الأصل في الطب الوقاية التي تأتي قبل العلاج وتحتل أهمية أكبر منه. والمنطقي أن تعالج الأسباب وليس الإعراض عنها. و بديهي جدا أن أحوال البلدان لا و لن تستقيم إلا بإصلاح التعليم فيها بكافة جوانبه وعناصره الأساسية. فإذا قبلنا وسلمنا بكون التعليم وسيلة فعالة لإصلاح أحوال الأمم والشعوب، وذلك لأنه هو الإعداد للحياة، بل انه هو الحياة ذاتها، وأن فساده هو فساد في كل مناحي الحياة. فلا يمكن أن يكون التعليم وسيلة للإصلاح و هو نفسه مريض وبحاجة إلى إصلاح. وأنه بمجرد استخدام لفظة "إصلاح" يعني ضمناً الاعتراف بوجود فساد ما، في شيء ما، فليس من المنطقي محاولة إصلاح ما هو كذلك أصلاً. "" لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن إصلاح التعليم، وبذلت جهود رسمية كبيرة نحو هذا الهدف، لكن لا أحد يعرف مدى نجاح هذه الجهود في تحقيق مرادها. وإذا اعترفنا بوجود فساد في التعليم فلا بد لنا من العودة إلى الأساسيات، والعناصر التي تعرضت للتلف والفساد أو الخلل بشكل أو بآخر. ولا بد لنا من طرح العديد من التساؤلات المبدئية، من أجل تركيز الاهتمام على القضايا الأساسية، ومن بينها الإدارة الجيدة والتخطيط السليم، أساس نجاح أي عمل كان، حتى ولو كان ذلك العمل عبارة عن إعداد وجبة "كسكس" من قبل ربة البيت. فإذا لم تتم إدارة أعمال التهييء والإعداد جيدا وبطرق سليمة، فلن تكون تلك الوجبة شهية ولن يكون مصيرها إلا في صندوق القمامة!! الإداري هو المسير (كيفما كانت تسميته وزيرا أو كاتبا عاما أو خاصا، رئيسا أو قائدا مديرا أو مندوبا ) التسمية ليست مهمة، المهم هو أن يفهم المكلف بالمهمة، أنه من أوجب الواجبات أن تكون له إستراتيجية محددة، وأن يحدد طريقة تسويق منتوجه مهما كان نوع هذا المنتوج وفق أسس علمية مدروسة شاملة لكافة جوانبه. فليس المهم إمتلاك الموارد الطبيعية ورأس المال، بل المهم هو كيفية إدارة هذه الموارد حتى ولو كانت محدودة، وليس المهم أن تتوفر المشاريع والخطط الاقتصادية التنموية، بل الأهم هو كيفية إدارة هذه المشاريع، وكل هذا لا يتحقق بدون مدير مسؤول متعلم قادر على الإبداع والإنتاج وإتخاذ القرارات السليمه. لكن وللأسف الشديد هناك العديد من المؤسسات التي يتعلق عملها ببناء الدولة وإظهارها بأفضل شكل يتناسب مع التطور والتنمية، لا تتخذ الإدارة الجيدة الكفأة وسيلة أولية لأي إنجاز ترومه. واذا نحن تعرضنا بالنقد الموضوعي لمدراء المؤسسات الحكومية ومردوديتهم المتواضعة، يجب أن نقر وفي كل الأحوال أننا أمام أزمة إدارية تستنزف من الميزانية العامة مبالغ طائلة دون نتائج متميزة تذكر. قد يكون جمع الموظفين في مؤسسة ما ومتابعة شؤونهم ضرورة طبيعية غير مقصودة لذاتها. لكن بعض الإداريين ينسون الهدف الأساسي من إنشاء هذه المؤسسة وينشغلون عنها بتسيير شؤون الموظفين بشكل مبالغ فيه. وكأن دور المدير لا يقوم مع الأسف إلا على فكرة جمع عدد من الناس في مكان واحد لمراقبة سلوكياتهم ومتابعة شؤونهم، و"تبركيكهم" وكأنهم مجموعة من المجانين أو المرضى النفسيين. ومن دون أن نقع في فخ التعميم فإن القراءة المتأنية التي يمكن أن نستنتجها من مراقبتنا للمشهد الإداري في بلادنا، فسوف نلاحظ أنه رغم التطور المتسارع لعلوم التسيير والاقتصاد وفلسفة وتكنولوجيا الماركوتينج، يظل العديد من مديري الإدارات والهيئات وعلى رأسهم مديرو ومديرات الكثير من المؤسسات التعليمية ينتهجون الأسلوب الحجري في التعامل مع الموظفين والتلاميذ والطلبة، حيث يتعاملون معهم معاملة يعاقب عليها القانون: من احتقار، وتعال، وتجريح، وفوقية، ظناً منهم أنها الطريقة المثلى لحفظ الألقاب، وجلب الاحترام، و لزوم الهيبة و البريستيسج.. فالصراخ وسيلتهم الإدارية الوحيدة التي يتقنون تصريفها، والعنف النفسي والجسدي، ورفض الديمقراطية والمناقشة والحوار وحرية إبداء الرأي سمتهم البارزة، مما ضيع العلاقات الحميمة الطيبة بينهم وبين مرؤسيهم والتلاميذ، حين حصروا علاقتهم بهم فقط في إعطاء الأوامر، وكأنهم حراس سجون نازية لا رجال تربية وتعليم. في حين أن رسالة مدراء المؤسسات التعليمية ليست قاصرة على التسيير الإداري الجامد، وإنما تتعداه إلى التعليم و التثقيف و الاستماع.. وهنا تبرز إشكالية المعيار الذي يبنى عليه اختيار معلم أو أستاذ ما، لتتم ترقيته ومنحه هذا الشرف العظيم ليكون قائدا لصرح تعليمي نضع فيه فلذات أكبادنا ونحن مطمئنون انهم بأيدٍ أمينة رحيمة متفهمة ومتفاهمة، تتعامل معهم كأطفال مختلفين في حياتهم عن حياة الكبار، يُسمعون ويُفهمون بجدّية، وتتاح لهم فرص التعبير عمّا يرغبون، وفق أعمارهم وحسب تفكيرهم وبكلماتهم " هم " ؟ ليس صعبا على كل مدير الإنصات لما يقوله الأطفال وتشجيعهم على تشغيل عقولهم ليفهموا ما يحوم حولهم ويستوعبوه، والابتعاد بهم عن كل "حشو" لأدمغتهم الصغيرة بما لا يفهمون من تعليمات ؟ لكن أكثر المدراء فشلوا في ذلك ولم يفلحوا في إدارة شؤون المؤسسات التي تولوا مسؤولية تسييرها، ودفع بهم فشلهم ذاك لبناء حواجز بينهم وبين مرؤوسيهم من خلال الأعوان " الشواش" المحيطين بهم، رغم ما يعلنونه-رياء- بأن أبوابهم مفتوحة للجميع، إلا أنهم في الحقيقة يتفننون في إيجاد السدود المنيعة من الجفوة وعدم الثقة ليتخفوا وراءها من تبعات فشلهم الذي يتقاذفونه مع الآخرين، حتى باتوا محترفين في التملص من المسؤولية، التي لا يجعلون الآخرين شركاء لهم في تحملها. فأكثرهم يتهرب من التعامل مع الموظف الواعي، و يفضلون، الاشتغال مع موظفين "على قد الحال" ليست لديهم خلفية ولا دراية بقوانين العمل، حتى لا يناقشوهم ولا يجادلوهم في ما يستحقون، فالنقد كان عندهم وما زال قدحا في المواطنة ونكرانا لما تحقق من معجزات. يريدون موظفين إذا وقفوا أمام "السيد المدير" ارتعدت فرائصهم من الخوف، يتكلمون معه همسا وإن علا ضجيجه، يتبسمون له وإن تجهم في وجوههم، يلينون له جانب الحديث وإن أغلظ عليهم.. في حين يبحث الكثير ممن يديرون الأعمال الكبيرة، الذين يرغبون في النتائج الجيدة الصالحة، عن موظفين أكفاء، ويطلبون بشدة مديرين واعين بكل القوانين يستطيعون الاعتماد عليهم، والثقة بهم. وقد اتفق علماء الإدارة على صفتين مشتركتين لا بد من توفرهما في كل مسير لأي شان كان، هي: 1 قدرته على إنجاز الأعمال الموكولة إليه بكل دقة واحتراف.2 وكذلك أمانته في إنجازها على الشكل الأمثل الذي تتطلبه مصلحة المؤسسة. هاتان الصفتان الرئيسيتان هما التي يبحث عنهما كل رب عمل عاقل؛ وقد جمع بينهما القرآن الكريم بإعجاز عجيب، حين قال على لسان ابنة النبي شعيب عليه السلام حين قالت لأبيها: (يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين)، فقد جاءت صفة القوة والأمانة كركيزتين اعتمد عليهما القرآن في تلخيص صفات الأفضلية في المدير وهما القوة والأمانة. أما الصفة الثانية فهي الأمانة، فلا شك أنها صفة متلازمة مع الأولى، لأن القوي قد لا يؤدي أعماله بكفاءة إن لم يكن أميناً مع أنه قادر عليها. وكذلك الأمين لا يمكن أن ينجح في أداء عمله إن لم يمتلك القدرة على الأداء الجيد بالرغم من صدقه وأمانته، لذلك علينا عند اختيار مدراء المؤسسات التعليمية أن لا نكتفي بالأقدمية -التي يقضيها رجال التعليم كمدرسين- كعنوان للثقة أو الأمانة، وإنما لا بد من صفة القوة والدربة، أي القدرة والخبرة والاحترافية، وهذا ما ينقص الكثيرين من مدراء مؤسساتنا التعليمية، لأن جلهم أفنى عمره وأنهك قواه بين جدران أقسام التلقين، وكما أنه لا يمكننا تولية الخبير الضعيف رغم صدقه وأمانته وإخلاصه ،فإنه من العبث تولية من أنهكه التدريس بالأقسام ولم يبق على تقاعده إلا سنة أو سنتين.. وقد تحدث ريتشارد فلوريدا مؤلف كتاب «صعود الطبقة الخلاقة» في مقالته التي نشرت في مجلة هارفرد بيزنس ريفيو والمترجمة الى اللغة العربية في مجلة الثقافة العالمية عدد مايو 2006، بصراحة عن خطر يهدد الولاياتالمتحدة... هذا الخطر ليس من جانب الصين أو الهند وليس من جانب تداعيات الحرب في العراق، وليس من مخاطر الحرب على الإرهاب أو التهديد النووي الإيراني، إنما من الخطر المقبل من دول أخرى على رأسها ايرلندا وفنلندا وكندا واستراليا ونيوزيلندا حيث تحتل الولاياتالمتحدة المرتبة الحادية عشرة بعد هذه الدول في مؤشر الطبقة المبدعة عالمياً. يقول الكاتب بأن مصدر معجزة النمو الاميركي هو أن كل التطورات الكبيرة تأتي دائما من الافكار ولاتهبط من السماء، وان مصدر كل التطورات هو الإنسان، لهذا فإن المعجزة الاميركية في الفترة الماضية تعود لعامل أساسي هو انفتاحها على الأفكار الجديدة التي تسمح بمرونة الحركة وتوظيف طاقات شعبها الخلاقة، لهذا يؤكد بأنه لكي تحافظ أميركا على طابعها الإبتكاري يجب أن تستمر في استقطاب أذكى العقول من جميع أنحاء العالم. ويفسرالكاتب مدلول الطبقة المسيرة المبدعة او الخلاقة التي ساهمت في التفوق الاميركي بأنه ليس من الموارد من نفط وموقع ومواد خام وإنما من الطبقة المبدعة.. لاشك أن المغرب عرف عبر السنوات الماضية وفي مختلف المجالات مدراء كانوا نموذجاً للمسؤولين الأنيقين المهذبين، المتمتعين بالذكاء و الأخلاق وعلى صلة بالثقافة والمعرفة الإدارية، وعلى قدر كبير من الروح الاجتماعية، ويكفي أن ملابسهم كانت أنيقة نظيفة و ألسنتهم أنظف، وثقافتهم تشمل السياسة والاقتصاد والعلوم، فكانوا رغم الاختلاف معهم يشرفوننا -كرجال تعليم-ويشرفون البلاد وإدارتها أينما تواجدوا. فماذا حل بهذه الصورة الجميلة المشرقة في السنوات الأخيرة التي جلبت لنا أنواعاً من المديرين يحضرون للمؤسسة بملابس رثة يرتدونها نفسها طوال السنة الدراسية، ويتجولون بها بين التلاميذ، وهي ملطخة بالدهون والمرق؟؟ ماذا حل بالمغرب ورجالاته؟ وما ذنبه لينتكس في هذا المجال؟ حيث التخلف لم يشمل المظهر فحسب؛ وإنما شمل العقل والذكاء والسلوك والأسلوب. فقد تراجعت صورة المدير من حيث الشكل والمظهر وكأننا من الدول الفقيرة المتخلفة. فإذا أنت دخلت اليوم إلى مؤسسة تعليمية حكومية صدمك مسؤولها الأول بمظهر اقرب الى العاطل عن العمل منه الى مدير مؤسسة تربوية، لم يحلق ذقنه منذ عقد من الزمن، ثيابه ملطخاة ببقع زيت الطعام وبقايا المرق. رحم الله أيام زمان حينما كان "الشاوش" العادي في المؤسسات التعليمية الحكومية يتمتع بمظهر المدير، وكان المسؤول على قدر من الهيبة والأسلوب في المظهر والجوهر، يشرف بالهندام واللسان العذب والثقافة والمعرفة، وحسن السلوك، هذا المظهر الداخلي والخارجي اللائق الذي ينعكس على فلذات أكبادنا المتأثرين بمرؤوسيهم ومعلميهم قدوتهم في كل شيء، إنهم مدراء زمان حيث كان إختيار الشخص المناسب في المكان المناسب يتم حسب معايير موضوعية تتناسب والمسؤوليات الموكلة إليه، مع التتبع و التكوين المستمر ليصل إلى النجاح المطلوب؛ لأن الإدارة ليست هي " التخنزيرة " بل تحفيز مجموعة من الأشخاص لأداء مهمات محددة تنتظر نتائجها. فالكثير من المقاولات تحاول حاليا الاشتغال وفق أسلوب تحديد الاختصاصات والمسؤوليات والعمل الجماعي الذي يفجر الطاقات الخامدة ويطور الكفاءات ويشعر العاملين في حقل ما بالطمأنينة والأمان أكثر فينعكس ذلك على الإنتاجية فتحية لكل هؤلاء الذين استطاعوا بنبلهم، ورقيهم، ودماثة أخلاقهم، وفهمهم لروح علم الإدارة المغلف بالإنسانية الضافية، أن يجمعوا قلوب مرؤوسيهم وتلاميذ المؤسسة على حبهم واحترامهم والقيام بواجباتهم كاملة في آن واحد. لازلت أذكر أحدهم، الأستاذ عبد اللطيف برادة الذي كان نموذجا ومثالا للمدير الكفء الذي كان أثره جليا في كل من عمل بإعدادية صلاح الدين الأيوبي بمدينة فاس، حيث كان يعرف أصول الإدارة على أكمل وجه، لبق في الحديث مع الناس، كلامه راق جداً، كان مبهرا بحركاته وتصرفاته ولباسه، لقد كان جنتلمان من "ساسه إلى رأسه"!! ومن هنا أرى ضرورة وضع معايير صارمة لتعيين رجل التعليم للمنصب الإداري التريوي، حيث يجب أن يكون ذا قوة وقدرة وكفاءة عالية على التأثير في الطلبة، ويمتلك مهارات التحفيز على التعلم وإيجاد الفرص الإبداعية، ومكافأة من يبدع ومعاقبة من يخطئ عقاباً تربوياً وليس نفسياً أو جسدياً، بعد التحقق الجيد من أسباب الخطأ ودوافعه، قبل العقاب. فأين لنا بمثل هؤلاء. جل مدرائنا أكاديميون تقليديون، لا يعرفون في معاني التسيير وأساسياته أبعدَ من أنوفهم، منفذون فقط دون أن يكونوا مخططين لرؤى مستقبلية قادمة، لا تهمهم إلا الكراسي التي يجلسون عليها لقضاء ما تبقى من الخدمة. مكررين أنفسَهم كل يوم، أفكارهم ليست جديدة ولا مبادراتهم.. حركاتهم متشابهة وحتى ضحكاتهم محسوبة.. تكوينهم الإداري و ذهنيتهم التسييرية مشبعة بثقافة المؤامرة المكرسة نظرية التبرير السائدة بين الفاشلين والكسلاء الذين يحيلون أسباب خيباتهم على الغير، و يعلقون على شماعة ذاك الغير كل اسباب عجزهم وفشلهم . هم نمط من الموظفين تعودوا على الجاهز والمعلب من التحليلات الهروبية التي تكفي المؤمنين القتال، تحولوا بذلك إلى جحافل من المسؤولين تجيد التقليد وتتوجس من الإبداع وتتخوف من تقصي أسباب العجز والتخلف والتعطل، والبحث عن الأسباب الجوهرية لفشل أي مشروع،، وإيجاد السبل القمينة لاخراج الإدارة من أزماتها بقدرتها الذاتية دونما اعذار وهمية. مدراء سلبيون و نتائح مخجلة، لن نتخلص منها ما دمنا نعيد إنتاج مثل هذا النوع من المسؤولين الذين ارتضوا أن يكونوا مجرد آلة تعمل متى ما أراد لها الغير أن تعمل، والذين يتم اختيارهم دون اعتبار للخبرة ولا المعرفة بفن وعلم التسيير والإدارة، بل لأقدميتهم العامة في منصب مدرس. [email protected]