق بهذه الطريقة العشوائية على المستوى الوطني متعذر لوجود اختلافات جهوية لها اعتبارها في العملية التعليمية. تَخيلْ مُعلماً من تطوان يُعلِّمُ أبناءَ بوجدور، أو سيدي بنور، أو هسكورة، لهجتَهم المحلية بألفاظه ولكنته الشَّمالية، ومُعلما من بوجدور يُعَلِّم أبناء الحي المحمدي، أو حي طوما، أو "دوار لاحوني" (وقد صار رمزا لكل الدواوير المهملة)، يعلمهم "دوارجَ أمهاتهم" بألفاظه ولكنته الحسانية، أي بدارجة أمه هو...الخ (؟!)، سيتحول المعلمُ إلى أُمِّيٍّ يَتندرُ به التلاميذ. وسيسمونه: "أمي"، أوْ "لغة أمي". (وقد درَّستُ في عمق الحي المحمدي (ثانوية الساقية الحمراء) وفي ضاحيته (ثانوية مصطفى المعاني)، ولا أرجمُ بالغيب). إن النكت التي تحكى عن سوء التفاهم بين لهجتي عاصمتي المغرب التاريخيتين، فاسومراكش، كافية لبيان الأعطاب التواصلية التي يمكن أن تُحوِّلَ العمليةَ التعليميةَ (إن مورستْ وطنيا على أساس لهجة الأم التاريخية) إلى مسخرة، ولأن أكثر تلك النكت جنسية فسأختار أعفَّها وأقربَها إلى الواقع. يُروى أن أحد قُضاة فاس جلس للقضاء في حضرة الباشا التهامي الكلاوي، وعندما بدأ في استنطاق الخصمين كرر قوله: "آش تَتقولْ نْتِينا... وَاش تتقول نتينا؟". فما كان من الباشا إلا أن صرفه قائلا: "هذا غادي يردْنا كُلْنا عْيالاتْ! وبين الفاسيين والمكناسيين نُكَةٌ تتعلق بنطق المكناسيين الشين سينا؟ فقولُ الناهي: "ما تبولي شي هنا"، تحول في النقط المكناسي حسب النكتة إلى "مات بوليسي هنا"، فأتي الجواب: "الله يرحمو..!". والنوادر بين سكان أعالي درعة وسافلته كثيرة. فبعض دوارج درعة مشوب بالأمازيغية وبعضها مشوب باللغات الإفريقية، بحكم كون المنطقة ممرا تاريخيا نحو إفريقيا، استقر فيه الطرفان. والكل يدعي الفصاحة وحسن الخطاب، حتى من يقلب اللام نونا، ومن يقلب الطاء تاء...الخ. الإجراءُ الذي شرعَ السيد عيوش في تطبيقه غيرُ إجرائي بيداغوجيا، وغيرُ مأمونِ العَواقب على المستوى الوطني، وهذا ما عناه الأستاذ عبد الله العروي حين تحدث عن الشعوبية الجديدة وتفكيك الوحدة الوطنية. أما الاختيار الذي يقتضي تأهيل الدوارج بغربلتها صوتيا ومعجميا وتركيبيا قصْد تقعيدها فسيُوصل لا محالة إلى ضفاف الفصحى، وسيُعطي إمكانيةَ الذهاب والإياب بين اللغتين بسهولة، أي إغناء الدوارج بالرصيد المعرفي للغة العربية. وهو رصيدٌ لا يُستهان به. وهذه العملية ليست عملَ يوم وليلة، بل قد لا تفي بها عقودٌ من العمل الجاد، كما سبق. وستُواجَهُ الفصحى الجديدة بالمعضلة نفسها التي عانت منها العربية، وهي معضلةُ الكتابة والخط، إلى جانب باقي المعضلات، رحم الله الأخضر غزال، فقد قضى حياتَه على باب الأمل في الوصول إلى "الكتابة التي يَقرأ بها المتعلمُ لكي يفهم، بدل تلك التي تَطلبُ منه أن يفهم لكي يقرأ". لقد مات أمام الباب الذي ظلَّ مغلقا. وحين نصل إلى هذا الاختيار، ولا مفر منه، يجب أن تُعطى القوسُ باريها، أي أن يُفتح النقاش بين علماء اللغة الحقيقيين، الذين استوعبوا اللسانيات الحديثة وخبروا تاريخ اللغات وتجارب الأمم، وقبل ذلك كله لهم معرفة معمقة بالنحو العربي. فجوة: الحديث بصراحة يقتضي الاعتراف بأن الكثير من اللسانيين الحاليين غيرُ متضلعين في النحو العربي، بل منهم من يعوزه الحد الأدنى من المعرفة به، بل منهم من يجدُ صعوبةً في الحديث بطلاقة بالعربية. وطوال السنين التي درستها في الجامعة المغربية، خاصة في فاس، كان أستاذُ النحو من غير اللسانيين، وأستاذ اللسانيات من غير النحاة. يجب أن يتواصل هذان الطرفان أولا. انتهى. رغم أن السيد عيوش يؤكد أن المقصود ليس "حفر قبر العربية الفصحى" فإن الخطة التي يتحدث عنها تتضمن "حفر جذورها"، و"دَقَّ مسمار في جذعها". ولإماطة اللثام عن عملية الحفر تقمص الأستاذ العروي هيئة "تجاهل العارف" فقال في أول الحوار بأن دعوة السيد عيوش إلى التعليم بالدارجة تبدو كتحصيل حاصل، فهذه ممارسة عادية، ولكن السيد عيوش تلافى التصريح بأن المطلوب ليس الاستعانة بالدارجة في التدريس بل هو تدريسها. وبعد ذلك ظهر المقصود حين تحدث عن تقعيد الدارجة وكتابتها وعن غنى رصيدها الأدبي... الخ. فالغرض المرحلي الأول هو إخراج الفصحي من التعليم الأولي وسنوات من الابتدائي، ومن هنا إلى هناك يفتح الله. أما المسمار فتجده في الفقرة الموالية. وربما يكون "حفر الجذر" مجرد زوبعة لتغطية المسمار. 3 2 مغالطة لغة العلم والمسمارُ الذي يُرادُ دقُّه في جذع العربية هو إخراجُها من تدريس العلوم ابتداءً من الثانوي بدعوى مُقَنَّعة، وهي استعمالُ الإنجليزية لأنها لغةُ العلوم في العصر الحديث!!! هذه مغالطةٌ حسب تقديري وتجربتي، والعلم لله. انْتَبِهْ جيدا: حين نتحدثُ عن هيمنة اللغة الإنجليزية في البحث العلمي لا نعني بالعلم ما يُقدم في المراحل الأولى. في المراحل الأولى تُقَّدمُ المعارفُ المصادقُ عليها، بطريقة مُيَسَّرة، وقد يُشارُ إلى آفاق البحث وأبوابه المفتوحة في كل مجال دون الدخول في التفاصيل. لا نقصد هذه المعارف المتوفرة في كل لغات الدول الصناعية، بل نقصد المجالات التي تعلُو فوقَ هذا المستوى كما تعلو قمةُ جبل توبقال وأُكايمدن على مصب وادي درعة وأم الربيع، أو على السهول التي تمر منها. العلوم التي تُقدم في هذه المستويات التمهيدية هي عُلوم المَصَبِّ، أو هي مياه السدود والحاقنات. أمَّا البحثُ في منابعِ العُلوم، في الاستكشاف، والإبداع، فستصل إليه النخبةُ التي ستجتازُ الإجازةَ بعدَ أن تكونَ قد اكتسبت لغة ثانيةً، أو أكثر، واسْتأنستْ بها، وَلْتَكُنْ هي الإنجليزية، وإن كُنتُ أعلمُ أننا لسْنا مُخيَّرين. إذا كانتْ نيتُنا صالحةً فلا بُدَّ أن نتساءل: ما الفائدة من تدريس العلوم بلغة أجنبية لِ"جمهور" تلاميذنا الذين لن يتابعوا الدراسات العليا والبحث العلمي؟ أليس من الأحسن أن يتلقوها باللغة العربية وينفتحوا على اللغات الأخرى بالتدريج، جنبا إلى جنب، على وتيرة الهرم المقلوب: فمن سيتوقفُ وسط الطريق (وهم الأكثر) سيأخذ معه إلى العربية والمجتمع المغربي رصيدا تَغتني به ثقافتنا الوطنية، ومن سيتسلق النهر نحو المنبع، أو سدرة المنتهى، سيتخذ اللغة الثانية والثالثة سلما يرتقي به؟ أما إذا كان الصوابَ، الذي لا صوابَ معه، هو أن ننزلَ بالمظلات في القمة جنبا لجنب مع أصحاب الإنجليزية فينبغي أن يُطبق هذا على جميع لغات العالم، التي ترصُد الإنجليزية وتتبع جديدَها في مجال المال والبحث العلمي، وعلى رأسها الفرنسية التي يدندنون بها وحولها. فالباحثون الفرنسيون المنكبُّون في مختبراتهم على تفكيك رموز الكون والإنسان يشتغلون فيما بينهم ومع مؤسساتهم وفي مؤتمراتهم الوطنية بالفرنسية، ويتمسكون بإغنائها بثمرات العلم، ولكن أكثر مراجعهم في الموضوعات الحساسة المتقدمة مراجع بالإنجليزية، والحظوةُ والمزيةُ في النشر للإنجليزية، وهي التي تفرض نفسها، بالتالي، في اللقاءات الدولية، وهذا أيضا دأب زملائهم الذين يديرون المال والتواصل وتوجيه العالم: الفرنسية في التداول الداخلي والإنجليزية في تجديد الخبرات وتداولها عالميا. فهم يقعون قُربَ القمة، قرب المنبع، يطلون عليه بنسبة صغيرة كما يطل عليه الألمان ومن في مستواهم. فلا تعجب، وإحصاءات النشر في الأعالي معروفة. ومهما كانت المسافة بيننا وبين تلك القمة فينبغي أن نظلَّ في تنمية عضلاتنا ومحاولة التسلق، والكف عن التفكير في تحطيم الذات أو "الحريق" إلى الجهة الأخرى بواسطة قوارب الموت. وهذه سنة التاريخ، كلما هَيمنتْ إمبراطورية كلما وفرت للغتها الأدوات والمواقع التي تجعلها أنجعَ وأنفعَ، والناس ميالون إلى ما ينفعهم. ومِنْ سوء التقدير، وعَماء التدبير، مقاطعةُ لغةِ الحضارةِ السائدةِ أو الاستسلامُ لها، لأنها لا تَلتفتُ إلى المُقاطع ولا تمسح على رأس المستسلم. حين نفرق بين المسلكين: مسلك التكوين من أجل تدبير الحياة بنتائج العلوم المتوفرة، ومسلك البحث المتقدم، سيكون مُشكلُ اللغة سهلا. وسنغني اللغةَ التي سنختارها لحياتنا الاجتماعية بدل عزلها عن العلوم، وقطعها عن التراث الأدبي والفكري والفني الذي خرجت منه. وهذا المسلك الذي أتحدثُ عنه سالكٌ ومُوصِّل، "جُرِّبَ فصحَّ، كما يقولون"، المهم هو التأطير والمتابعة. ففي جميع أنحاء العالم آلافٌ من الشبان المغاربة الذي خرجوا من هذا التعليم "الأعرج المتذبذب"، معتكفين على البحث والاختراع، أو يدبرون أعقدَ العملياتِ المالية والمعلوماتية: من النووي والفلكي إلى المالي والتدبيري. أعرفُ العشرات منهم بحكم علاقتهم بأبنائي الذين سلكوا نفس الطريق، وبحكم العشرات من أبناء الأصدقاء الأساتذة والمحامين والأطباء الذين عَوَّضوا النقص وأخذوا بيد أبنائهم خلال الانتقال في مدارج التعليم العمومي إلى أن تحولوا إلى باحثين وأطر عليا في جميع المجالات. وهاكَ إحدى التجارب التي يَسَّر لي القدر معايشتها: في أوائل التسعينات بادرت مجموعة مجتهدة من أساتذة كلية العلوم بفاس إلى إخراج حوالي 20 طالبا متفوقا من دوامة الإضرابات العشوائية التي كانت تشُلُّ الكلية. وَجَّهُوهم، خلال سنتين، في مسار هادف، وتخصص عملي مطلوب (ميكانيكا السوائل والحرارة)، ووفروا لهم الحواسب، في ذلك التاريخ المبكر، وسهلوا عليهم الحصول على التداريب، فحصلوا أحسن النائج. في الأسبوع الماضي علمتُ أن واحدا من هذه المجموعة حصل على الامتياز، (أو مكافأة التفوق: prime d'excellence) في الفيزياء الحرارية، وهو باحث متميز في أحد المختبرات الفرنسية، وهو يُتقن العربية والفرنسية والإنجليزية. والحال أن الفوج الذي تنتمي إليه هذه المجموعة هو الذي تلقى الصدمة الأولى لتوقيف التعريب سنة 1994. يجب أن نكُف عن الشعبوية التي مارسها الأستاذ الوفا عندما تهكم من تجربة مدرسة التميز، وأجهضها بطريقة فجة، لا بد من احتضان المواهب والكفاءات الواعدة والإنفاق عليها بسخاء داخلَ التزامٍ منها بالوفاء للوطن وخدمته، والتزام منا بتوفير شروط الاستيعاب في حدود إمكانيتنا. هذه هي العينة التي ينبغي للمغرب الاستثمارُ فيها والالتزام معها حتى لا نظل نُهذر ثروتنا الحقيقية، ونكون الأطر للآخرين. 4 شبهةُ لغة الأم، أو اللغة الأم الكلمة السحريةُ، والحجةُ القاطعةُ التي يقومُ عليها اقتراحُ الدوارج موضوعاً للتعليم هي أن "لغة الأم" التي يتلقاها الطفل في سنواتِه الأولى تُهْذَرُ وتُبخَّس بالانتقال إلى لغة أخرى غريبةٍ عنها، هي الفُصحى. وحتى لا يعتقدَ القارئ أني بالَغْتُ حين قلتُ "غريبةً عنها مبخسةً لها" اعتماداً على كلام شفوي للسيد عيوش، فسأنقلُ من كلام باحثٍ أحالَ عليه باعتباره من الخبراء الذين يستفتيهم، ويعتمد على علمهم بقضايا اللغة، هو الأستاذُ الشكيري الذي قال: "اختيارُ التعليم بالعربية الفصحى [في الابتدائي] يكادُ يُلغي، بشكل فارق، كل معرفة الطفل الغنية التي جاء يحملها قبل التمدرس، ويبخس ثراءه الوجودي بأكمله منذ اليوم الأول للمدرسة، إذ يكبح قدرة الطفل على التعبير، ويُعيق فهم عالم المدرسة انطلاقا من عالمه الخاص". وَ"هكذا يحصل لدى الأطفال الناطقين بالعربية، منذ أول عهدهم بالمدرسة، اقتناعٌ بأن العربية الفصحى والدارجة بمثابة لغتين متباعدتين من شأنهما إعاقةُ الفهم". (الأحداث المغربية 29/11/2013). هذه الهوة التي حفرها الباحث بين الدارجة والفصحى لا يمكن تصورُها إلا إذا كان الطفل وأمُّه يَعيشانِ عزلةً شبيهةً بالتي عاشَها صغيرُ أبناء أفقير مع أمه في المعتقل، فقد كان أولَ ما صدمه هو الطريق المُعبد. استفزتني هذه الفقرةُ، ولكني لم أجد، وأنا أمامَ سلطة الاختصاص، غيرَ اتهام نفسي؛ أشفقتُ عليها من الحديث أمام أهل الدار. ولذلك اكتفيتُ بعملية رصْد ميدانية وتركت التعليق لأهل الدار، للأستاذ الفاسي الفهري وأصحابه. اكتفيتُ بأنْ قرأتُ الكلامَ أعلاهُ على مجموعة من رجال التعليم الممارسين، من معلمين وأساتذة، فكان مما جاء في تعليقهم: قالت أستاذة قضت 24 سنة معلمة مزدوجة: "الأم اللغوية اليوم هي الشاشة، مازال الرضيع بحفاظاته، ويا ويلك أن تغير المحطة وقت الإشهار أو الرسوم المتحركة، غادي يهرس ليك راسك بالغوات، أما لما تحضر الرسوم المتحركة، فإنه يتسمر في مكانه حتى تنتهي، ما يرمش..يتنفس بصعوبة، تانجي نداعبو تيضرب لي يدي...". وقال أستاذ: "آش من لغة الأم؟! الأطفال يحفظون الليث الأبيض وﮔريندايز والكابتان ماجد قبل الابتدائي، لا تسمع بعد انتهاء الحلقة إلا صياحهم بالحي: القرص الدوار، هَيَّ، اهجمْ.."، وتسمع الآخر: "إلى الجحيم... يا أعداء الله..". من الرسوم والإشهار إلى المسلسلات المدبلجة بالفصحى وبكل الدوارج العربية: المصرية والشامية والخليجية...الخ . علق أستاذ آخر: "ما تقول غير كانوا يتابعون مع أمهاتهم المدمنات على المسلسلات وهم في بطونهن..." وأخبرتني الأستاذة التي مارست التعليم الابتدائي (11سنة بالفرنسية، ثم 13 سنة بالعربية، في أربعة مدن مغربية)، أن التعليم بالعربية في التحضيري أيسرُ لأن المعجم متوفر عند الأطفال بنسبة عالية، تتبقى السلحفاة بدل الفكرون والجرانة بدل الضفدعة (وضحكت: ولا هي الدفضعة؟) كله نشاط ودهشة. في حين يتميز العمل بالفرنسية بالجودة والمتابعة: "التفتيش ماشي، والكتاب ماشي الكتاب... وقال آخر: "لستُ أدري هل توجد في العالم سطوح مغروسة بالصحون اللاقطة كما هو الحال في المغرب؟". ثم قال: "حلل وناقش..." وانصرف. سألتُ المجموعة التي تجوَّقتْ حولنا: ما هي نسبة التلاميذ الذين ينقطعون عن الدراسة بسبب اللغة؟ فبادرني أحدهم بالسؤال: أية لغة؟ قلتُ: العربية؟ قال: ولماذا لا يطرح السؤال على الفرنسية؟ هل العربية مكتوب على جبينها الانقطاع، هي لغة بحال اللغات! هل الفرنسية لغةُ أمِّ المغاربة؟ "هاد شي قولو للي تايقولو: ماما فرنسا!" لماذا لا يقولون إن الانتقال إليها يُنقص العربية كما تنقص هي الدارجة؟ ووجدت نفسي في قفص الاتهام.فشكرتهم واصرفت. أنا غير مقتنع بحديث الهوة بين الدارجة والفصحى بالشكل الذي يجعل الرصيد الدارجي يضيع، ولكني مقتنع بأنه سيُرقَّى ويُثمَّن. والمشكل ليس في هذا المستوى، المشكل فيما بعد، في غياب الكتاب والقراءة. إذا كان هناك فشل فهو لاحق لهذه المرحلة، موجود في العداوة بين الإنسان العربي والكتاب. المشكل موجود في العملية التعليمية، في عدم الإتقان. بعد الانتهاء من هذا المقال اطلعتُ على بعض أسرار الندوة التي تفسر هذا النوع من التصورات، وإليك السر: ذكرتْ أستاذةٌ حضرَت الندوة التي نظمها السيد عيوش أن جميع المداخلات كانت بالفرنسية، غيرَ تدخلٍ واحد بالإنجليزية، و"غابتْ العربية، بل وسعتِ التدخلا لبناء نعشها"، حسب تعبير الأستاذة. كما ذكرت أن اقتراحَ تدريسِ الدارجة استُخلصَ من تدخليْن، أحدُهما لأحد الأجانب (بنطو ليلا)، والثاني لعبد الله الشكيري. (سعيدة تاقي. الأحداث المغربية 06/12/2013). وقد نشر الأستاذ الشكيري دراسةً عن تعليم العربية لغير الناطقين بها، وألحقَ بهم المغاربة عرضا: ما يصدق على غير الناطقين بالعربية يصدق على المغاربة!! (الأحداث المغربية 29/11/2013). ذكَّرني هذا النوع من التفكير بفتوى القرضاوي الذي المغاربة بالمغتربين في قضية القروض! هذا هو العلمُ وإلاَّ فلا. وإذا عُرفَ السبب بطل العجب. 5 شبهة الهدر المدرسي الحجة التي ساقها السيد عيوش في الدفاع عن مقترح التدريج، وليس التدرُّج، هي "الهدر المدرسي"، وقد قدَّم إحصاءً يَدُق ناقوس الخطر فعلا. ولا يَسَعُ المرءَ إلا أن يُنوِّهَ بغيْرته وحرصِه على هذه الثروة الوطنية المهذورة. ولكن الأمر الذي يحتاج إلى بيان هو حصةُ تدريس اللغة العربية من هذا الهدر. وهذا السؤال غابَ عن الصحفي وعن المحاوِر. واستشهادُ السيد عيوش بالمدارس التي تُشرف عليها جمعيتُه ليس حُجةً، إذ يمكن دحضُه بوجود مؤسسات وأنظمة تعليمية جمعوية وحرة، وحتى عمومية، ينخفض فيها الهدر إلى أدنى الدرجات. موجودةٌ حاليا وموجودةٌ في تاريخ التعليم في المغرب. منها المدارس التي كانت تُشرف عليها الحركة الوطنية والجمعيات العلمية، مثل جمعية علماء سوس التي أشرفتْ على المعهد الإسلامي وفروعه الكثيرة في جنوب المغرب، بُعيدَ الاستقلال، موفرةً لأبناء البوادي السكنَ والمأكلَ. تلاميذ هذا المعهد، يصبحون أنحى من سيبويه في السنة السادسة ابتدائي. والدرسَ الأعظمُ لهذا المعهد هو أنه وُجِد أصلاٌ لعلاج الهدر المدرسي، فنجح في هذه المهمة بشكل باهر مذهل. فالتلاميذ الذين التحقوا به هم الذين فشلوا في التعليم العَصري، أو لم يتمكنوا من الالتحاق به بسبب السن. وما أحوجَ المغرب اليوم إلى تعليم من هذا القبيل، وإلى رجال من عينة ألئك الرجال. الهدر وانخفاضُ المستوى، بل ترديه، يرجع إلى أسبابٍ كثيرة ومعقدة، منها كما يعلم الجميع: 1 التجهيز، وفي التجهيز حدث ولا حرج. 2 والتأطير، وفي التأطير حدث ولا حرج. أعطني مدرسة تحترم الحدود الوسطى لراحة التلميذ والمعلم، أَعطني ظروف نقل مقبولة للطرفين، أعطني معلمين مكونين تكوينا مناسبا للمهمة التي يقومون بها ومتجددا، أعطني متابعة تربوية وإشرافا إداريا بعقلية تربوية لا بوليسية، وتحدث معي عن الهدر المدرسي. المدارس الحرة التي تُطبق هذه المقاييس لا تعرف شيئا اسمه الهدر المدرسي، وهي تطبق البرنامج التعليمي الحالي. تعليمُ اللغةِ يتطلبُ أن يُشارك التلميذ في الحوار، فكيف ستكون هذه المشاركة في أقسام يتجاوز فيها عدد التلاميذ الستين .. وقد سمعتُ مؤخراً، في إحدى الندوات، أن مُعدلَ التلاميذ في الأقسام في مدينة المحمدية هو 45 ، كيف ستدرس اللغة بهذا العدد؟! أطأطئ رأسي أمام كل المعلمين والأساتذة والمرشدين التربويين الذين يقومون بعملهم بضمير وإخلاص، أولئك الذين يكفي التلميذَ أن يحضر دروسهم سنة أو سنتين ليُتقن المادةَ التي يُدرِّسونها، ويحبَّها ويتمسكَ بها، ولكن هؤلاء صاروا غرباء في بيئة لا علاقة لها بالعملية التربوية. وأقولُ إن هناك طائفةً أخرى قد تُمثل السبب الأولَ للهذر المدرسي بعد ظروف التجهيز. أولئك الأشبه بالمرتزقة الذين ينامون في المدارس العمومية ويكرِّهون التلاميذ في المدرسة في جميع المواد، وليس في العربية وحدها، ثم تجدهم يعملون بأقصى جهد وفعالية في المدارس الخاصة وفي الساعات الإضافية. وهؤلاء البؤساء موجودون في جميع المستويات، حتى في الجامعة. وقد ثبطوا همم زملائهم الذين يحترقون وحدهم. أكره هؤلاء لأن عدوهم الأول في الأقسام هم التلاميذ النجباء المنضبطون الذين يطاردونهم بعلامات التعجب. يقول المثل المغربي: "طاحت الصمعة علقوا الحجام". "آش جاب شي لشي"؟! اسأل جميع الطفلات اللواتي غادرن المدرسة في البوادي وَعُدْنَ لجمْع الأزبال، وزواج الاغتصاب، عن سبب الانقطاع؟ سيكون الجواب: بُعْد المدرسة، وعدم وجود داخلية، وحاجة ولي جاهل لاستغلالهن خادمات...الخ. "لا تُلْصِقُوا ذُنوبَكم باللغة العربية". 6 الدارجة والسوقية: أمَّةُ العَرَنْسُوقْ لا أسيئ الظن بأحد، ولكني مضطر للربط بين بعض الوقائع التي لن يفلتها المؤرخ مستقبلا، إذ لا بد أن يقول: إن الدعوة إلى اعتماد الدارجة في التدريس قد سبقتها ممارسةٌ تشويهيةٌ تبدو موجهة ضد الفصحى، فأي الواقعتين وَجَّهتِ الأخرى أو قادتْ إليها؟ وسنكتفي بواقعتين، أو نموذجين. 6 1 مع انفتاحِ مَجالِ الإذاعات الخاصة ظهرتْ مجموعةٌ من التشوهات اللغوية، بل ظهرتْ بُقَعٌ عريضةٌ من التلوث. تمتد من خَلْطِ الدارجة المغربية بالفرنسية إلى استثقال أي تدخل بالعربية الفصحى والسخرية منه. ستقاطعني وتقول: ""زَدْتْ فِيهْ"! من سيسخر من الفصحى في المغرب؟!" ولذلك سأذكر لك واقعة محددة يمكن التأكد من صحتها. في إحدى هذه الإذاعات كانت إحداهن تحاورُ الممثل عبد الرحيم المنياري المعروف بدور الشرير في ملف مداولة. اتصل مُستمعٌ من منطقة الريف (الحسيمة أو الناضور) كان يتكلم عربية مبسطة نقية من الألفاظ الفرنسية، قريبة من مراعاة الإعراب. ثارت ثائرة المذيعة فطلبتْ منه أن يتحدث بلغة يفهمها المستمعون ولا دون ما يتحدث به تبسيط وألحت عليه، وكادت تقطع المكالمة، فاعتذر إليها بأنه قضى أكثرَ من خمسَ عشرةَ سنة في سوريا، فتركتْه يُكملُ على مَضَضٍ، وعندما انتهى تنفسَتِ الصُّعداء، وقالت بسخرية وَقِحَة للمُمثِّل الذي كان يَنِدُّ عنه ما يدل على الحرج: "فْهَمْتْ شي حاجَة؟!!" كان الممثل، لاشك، محرجا من سلوكها، ظهر ذلك في تفاعل إيجابيا وبلباقة زائدة مع المتصل مضمدا جراحه، اسألوا عبد الرحيم. قُلتُ للجالس بجانبي بحَنَق: "تيقولوا فالاقا ما مزيانه!!" وفي هذه الإذاعات سمعتُ مجموعةً من أشباه الممثلين/المخرجين والملحنين/المغنين يتهكمون من "السيارة" و"المستشفى" و"الدراجة"و "الثلاجة". قال أحد هذه "الميخيات" التي تعيشُ من اجترار العاهات اللغوية والنطقية أقصد صاحب البوشكليط أو البوكشليط: لا يُمكنُ أن يكونَ المستشفى في عمل فني، الذي يعرفه المغاربة هو السبيطار، وقال آخر وهو يضحكُ: تّخَيَّلوا فلانا يغني بَدَلَ: "يا الغادي فالطموبيل.."، "يا الغادي فالسيارة!!"، سيكون أُضحوكةً في نظره. الطوموبيل أفصحُ وأخفُّ نطقا من السيارة في ذوق هذا الميخي! من حق هؤلاء "الميديوكرات" (حسب اللهجة التي يفهمونها) أن يستعملوا المستوى اللغوي الذي يناسبُ مواهبَهم الفقيرة، وثقافتهم الضَّحْلة، فهم لا يستطيعون أن ينتجوا فنا رفيعا يُعلي ذوقَ الجمهور كالذي أنتجَه الفنانون: الطيب الصديقي، والمرحوم الطيب العلج، وشفيق السحيمي، ومن استفاد من الاحتكاك بهم، مثل ناس الغيوان وجيلالة والمشاهب...الخ. فمادتهم الوحيدة، كما يرى المشاهدون في رمضان، هي عرضُ العاهات اللغوية والتشوهات الخَلقية والخُلقية. هؤلاء تلاميذ المعلم زيطة صانع العاهات في زقاق المدق، رائعة نجيب محفوظ. فن العاهات، ودراما العاهات، موجودان على هوامش الثقافات والحضارات، موجودان في الزوايا المظلمة الرطبة، مثلها مثل العاهات الاجتماعية التي يشمئز منها الذوق السليم (مثل اللواط والسحاق وزنى المحارم، والاعتداء على الأصول، وكل الموبقات...الخ)، ولكن المشكل في المغرب هو أن هذه العاهات تزحف نحو المركز، وتقدم حتى على مائدة الإفطار في الشهر الأبرك، وفي القنوات التي يُنفق عليها المواطنون كما ينفقون على الضوء والماء. مع الماء والكهرباء ننفق على هذه القاذورات، شرف الله قدركم! فَلِمصْلحة من يعملُ صُناع العاهات في الإعلام المغربي؟ أجدُ نفسي أحيانا، وأنا استمعُ قهرا إلى هذه الإذاعات والقنوات، كمن ي