إن حديث السيد عيوش عن الشروع في التطبيق في مدارس خاصة تُشرف عليها جمعية زاكورة (حوالي 540 مدرسة) يتناقضُ مع الحديث عن تقعيد الدوارج وتَكْتيبِها، فمتى قُعِّدت وقد شُرِع في تطبيقها؟ هذا السلوك من باب وضع العربة أمام الحصان، كما يُقال. هذا التناقض ناتجٌ عن ركوب الغموض في التعبير عن الغرض: هل هو الاستعانة بالدارجة عند الحاجة إليها في دراسة الفصحى، كما هو معمول به في جميع مستويات التعليم، أم أن الدارجة هي موضوع الدراسة: هي البداية اليوم والنهاية غدا! عن أي دارجة يتحدثون؟ الدخول في التطبيق بهذه الطريقة العشوائية على المستوى الوطني متعذر لوجود اختلافات جهوية لها اعتبارها في العملية التعليمية. تَخيلْ مُعلماً من تطوان يُعلِّمُ أبناءَ بوجدور، أو سيدي بنور، أو هسكورة، لهجتَهم المحلية بألفاظه ولكنته الشَّمالية، ومُعلما من بوجدور يُعَلِّم أبناء الحي المحمدي، أو حي طوما، أو «دوار لاحوني» (وقد صار رمزا لكل الدواوير المهملة)، يعلمهم «دوارجَ أمهاتهم» بألفاظه ولكنته الحسانية، أي بدارجة أمه هو...الخ (؟!)، سيتحول المعلمُ إلى أُمِّيٍّ يَتندرُ به التلاميذ. وسيسمونه: «أمي»، أوْ «لغة أمي». (وقد درَّستُ في عمق الحي المحمدي (ثانوية الساقية الحمراء) وفي ضاحيته (ثانوية مصطفى المعاني)، ولا أرجمُ بالغيب). إن النكت التي تحكى عن سوء التفاهم بين لهجتي عاصمتي المغرب التاريخيتين، فاس ومراكش، كافية لبيان الأعطاب التواصلية التي يمكن أن تُحوِّلَ العمليةَ التعليميةَ (إن مورستْ وطنيا على أساس لهجة الأم التاريخية) إلى مسخرة، ولأن أكثر تلك النكت جنسية فسأختار أعفَّها وأقربَها إلى الواقع. يُروى أن أحد قُضاة فاس جلس للقضاء في حضرة الباشا التهامي الكلاوي، وعندما بدأ في استنطاق الخصمين كرر قوله: «آش تَتقولْ نْتِينا... وَاش تتقول نتينا؟». فما كان من الباشا إلا أن صرفه قائلا: «هذا غادي يردْنا كُلْنا عْيالاتْ! وبين الفاسيين والمكناسيين نُكَةٌ تتعلق بنطق المكناسيين الشين سينا؟ فقولُ الناهي: «ما تبولي شي هنا»، تحول في النقط المكناسي حسب النكتة إلى «مات بوليسي هنا»، فأتي الجواب: «الله يرحمو..!». والنوادر بين سكان أعالي درعة وسافلته كثيرة. فبعض دوارج درعة مشوب بالأمازيغية وبعضها مشوب باللغات الإفريقية، بحكم كون المنطقة ممرا تاريخيا نحو إفريقيا، استقر فيه الطرفان. والكل يدعي الفصاحة وحسن الخطاب، حتى من يقلب اللام نونا، ومن يقلب الطاء تاء...الخ. الإجراءُ الذي شرعَ السيد عيوش في تطبيقه غيرُ إجرائي بيداغوجيا، وغيرُ مأمونِ العَواقب على المستوى الوطني، وهذا ما عناه الأستاذ عبد الله العروي حين تحدث عن الشعوبية الجديدة وتفكيك الوحدة الوطنية. أما الاختيار الذي يقتضي تأهيل الدوارج بغربلتها صوتيا ومعجميا وتركيبيا قصْد تقعيدها فسيُوصل لا محالة إلى ضفاف الفصحى، وسيُعطي إمكانيةَ الذهاب والإياب بين اللغتين بسهولة، أي إغناء الدوارج بالرصيد المعرفي للغة العربية. وهو رصيدٌ لا يُستهان به. وهذه العملية ليست عملَ يوم وليلة، بل قد لا تفي بها عقودٌ من العمل الجاد، كما سبق. وستُواجَهُ الفصحى الجديدة بالمعضلة نفسها التي عانت منها العربية، وهي معضلةُ الكتابة والخط، إلى جانب باقي المعضلات، رحم الله الأخضر غزال، فقد قضى حياتَه على باب الأمل في الوصول إلى «الكتابة التي يَقرأ بها المتعلمُ لكي يفهم، بدل تلك التي تَطلبُ منه أن يفهم لكي يقرأ». لقد مات أمام الباب الذي ظلَّ مغلقا. وحين نصل إلى هذا الاختيار، ولا مفر منه، يجب أن تُعطى القوسُ باريها، أي أن يُفتح النقاش بين علماء اللغة الحقيقيين، الذين استوعبوا اللسانيات الحديثة وخبروا تاريخ اللغات وتجارب الأمم، وقبل ذلك كله لهم معرفة معمقة بالنحو العربي. فجوة: الحديث بصراحة يقتضي الاعتراف بأن الكثير من اللسانيين الحاليين غيرُ متضلعين في النحو العربي، بل منهم من يعوزه الحد الأدنى من المعرفة به، بل منهم من يجدُ صعوبةً في الحديث بطلاقة بالعربية. وطوال السنين التي درستها في الجامعة المغربية، خاصة في فاس، كان أستاذُ النحو من غير اللسانيين، وأستاذ اللسانيات من غير النحاة. يجب أن يتواصل هذان الطرفان أولا. انتهى. رغم أن السيد عيوش يؤكد أن المقصود ليس «حفر قبر العربية الفصحى» فإن الخطة التي يتحدث عنها تتضمن «حفر جذورها»، و»دَقَّ مسمار في جذعها». ولإماطة اللثام عن عملية الحفر تقمص الأستاذ العروي هيئة «تجاهل العارف» فقال في أول الحوار بأن دعوة السيد عيوش إلى التعليم بالدارجة تبدو كتحصيل حاصل، فهذه ممارسة عادية، ولكن السيد عيوش تلافى التصريح بأن المطلوب ليس الاستعانة بالدارجة في التدريس بل هو تدريسها. وبعد ذلك ظهر المقصود حين تحدث عن تقعيد الدارجة وكتابتها وعن غنى رصيدها الأدبي... الخ. فالغرض المرحلي الأول هو إخراج الفصحي من التعليم الأولي وسنوات من الابتدائي، ومن هنا إلى هناك يفتح الله. أما المسمار فتجده في الفقرة الموالية. وربما يكون «حفر الجذر» مجرد زوبعة لتغطية المسمار. مغالطة لغة العلم والمسمارُ الذي يُرادُ دقُّه في جذع العربية هو إخراجُها من تدريس العلوم ابتداءً من الثانوي بدعوى مُقَنَّعة، وهي استعمالُ الإنجليزية لأنها لغةُ العلوم في العصر الحديث!!! هذه مغالطةٌ حسب تقديري وتجربتي، والعلم لله. انْتَبِهْ جيدا: حين نتحدثُ عن هيمنة اللغة الإنجليزية في البحث العلمي لا نعني بالعلم ما يُقدم في المراحل الأولى. في المراحل الأولى تُقَّدمُ المعارفُ المصادقُ عليها، بطريقة مُيَسَّرة، وقد يُشارُ إلى آفاق البحث وأبوابه المفتوحة في كل مجال دون الدخول في التفاصيل. لا نقصد هذه المعارف المتوفرة في كل لغات الدول الصناعية، بل نقصد المجالات التي تعلُو فوقَ هذا المستوى كما تعلو قمةُ جبل توبقال وأُكايمدن على مصب وادي درعة وأم الربيع، أو على السهول التي تمر منها. العلوم التي تُقدم في هذه المستويات التمهيدية هي عُلوم المَصَبِّ، أو هي مياه السدود والحاقنات. أمَّا البحثُ في منابعِ العُلوم، في الاستكشاف، والإبداع، فستصل إليه النخبةُ التي ستجتازُ الإجازةَ بعدَ أن تكونَ قد اكتسبت لغة ثانيةً، أو أكثر، واسْتأنستْ بها، وَلْتَكُنْ هي الإنجليزية، وإن كُنتُ أعلمُ أننا لسْنا مُخيَّرين. إذا كانتْ نيتُنا صالحةً فلا بُدَّ أن نتساءل: ما الفائدة من تدريس العلوم بلغة أجنبية لِ»جمهور» تلاميذنا الذين لن يتابعوا الدراسات العليا والبحث العلمي؟ أليس من الأحسن أن يتلقوها باللغة العربية وينفتحوا على اللغات الأخرى بالتدريج، جنبا إلى جنب، على وتيرة الهرم المقلوب: فمن سيتوقفُ وسط الطريق (وهم الأكثر) سيأخذ معه إلى العربية والمجتمع المغربي رصيدا تَغتني به ثقافتنا الوطنية، ومن سيتسلق النهر نحو المنبع، أو سدرة المنتهى، سيتخذ اللغة الثانية والثالثة سلما يرتقي به؟ أما إذا كان الصوابَ، الذي لا صوابَ معه، هو أن ننزلَ بالمظلات في القمة جنبا لجنب مع أصحاب الإنجليزية فينبغي أن يُطبق هذا على جميع لغات العالم، التي ترصُد الإنجليزية وتتبع جديدَها في مجال المال والبحث العلمي، وعلى رأسها الفرنسية التي يدندنون بها وحولها. فالباحثون الفرنسيون المنكبُّون في مختبراتهم على تفكيك رموز الكون والإنسان يشتغلون فيما بينهم ومع مؤسساتهم وفي مؤتمراتهم الوطنية بالفرنسية، ويتمسكون بإغنائها بثمرات العلم، ولكن أكثر مراجعهم في الموضوعات الحساسة المتقدمة مراجع بالإنجليزية، والحظوةُ والمزيةُ في النشر للإنجليزية، وهي التي تفرض نفسها، بالتالي، في اللقاءات الدولية، وهذا أيضا دأب زملائهم الذين يديرون المال والتواصل وتوجيه العالم: الفرنسية في التداول الداخلي والإنجليزية في تجديد الخبرات وتداولها عالميا. فهم يقعون قُربَ القمة، قرب المنبع، يطلون عليه بنسبة صغيرة كما يطل عليه الألمان ومن في مستواهم. فلا تعجب، وإحصاءات النشر في الأعالي معروفة. ومهما كانت المسافة بيننا وبين تلك القمة فينبغي أن نظلَّ في تنمية عضلاتنا ومحاولة التسلق، والكف عن التفكير في تحطيم الذات أو «الحريق» إلى الجهة الأخرى بواسطة قوارب الموت. وهذه سنة التاريخ، كلما هَيمنتْ إمبراطورية كلما وفرت للغتها الأدوات والمواقع التي تجعلها أنجعَ وأنفعَ، والناس ميالون إلى ما ينفعهم. ومِنْ سوء التقدير، وعَماء التدبير، مقاطعةُ لغةِ الحضارةِ السائدةِ أو الاستسلامُ لها، لأنها لا تَلتفتُ إلى المُقاطع ولا تمسح على رأس المستسلم. حين نفرق بين المسلكين: مسلك التكوين من أجل تدبير الحياة بنتائج العلوم المتوفرة، ومسلك البحث المتقدم، سيكون مُشكلُ اللغة سهلا. وسنغني اللغةَ التي سنختارها لحياتنا الاجتماعية بدل عزلها عن العلوم، وقطعها عن التراث الأدبي والفكري والفني الذي خرجت منه. وهذا المسلك الذي أتحدثُ عنه سالكٌ ومُوصِّل، «جُرِّبَ فصحَّ، كما يقولون»، المهم هو التأطير والمتابعة. ففي جميع أنحاء العالم آلافٌ من الشبان المغاربة الذي خرجوا من هذا التعليم «الأعرج المتذبذب»، معتكفين على البحث والاختراع، أو يدبرون أعقدَ العملياتِ المالية والمعلوماتية: من النووي والفلكي إلى المالي والتدبيري. أعرفُ العشرات منهم بحكم علاقتهم بأبنائي الذين سلكوا نفس الطريق، وبحكم العشرات من أبناء الأصدقاء الأساتذة والمحامين والأطباء الذين عَوَّضوا النقص وأخذوا بيد أبنائهم خلال الانتقال في مدارج التعليم العمومي إلى أن تحولوا إلى باحثين وأطر عليا في جميع المجالات. وهاكَ إحدى التجارب التي يَسَّر لي القدر معايشتها: في أوائل التسعينات بادرت مجموعة مجتهدة من أساتذة كلية العلوم بفاس إلى إخراج حوالي 20 طالبا متفوقا من دوامة الإضرابات العشوائية التي كانت تشُلُّ الكلية. وَجَّهُوهم، خلال سنتين، في مسار هادف، وتخصص عملي مطلوب (ميكانيكا السوائل والحرارة)، ووفروا لهم الحواسب، في ذلك التاريخ المبكر، وسهلوا عليهم الحصول على التداريب، فحصلوا أحسن النتائج. في الأسبوع الماضي علمتُ أن واحدا من هذه المجموعة حصل على الامتياز، (أو مكافأة التفوق: prime d?excellence) في الفيزياء الحرارية، وهو باحث متميز في أحد المختبرات الفرنسية، وهو يُتقن العربية والفرنسية والإنجليزية. والحال أن الفوج الذي تنتمي إليه هذه المجموعة هو الذي تلقى الصدمة الأولى لتوقيف التعريب سنة 1994. يجب أن نكُف عن الشعبوية التي مارسها الأستاذ الوفا عندما تهكم من تجربة مدرسة التميز، وأجهضها بطريقة فجة، لا بد من احتضان المواهب والكفاءات الواعدة والإنفاق عليها بسخاء داخلَ التزامٍ منها بالوفاء للوطن وخدمته، والتزام منا بتوفير شروط الاستيعاب في حدود إمكانيتنا. هذه هي العينة التي ينبغي للمغرب الاستثمارُ فيها والالتزام معها حتى لا نظل نُهدر ثروتنا الحقيقية، ونكون الأطر للآخرين. شبهةُ لغة الأم، أو اللغة الأم الكلمة السحريةُ، والحجةُ القاطعةُ التي يقومُ عليها اقتراحُ الدوارج موضوعاً للتعليم هي أن «لغة الأم» التي يتلقاها الطفل في سنواتِه الأولى تُهْذَرُ وتُبخَّس بالانتقال إلى لغة أخرى غريبةٍ عنها، هي الفُصحى. وحتى لا يعتقدَ القارئ أني بالَغْتُ حين قلتُ «غريبةً عنها مبخسةً لها» اعتماداً على كلام شفوي للسيد عيوش، فسأنقلُ من كلام باحثٍ أحالَ عليه باعتباره من الخبراء الذين يستفتيهم، ويعتمد على علمهم بقضايا اللغة، هو الأستاذُ الشكيري الذي قال: «اختيارُ التعليم بالعربية الفصحى [في الابتدائي] يكادُ يُلغي، بشكل فارق، كل معرفة الطفل الغنية التي جاء يحملها قبل التمدرس، ويبخس ثراءه الوجودي بأكمله منذ اليوم الأول للمدرسة، إذ يكبح قدرة الطفل على التعبير، ويُعيق فهم عالم المدرسة انطلاقا من عالمه الخاص». وَ»هكذا يحصل لدى الأطفال الناطقين بالعربية، منذ أول عهدهم بالمدرسة، اقتناعٌ بأن العربية الفصحى والدارجة بمثابة لغتين متباعدتين من شأنهما إعاقةُ الفهم». (الأحداث المغربية 29/11/2013). هذه الهوة التي حفرها الباحث بين الدارجة والفصحى لا يمكن تصورُها إلا إذا كان الطفل وأمُّه يَعيشانِ عزلةً شبيهةً بالتي عاشَها صغيرُ أبناء أفقير مع أمه في المعتقل، فقد كان أولَ ما صدمه هو الطريق المُعبد. استفزتني هذه الفقرةُ، ولكني لم أجد، وأنا أمامَ سلطة الاختصاص، غيرَ اتهام نفسي؛ أشفقتُ عليها من الحديث أمام أهل الدار. ولذلك اكتفيتُ بعملية رصْد ميدانية وتركت التعليق لأهل الدار، للأستاذ الفاسي الفهري وأصحابه. اكتفيتُ بأنْ قرأتُ الكلامَ أعلاهُ على مجموعة من رجال التعليم الممارسين، من معلمين وأساتذة، فكان مما جاء في تعليقهم: قالت أستاذة قضت 24 سنة معلمة مزدوجة: «الأم اللغوية اليوم هي الشاشة، مازال الرضيع بحفاظاته، ويا ويلك أن تغير المحطة وقت الإشهار أو الرسوم المتحركة، غادي يهرس ليك راسك بالغوات، أما لما تحضر الرسوم المتحركة، فإنه يتسمر في مكانه حتى تنتهي، ما يرمش..يتنفس بصعوبة، تانجي نداعبو تيضرب لي يدي...». وقال أستاذ: «آش من لغة الأم؟! الأطفال يحفظون الليث الأبيض و?ريندايز والكابتان ماجد قبل الابتدائي، لا تسمع بعد انتهاء الحلقة إلا صياحهم بالحي: القرص الدوار، هَيَّ، اهجمْ..»، وتسمع الآخر: «إلى الجحيم... يا أعداء الله..». من الرسوم والإشهار إلى المسلسلات المدبلجة بالفصحى وبكل الدوارج العربية: المصرية والشامية والخليجية...الخ . علق أستاذ آخر: «ما تقول غير كانوا يتابعون مع أمهاتهم المدمنات على المسلسلات وهم في بطونهن...» وأخبرتني الأستاذة التي مارست التعليم الابتدائي (11سنة بالفرنسية، ثم 13 سنة بالعربية، في أربع مدن مغربية)، أن التعليم بالعربية في التحضيري أيسرُ لأن المعجم متوفر عند الأطفال بنسبة عالية، تتبقى السلحفاة بدل الفكرون والجرانة بدل الضفدعة (وضحكت: ولا هي الدفضعة؟) كله نشاط ودهشة. في حين يتميز العمل بالفرنسية بالجودة والمتابعة: «التفتيش ماشي، والكتاب ماشي الكتاب... وقال آخر: «لستُ أدري هل توجد في العالم سطوح مغروسة بالصحون اللاقطة كما هو الحال في المغرب؟». ثم قال: «حلل وناقش...» وانصرف. سألتُ المجموعة التي تجوَّقتْ حولنا: ما هي نسبة التلاميذ الذين ينقطعون عن الدراسة بسبب اللغة؟ فبادرني أحدهم بالسؤال: أية لغة؟ قلتُ: العربية؟ قال: ولماذا لا يطرح السؤال على الفرنسية؟ هل العربية مكتوب على جبينها الانقطاع، هي لغة بحال اللغات! هل الفرنسية لغةُ أمِّ المغاربة؟ «هاد شي قولو للي تايقولو: ماما فرنسا!» لماذا لا يقولون إن الانتقال إليها يُنقص العربية كما تنقص هي الدارجة؟ ووجدت نفسي في قفص الاتهام.فشكرتهم وانصرفت. أنا غير مقتنع بحديث الهوة بين الدارجة والفصحى بالشكل الذي يجعل الرصيد الدارجي يضيع، ولكني مقتنع بأنه سيُرقَّى ويُثمَّن. والمشكل ليس في هذا المستوى، المشكل فيما بعد، في غياب الكتاب والقراءة. إذا كان هناك فشل فهو لاحق لهذه المرحلة، موجود في العداوة بين الإنسان العربي والكتاب. المشكل موجود في العملية التعليمية، في عدم الإتقان. بعد الانتهاء من هذا المقال اطلعتُ على بعض أسرار الندوة التي تفسر هذا النوع من التصورات، وإليك السر: ذكرتْ أستاذةٌ حضرَت الندوة التي نظمها السيد عيوش أن جميع المداخلات كانت بالفرنسية، غيرَ تدخلٍ واحد بالإنجليزية، و»غابتْ العربية، بل وسعتِ التدخلات لبناء نعشها»، حسب تعبير الأستاذة. كما ذكرت أن اقتراحَ تدريسِ الدارجة استُخلصَ من تدخليْن، أحدُهما لأحد الأجانب (بنطو ليلا)، والثاني لعبد الله الشكيري. (سعيدة تاقي. الأحداث المغربية 06/12/2013). وقد نشر الأستاذ الشكيري دراسةً عن تعليم العربية لغير الناطقين بها، وألحقَ بهم المغاربة عرضا: ما يصدق على غير الناطقين بالعربية يصدق على المغاربة!! (الأحداث المغربية 29/11/2013). ذكَّرني هذا النوع من التفكير بفتوى القرضاوي الذي وصف المغاربة بالمغتربين في قضية القروض! هذا هو العلمُ وإلاَّ فلا. وإذا عُرفَ السبب بطل العجب. شبهة الهدر المدرسي الحجة التي ساقها السيد عيوش في الدفاع عن مقترح التدريج، وليس التدرُّج، هي «الهدر المدرسي»، وقد قدَّم إحصاءً يَدُق ناقوس الخطر فعلا. ولا يَسَعُ المرءَ إلا أن يُنوِّهَ بغيْرته وحرصِه على هذه الثروة الوطنية المهدورة. ولكن الأمر الذي يحتاج إلى بيان هو حصةُ تدريس اللغة العربية من هذا الهدر. وهذا السؤال غابَ عن الصحفي وعن المحاوِر. واستشهادُ السيد عيوش بالمدارس التي تُشرف عليها جمعيتُه ليس حُجةً، إذ يمكن دحضُه بوجود مؤسسات وأنظمة تعليمية جمعوية وحرة، وحتى عمومية، ينخفض فيها الهدر إلى أدنى الدرجات. موجودةٌ حاليا وموجودةٌ في تاريخ التعليم في المغرب. منها المدارس التي كانت تُشرف عليها الحركة الوطنية والجمعيات العلمية، مثل جمعية علماء سوس التي أشرفتْ على المعهد الإسلامي وفروعه الكثيرة في جنوب المغرب، بُعيدَ الاستقلال، موفرةً لأبناء البوادي السكنَ والمأكلَ. تلاميذ هذا المعهد، يصبحون أنحى من سيبويه في السنة السادسة ابتدائي. والدرسَ الأعظمُ لهذا المعهد هو أنه وُجِد أصلاٌ لعلاج الهدر المدرسي، فنجح في هذه المهمة بشكل باهر مذهل. فالتلاميذ الذين التحقوا به هم الذين فشلوا في التعليم العَصري، أو لم يتمكنوا من الالتحاق به بسبب السن. وما أحوجَ المغرب اليوم إلى تعليم من هذا القبيل، وإلى رجال من عينة ألئك الرجال. الهدر وانخفاضُ المستوى، بل ترديه، يرجع إلى أسبابٍ كثيرة ومعقدة، منها كما يعلم الجميع: 1 التجهيز، وفي التجهيز حدث ولا حرج. 2 والتأطير، وفي التأطير حدث ولا حرج. أعطني مدرسة تحترم الحدود الوسطى لراحة التلميذ والمعلم، أَعطني ظروف نقل مقبولة للطرفين، أعطني معلمين مكونين تكوينا مناسبا للمهمة التي يقومون بها ومتجددا، أعطني متابعة تربوية وإشرافا إداريا بعقلية تربوية لا بوليسية، وتحدث معي عن الهدر المدرسي. المدارس الحرة التي تُطبق هذه المقاييس لا تعرف شيئا اسمه الهدر المدرسي، وهي تطبق البرنامج التعليمي الحالي. تعليمُ اللغةِ يتطلبُ أن يُشارك التلميذ في الحوار، فكيف ستكون هذه المشاركة في أقسام يتجاوز فيها عدد التلاميذ الستين .. وقد سمعتُ مؤخراً، في إحدى الندوات، أن مُعدلَ التلاميذ في الأقسام في مدينة المحمدية هو 45 ، كيف ستدرس اللغة بهذا العدد؟! أطأطئ رأسي أمام كل المعلمين والأساتذة والمرشدين التربويين الذين يقومون بعملهم بضمير وإخلاص، أولئك الذين يكفي التلميذَ أن يحضر دروسهم سنة أو سنتين ليُتقن المادةَ التي يُدرِّسونها، ويحبَّها ويتمسكَ بها، ولكن هؤلاء صاروا غرباء في بيئة لا علاقة لها بالعملية التربوية. وأقولُ إن هناك طائفةً أخرى قد تُمثل السبب الأولَ للهدر المدرسي بعد ظروف التجهيز. أولئك الأشبه بالمرتزقة الذين ينامون في المدارس العمومية ويكرِّهون التلاميذ في المدرسة في جميع المواد، وليس في العربية وحدها، ثم تجدهم يعملون بأقصى جهد وفعالية في المدارس الخاصة وفي الساعات الإضافية. وهؤلاء البؤساء موجودون في جميع المستويات، حتى في الجامعة. وقد ثبطوا همم زملائهم الذين يحترقون وحدهم. أكره هؤلاء لأن عدوهم الأول في الأقسام هم التلاميذ النجباء المنضبطون الذين يطاردونهم بعلامات التعجب. يقول المثل المغربي: «طاحت الصمعة علقوا الحجام». «آش جاب شي لشي»؟! اسأل جميع الطفلات اللواتي غادرن المدرسة في البوادي وَعُدْنَ لجمْع الأزبال، وزواج الاغتصاب، عن سبب الانقطاع؟ سيكون الجواب: بُعْد المدرسة، وعدم وجود داخلية، وحاجة ولي جاهل لاستغلالهن خادمات...الخ. «لا تُلْصِقُوا ذُنوبَكم باللغة العربية».