عندما نستطلع أغلب قصص الحب، نجدها كلها – تقريبا- لها نهاية حزينة وتراجيدية أحيانا كثيرة. ويزداد الأمر استغرابا، عندما ندرك أن هذه القصص الغرامية كانت من الصدق والصفاء والقوة بمكان. بمعنى هل الأمر له علاقة بطبيعة عاطفة الحب، حيث يكون جميلا وساحرا في بداياته، وماكرا وخائنا في نهاياته؟ ويجرنا هذا إلى أن نتساءل مع محمود درويش: أليس "الحب كذبتنا الصادقة"؟ إن معظم الذين أحبوا بعمق لم يستطيعوا الظفر بمحبوباتهم، فماتوا كمدا وحسرة وحزنا وشوقا. أسماؤهم دارجة على كل لسان منهم: مجنون ليلى، وجميل بثينة، وعنترة بن شداد، وروميو وجولييت... إلخ. الواقع أنه لو قدر لهؤلاء العشاق النجاح في قصصهم واجتمعوا بمعشوقاتهم لما كتبوا حرفا، ولما خلفوا لنا سطرا مما نقرأه اليوم في رسائلهم وأشعارهم وخواطرهم وسيرهم. فبعد فشلهم في الحب، لم يتبق لهم من أنيس أو سند سوى الكتابة، لإفراغ فائض مشاعرهم المكلومة وآلامهم وهمومهم الكامنة. لقد كانت الكتابة بالنسبة لهم العزاء الوحيد، بعد الفشل والخذلان والهزيمة والوحدة التي ألمت بهم. وهذا ما تدرج على تسميته – اليوم- الكتابات بالتداوي بالكتابة. صحيح أن سيناريوهات وسياقات قصص الحب تختلف من شخص إلى آخر ممن قرأنا لهم وعنهم؛ لكن ما يجمعهم هو فيض المشاعر وصدق الحب وصفاؤه، بعيدا عن النوايا البراغماتية والجنسية التي تغزو هذا الجيل. لقد كان هؤلاء مبالغين جدا في الحب، ولهذا فقد كانت نهاياتهم مأساوية وحزينة، بالقدر نفسه من المبالغة. فبعضهم أصيب بالجنون، وبعضهم انتحر، وآخرون آووا إلى الانزواء والعزلة عن العالم، وأصبحوا متشائمين إلى أبلغ الحدود، في كل ما يتعلق بالمرأة والحب. وهكذا فقد صدق علي بن أبي طالب حينما قال: "أحبوا هونا وأبغضوا هونا"، وقال أحدهم أيضا: لا تبالغوا في الحب ولا تتعمقوا كثيرا، فدرجة عمقك اليوم، هو مستوى جرحك وخيبتك غدا. بصرف النظر عن خيبة الأمل التي مني بها العشاق، والمعاناة النفسية التي كابدوها من وراء تجاربهم العاطفية الفاشلة، فإن ما ربحوه هو أنهم صنعوا المجد والخلود لأنفسهم ضمن "أبطال وعظماء التاريخ"، إلى جانب القادة العسكريين والسياسيين. أذكر في هذا السياق أني كنت قد طرحت هذه الفكرة على إحدى النساء واستشهدت بقيس (مجنون ليلى)، والمفارقة هنا هو أن جواب هذه المرأة التي يفترض أن تتعاطف مع قيس لأنه جنَّ بسبب بنات جنسها تهكمت عليه وقالت: أنا لا أرى أي فعل عظيم في ذلك، بل مجنون وكفى!. ثمة إشكال فلسفي يحمله الحب في طياته هو: لماذا يتضمن الحب منطق الثنائيات: فرح/ حزن، داء/ دواء، لقاء/ غياب، بهجة/ دموع،... إلخ. ثم لماذا يكثر حزننا عندما نقع في الحب، فالمطلوب أن نكون سعداء؟. عندما نتأمل قليلا، نجد أن ما يفسر هذه المشاعر السلبية هو خوفنا من فقدان وخذلان وتخلي من نحب، ناهيك أننا نغدو ديكتاتوريين وأنانيين ويزيد كبرياؤنا تجاه من نحب، نريد من الآخر أن يتنازل عن كبريائه والآخر أيضا يتوقع ذلك من الأنا، علما أن الاثنين يريدان ويعشقان بعضهما، وكأنهما يتلذذان في تعذيب نفسيهما. ويزداد الحب إيلاما عندما يتسلل إلى بعض العلاقات فيفسدها ويخربها، وهذا يحدث عندما يكون الحب من طرف واحد، وينتظر من الآخر أفعالا وسلوكات واهتماما ليست ذات بال عند هذا الآخر. يرى الفيلسوف شوبنهاور، وهو الفيلسوف المعادي للحب والمرأة بوجه عام، أننا عادة ما ننخدع في الحب، فلسنا نحن الذين نختار من نحب، بل الطبيعة هي التي تتولى ذلك وفق الحاجة إلى نسل مناسب. ويوضح بوتون في كتابه (عزاءات الفلسفة) هذه المسألة، عندما لا نجد، مثلا، رجلا طويل القامة أو الأنف، رفقة امرأة بنفس الخصائص، ولعل هذا ما يجنب الرجل تواجد نقاط قبحه وضعفه في نسله. وعندما نقول إن الزواج "مقبرة الحب"، نستدعي – مرة أخرى – شوبنهاور الذي يؤكد أن الحب خدعة وحيلة من نسج الطبيعة، من أجل الإيقاع بالإنسان وجره إلى التناسل عن طريق الزواج؛ "لأنها تدرك، بحسب شوبنهاور، أن الإنسان أعقل من أن يتكبد عناء التناسل عن طواعية فيما لو لم توجد غواية قوية إلى درجة تجعله يفقد عقله. لقد وُجد الحب لكي نفقد عقولنا. وهذا كل ما في الأمر". لقد كان الحب حاضرا إلى جانب السياسة في صنع التاريخ وتوجيه الأحداث التاريخية، إذ تعلق الإمبراطور الروماني نيرون بامرأة تدعى بوبيا سابينا poppea sabin، قيل إنها: "كان لها نصيب موفور من كل شيء إلا الشرف"؛ غير أن هذه المرأة رفضت أن تكون عشيقة له إلا إذا طلق زوجته الأولى (كلوديا أكتي)، وهو الأمر الذي عارضته الأم بما أوتيت من حيلة، لكن بوبيا كانت أكثرها كيدا حيث جعلت نيرون يحقد على أمه إلى أن بلغ به ذلك إلى قتلها. وفي زمن المماليك، لمع نجم شجرة الدر، التي تزوجت المعز أيبك، بعد وفاة زوجها الصالح نجم الدين، وسيطرت عليه وعلى الدولة برمتها، وأصبحت تدير الحكم من خلاله. ولعب الحب كذلك دورا في حالة الضعف التي آلت إليها الأندلس، حيث سيطرت النساء على ملوك الطوائف الذين انغمسوا في المجون والسهر والملذات. كما انفصل المجتمع الغرناطي إلى شطرين، حينما سيطرت (ثريا) على قلب السلطان أبي الحسن وأوغرت صدره ضد زوجته الأولى (عائشة الحرة) وابنه، وحاولت إخلاء الجو لتقلد ابنها الحكم. لعل المتابع للدراما التركية سيخلص إلى تكوين صورة قاتمة عن الحب؛ فهو يبث الفتنة في العائلة بعد الاستقرار، والفرقة والضياع بعد الوحدة والاجتماع، ويستعدي الأخ على أخيه فيقع بينهما التناحر والانشطار، وبسبب الحب تذهب الصداقة أدراج الرياح، ويبيت المحب متقلبا في سريره قلقا بلا ارتياح... إن الحب ينقل المُحب من خانة الفاعل والمتبوع، إلى مربع المفعول به والتابع، على اعتبار أن الفاعل والمتبوع هي الحبيبة أو المعشوقة أو... ولذلك، يبدو الواقع في الحب كالغريق يحاول التشبث بأدنى شيء يمكن أن ينجيه من الغرق، كذلك المحب يمكنه فعل أي شيء في سبيل الاجتماع بالمرأة التي يحبها. أليس ذلك ما تصوره لنا المسلسلات التركية صباح مساء على شاشاتنا العربية؟ فليس مصادفة إذن ولا عبثا أن تعنون تلك المسلسلات بعناوين مثيرة من قبيل: حب أعمى، العشق الأسود، العشق الممنوع، سامحيني... فثمة توافق وانسجام تام بين الدال والمدلول. * كاتب وباحث