"لا أدري بأيّ أسلحة سيجري خوض الحرب العالمية الثالثة، لكن المؤكد أن الحرب العالمية الرابعة ستكون بالعصي والحجارة" (أينشتاين). الحرب/إشكالية المفهوم: الحرب، تفعيل للممارسة السياسية بطرق وأساليب أخرى، غير المنظومة المدنية. السياسة، تجلٍّ ضمني لممكنات الحرب دون الاستعانة بصوت البنادق. الحرب، مجرد تكتيك سياسي. السياسة، حرب تكتيكية بالدرجة الأولى في غاية المكر والخديعة. الحرب والسياسة، وجهان لعملة واحدة، فقط تتباين وسائل تحقيق الرهانات. الحياة، حرب قبل وبعد كل شيء. لقد انتصر، من مات بأقل التَّبعات والخسائر الحتمية، فغادر العالم مبكرا وقد احتفظ بجانب من إنسانيته؛ بِكرا لم تمسسه لوثة مستنقعات الحياة. أكبر أنواع الحروب وأعظمها جميعا، التي يخوضها الشخص كل لحظة ضد نزعات التعديم الكامنة فيه، أن يظل إنسانا تبعا لنقاء فطرته، يمارس حياته كامتداد خالص لإملاءات إنسانيته. أكبر معركة بوسع الإنسان خوضها، ثم يقيس معايير انتصاره أو هزيمته، تكمن في انتصاره على منزلقات ذاته. الحرب مكوِّن وجودي لا غنى عنه، تتأسس به قوانين العالم السفلي ومن خلاله. إنه النفي وكذا النقيض السلبي، الذي يحفز ويحثُّ باحثا عن الوجه الآخر؛ لحياة تحاول بكيفية جديدة وعلى غير ذات المعنى المعهود استثمار نتائج الحرب، فترسي دعائم لنفسها، بناء على أنقاض الحرب. الحياة حرب. الحرب مشروع حياة، ولادات أخرى تنبثق من الحرب، حياة جديدة مختلفة عن ما قبل الحرب. تعشق حياة ما بعد الحرب، ذاتها أكثر فأكثر، تتحمَّل وجودها بحرية وتجَمِّله عشقا.الحياة هنا، محتفية كلِّيا بتطلعها نحو مضاعفة إمكاناتها، كي تتحاشى فخاخ الميتات المجانية. يحارب الشخص ذاته. يحارب الجميعُ الجميعَ. تحارب طبقات المجتمع بعضها البعض. يحارب الأثرياء الفقراء. يحارب الفقراء طواحين الهواء. يحارب بياض النهار سواد الليل. يحارب الأنذال الشرفاء. يحارب الشرفاء مصير سيزيف. يحارب المجتمع، ممكنات بقائه على قيد الحياة، حينما يضيِّع باستفاضة حمقاء أسباب الحياة، ثم يستكين في المقابل إلى محرِّضات الثاناتوس التي تعمم الموت في كل مكان؛ ولا شيء غير الاحتفال بالعدم. ترتبط الحروب، مثل جلِّ تجليات الحياة التراجيدية بآلام التحولات المفصلية.ترسم الحروب لا محالة، خرائط جديدة على جميع المستويات التاريخية فالجينية. تلج جماعة أو جماعات بل البشرية قاطبة منظومة أخرى مغايرة لما سبق: على الأقل في خضم مسارات التاريخ المعاصر، الحرب العالمية الأولى والثانية، الحرب القطبية الباردة، ثم حروب أخرى أقل امتدادا إن شئنا من ناحية التأثير، عرفتها مناطق مختلفة في العالم. أيضا، لعبت دورا بخصوص تغيرات مسار التاريخ وفتحت الطريق بكيفية مباشرة أو ضمنية، كي تنحدر دول أو تصعد أخرى. الحرب مجاز لا ينضب مَعينُه بخصوص حقائق عدة متباينة. الحرب حَمَّالة وجوه، تأخذ دلالاتها وشتى إحالاتها؛ سواء الهدامة والبناءة، وفق جدلياتهما الدائمة تبعا لنتائجها الآنية، ثم متوسطة المدى أو بعيدة الآثار. درس الحرب: هل تظل حياة الإنسان كما هي، قبل الحرب ثم خلاله وبعده؟ حتما، عندما تندلع حرب فوهات المدافع. الحرب المادية المباشرة، ذات الصوت المدَوِّي بخلاف مظاهر الحروب التي أشرت إليها، المحايِثة والناعمة والمنسابة، تبدو هنا واضحة تجليات تقويض مرتكزات المنظومة القائمة سلفا، على الأقل تلك المظاهر المادية والمعطيات العينية المَرْئية، لكن يبقى السؤال مطروحا للتأمل بخصوص القطائع الفكرية والقيمية. هل تتغير الشعوب، في غضون سياق الحروب نحو الأفضل أو الأسوأ؟. طبعا، هناك خراب ميداني شمل مظاهر الحياة المدنية. عود على بدء، بحيث تحتاج مسألة إعادة التعمير إلى ملايير الدولارات وسنوات طويلة من العمل الطويل. قد تكون، حربا صغيرة خاطفة؛ تشغل أسابيع معدودة فقط لكنها تخلق خسائر مهولة، وحتما يتسع مفعول التراجيديا، قدر ترسخ أمد التخريب.الحرب وحش كاسر، بلا حس يذكر. غول يبتلع في لمحة بصر كل ما يجده أمامه. تكشف الحرب للبشرية حقائق مغايرة، تضمرها الحياة، ظلت في غفلة حيالها أو تغاضت عنها أو فقط تم تأجيل مواجهتها.حقائق موجعة، تعكس جوهر مصير الوجود الإنساني: الألم، الفقد، الافتقاد، العزلة، الاغتراب، المرض، الهجرة، النفي، الحرمان، الضياع، التشرد، الموت، العدم. هكذا، يجد الإنسان بغتة نفسه أمام عرائه دونما مواربة، وقد تجرد من شتى أنماط العزاء والاستكانة المطمئِن إليها فترات "الاستقرار" و"السلام". أعتقد في هذا السياق، بأن الحرب حقا تجربة تجريدية خالصة قاسية للغاية، تبرز بكيفية لا لبس معها عن الجانب الفطري/البدائي المتربِّص دائما بالوعي الإنساني، يمكنه خلال أيِّ لحظة الهيمنة وممارسة أهوائه دون قيد ولا شرط. غير، أن دروس الحرب ومواعظه ووصاياه، لا يمكنها جعل نزعة التطهير تلك مجرد هذيان، بل تعكس في نهاية المطاف، انطلاقة بنيوية تؤسس لبداية مغايرة، استفادت بالمطلق من المقدمات التي أودت إلى الحرب. الحرب ذاكرة طويلة موجعة. تستدعي في كل الأحوال، مهما تباينت الدواعي والحيثيات والنتائج، دروسا حكيمة، يلزم استثمارها والاستفادة منها قصد التسامي بالحياة أكثر فأكثر، وتجنب المستقبل عدم السقوط ثانية في ذات أخطاء الماضي التي انتهت حربا، بالتالي تكريس الأفق الإنساني على حساب باقي الرهانات الأخرى، التي كشفت دائما عن فشلها الذريع، واستدرجت البشر نحو متاهات الدمار والخراب. الحرب/بناء الإنسان: لا مندوحة من جعل الإنسان محور المشاريع المجتمعية البنَّاءة، حقبتي السلم أو الحرب، بل من الضروري ترسيخ نبل النزعة الإنسانية، واستدعاء الأخيرة كمرجعية أولى، من طرف أهل الحل والعقد، كطوق نجاة لا محيد عنه بهدف تجنب تطور العالم وانتهائه عند فواجع هدَّامة في طليعتها فاجعة الحرب. كل الحروب التي اختبرت الإنسانية ويلاتها، مصدرها غالبا محض نزاعات دوغماطيقية جيو-استراتيجية واقتصادية؛ يلوِّح بها ويشعل فتيل نيرانها ساسة، تحكمهم مصالح فئوية ضيقة، ثم تعمل غوغائية البروباغندا الإعلامية التابعة على تغليفها وتأثيثها بديماغوجيات إيديولوجية عرقية مذهبية قصد الإقناع والتبرير. حتما، لم توجد فوق الأرض ولن توجد في يوم من الأيام، ما بقي العالم، المدينة الأفلاطونية المثالية، بالتالي سنعاين دوما حروبا وتعميما مقصودا للموت، قدر استمرار الحياة هنا وهناك، لأسباب تتوزع بين هذا وذاك، وكلما ابتعدنا عن وازع أو لانية الحقيقة الإنسانية، بالنسبة لمختلف المشاريع المجتمعية، تبرز وجهة السطح دواعي الحرب وينتعش دعاة القتل، وتجار الموت. والعكس الصحيح. ينبغي بناء الإنسان، جعل الأنسنة محور المنظومات المجتمعية، كَوْننة هذه القيم بالسعي دون تردد في سبيل ترسيخها، قصد توطيد ممكنات السلام بكيفية مستفيضة ونتحاشى قدر المستطاع السقوط الهمجي حين اندلاع الحرب، ثم امتلاك مَلَكَة تحويل مختلف السلبيات إلى إيجابيات، عبر الارتقاء الدائم بالعائق نحو تحول نوعي يخلق ممكنات ظلت متوارية. يخوض الإنسان المتشبِّع بقيم السلام، الحرب بإباء ورقي. يحاول، إبانها تدارك الهمجية التي تسكنه، تظل عالقة تتربص فقط بلحظة استدعائها. أيضا، هو إنسان سويّ، في كل الأحوال، قد أجبر لظروف ما، على خوض الحرب، لكنها مناسبة أيضا للسمو واختبار إنسانيته فعلا على محكِّ السياق قياسا لأرض الواقع. الحرب/الوطن: تجابه الحرب، الأسئلة الوجودية الكبيرة. تخلخل، الثوابت واليقينيات القائمة.أخيرا، يستعيد الإنسان زخم دواخله. ينفصل، عن تلك الأوليات التي رسمت العالم الخارجي.ينتشل ذاته، من براثن سذاجة حقائق الظاهر التي استغرقه سحرها طويلا. يسائل قناعاته، بدءا من إشكالية: لِمَا الحرب؟ هناك اختلال! شيء ما، ليس على ما يرام، جرى ويجري! مرتكزات عدة، اعتُبِرت معطيات لا غنى عنها، في حين ماهيتها ليست كذلك. أعتقد بهذا الخصوص، أن مختلف منعرجات نظرية التقويض والمنفصل، وكذا أفق الارتياب المترتب بحدة عن تجليات واقعة الحرب، انطلاقا من كون العالم لا يسير باستمرار فقط على وقع وإيقاع أهوائنا ورغباتنا. وددتُ القول، بأنها تدور حول نواة ثلاثة مفاهيم جوهرية تشكل منذئذ اللبنة الأساسية لثقافة الحرب، خلالها وبعدها. أقصد: الوطن، البساطة، المكابدة. الوطن ملاذنا الأول والأخير. يلزم بناؤه بسلام فترات اللا-حرب، فينعم دائما بسلام عدالة وقوة وشجاعة وإباء الفرسان المحاربين. سبيله صوب ذلك، الفلسفتان المستخلصتان من كنه الحروب، بتأكيدها في نهاية المطاف على وازع الجدية والمكابدة ضمن موجهات ثقافة البساطة العميقة حتما. الحروب/الشعوب وحدها: كلما، تراجع التمدن اندلعت الحرب. كلما، غابت الديمقراطية والحكمة، اندلعت الحرب. كلما، تضاربت مصالح الأقليات اندلعت الحرب. كلما، توسع منطق الهيمنة على حساب انفتاح تعدد وجهات النظر، اندلعت الحرب. كلما، ضاق أفق التفكير لصالح مرجعيات أخرى ظرفية، اندلعت الحرب. كلما ترهل بناء مجتمع وشاخت هياكله، اندلعت الحرب. كلما، تكرست أخلاق البيروقراطية والوصولية تحت رعاية أوليغارشية معينة، اندلعت الحرب. كلما مات الضمير الإنساني، اندلعت الحرب. كلما توطد صوت المستذئبين وتجار الآلام، اندلعت الحرب. كلما ازداد التيه والعمى والتضليل، اندلعت الحرب. كلما، غاب البناء والتأسيس والمؤسَّسة المتجددة، اندلعت الحرب. لحظتها، وحدها الشعوب تعاني.