الدبلوماسية : علم رفيع ، و فن بديع، على أساسها قامت دول، فاعتلت ضمن صفوة الأمم، وبالدبلوماسية الحقة تربح الدول استثمارات مادية و معنوية عديدة ، وتتجاوز محنا عصيبة، وبالدبلوماسية الفعالة تحقق الدولة مكانتها ضمن لائحة الدول المتقدمة، الآمنة، المستقرة، وبالدبلوماسية المنفتحة والمتعددة تخرج الدولة من دائرة الدول المتخلفة والمتدهورة. والدبلوماسية المغربية مهما حاولت تعريف نفسها، فلن تخرج عن هذا التعريف، ومهما رسمت لنفسها من أهداف ، فلن تبتعد عن تلك الأهداف المذكورة سلفا. إنها دبلوماسية عربية ، إسلامية ، أندلسية ، حسانية، أمازيغية ، ضاربة في عمق التاريخ الإنساني. كانت ولا زالت منذ إدريس الأول ، وقبله ، وحتى اليوم، حاضرة ، فاعلة، متفاعلة ، في محيطها المغاربي، العربي الإسلامي ، الأوربي الدولي، بالماضي العريق المليء بالانجازات والفتوحات، و الانكسارات والانتصارات ، والواقع الصعب المفعم بالتحديات والمليء بالصعاب والتطلعات. وما يهمنا في هذه المقالة الصغيرة، ليس تاريخ الدبلوماسية المغربية وانجازاتها ، بل سنتطرق إلى أبرز التحديات التي تواجه الدبلوماسية المغربية انطلاقا من ملفات: الإسلام بالمغرب ، الصحراء المغربية، حقوق الإنسان، الجهوية المتقدمة، الأحزاب، المجتمع المدني، الثقافة والفن والإبداع ، الرياضة والرياضيين ، السياحة ، الاستثمار ، وهي ملفات في حاجة إلى نظرة شمولية تعمل سفاراتنا بالدول على التعريف بها لدى : الرأي العام الدولي، المحيط المغاربي ، المحيط العربي الإسلامي، دول الخليج ،الاتحاد الأوربي، الولاياتالمتحدةالأممالمتحدة ، أمريكا اللاتينية ، أسيا ، استراليا ، حتى يتسنى لها التعريف بالمغرب كبلد منفتح متسامح ، بلد يعمل على تنزيل المشروع الديمقراطي الحداثي بوتيرة سريعة ومركزة. فكيف السبيل لهذه النظرة الشمولية الجامعة المانعة، المحققة لدبلوماسية فاعلة متفاعلة في محيطها الدولي المغاربي و العربي الإسلامي؟. الجواب يتطلب منا التراجع خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، لنتساءل كيف كان حال دبلوماسيتنا بالأمس ؟ وما هو حالها اليوم بين مصاف الدول البعيدة أو المجاورة ؟ إن السؤال عن الدبلوماسية بالأمس، وأعني الأمس البعيد وليس القريب ، يجعلنا نقف على ثروة كبيرة موجودة في كتب التاريخ ، تسجل باعتزاز وفخر كبيرين قوة المغرب كبلد يمتد ويتقلص أحيانا من نهر النيجرجنوب الصحراء إلى قرطبة شمالا، حيث لا شيء غير المغرب. فنجد سفراءنا قد برهنوا بالأمس عن قوتنا في الاقتصاد والجيش والفلاحة لدول كهولندا وفرنسا غربا ومصر شرقا. أما حال دبلوماسيتنا اليوم فيتطلب منا مزيدا من التسويق الاقتصادي والسياسي والثقافي والرياضي والسياحي.. ولتحقيق ذلك نحن في حاجة ماسة إلى خلق كفايات تتميز بالشمولية وتجمع بين ما هو ديني سياسي ثقافي أحيانا ... وبين ما هو سياسي اقتصادي أحيانا أخرى. أو تجمع بينهما معا. فلا يمكننا الحديث عن الترويج لتلك الملفات التي حددناها في الفقرة الثالثة من دون الإعداد للآليات والميكانزمات القادرة على ذلك ، وهذا صلب ما تطرقت له الرسالة الملكية الموجهة لعمل السفراء المغاربة بباقي بلدان العالم. إن السفير اليوم أصبح لزاما عليه النهل من التعددية الفكرية والدينية والثقافية للمغرب حتى يتمكن من ترويج الملفات الكبرى التي تقوي الدبلوماسية المغربية في أوساط جمعيات وأحزاب ونقابات ومثقفي ورياضي ومستثمري البلد الذي يقوم بدور السفير المعتمد فيه، ويمكننا تحديد ذلك في عشر ملفات كبرى ينبغي على كل سفير خلق لجنة مكلفة بكل ملف تقوم بالدراسة والتتبع له : 1. ملف الإسلام بالمغرب: ماذا نعني بالإسلام في المغرب ، وما هي أسسه وثوابته العقدية والفقهية والسلوكية؟ وما هي الخطة التي وضعها المغرب للقضاء على الأفكار الإرهابية المتطرفة الهدامة.. فبالسبر في هذه الأسئلة ونشر الإجابة عنها .. يمكننا أن نؤكد للعالم الاستثناء المغربي في السلوك الديني السني المعتدل المنفتح المتسامح .. ونبعد الصورة المشوهة المتطرفة الإرهابية عن المملكة الإسلامية الشريفة. كما يبقى من الواجب على الدبلوماسية تركيز مفهوم إمارة المؤمنين في عمقها الأمازيغي الإفريقي و إبراز أبعادها ومقاصدها السامية في الوحدة العربية الإسلامية . 2. ملف الصحراء المغربية : هل تتوفر كل سفاراتنا على وثائق وأشرطة وصور تؤكد وتوثق مغربية الصحراء؟ هل لدى سفرائنا علم بالمستجدات الدولية حول هذا النزاع؟ وهل يعلمون مواقف الدول من هذا النزاع؟ وبالضبط من معنا ومن ضدنا ؟ هل يتوفر كل سفير على مواقف الفرقاء السياسيين والمدنيين والنقابيين والاقتصاديين في بلد اعتماده من النزاع ؟ 3. ملف حقوق الإنسان : ما تحقق من توفير للحقوق على أرض الصحراء هو أكبر بعشرات الأضعاف لما يوفره البوليساريو من حقوق للإنسان في تندوف ، لكنهم يجيدون تسويق منتوجهم الكاذب ، فهل يقوم سفراؤنا بالدعوة لما تحقق داخل الصحراء على المستوى الاجتماعي والتنموي والسياسي ..؟ إننا أصحاب قضية ناجحة بحاجة ماسة إلى محامي متمكن ، أمام أصحاب قضية فاشلة بمحامي يمكن اعتباره انتهازي ماكر. 4. ملف الجهوية المتقدمة: مشروع كبير يرقى بالمملكة نحو صفوة الدول المتقدمة حقوقيا واقتصاديا فمن يدعو إلى هذا المشروع في مختلف بلدان العالم غير السفراء ؟ ماذا تفعل سفاراتنا بالخارج إذا لم تقم بالتسويق الكافي والناجح لهذا المشروع الكبير الذي يراهن عليه المغرب من أجل إخراج ملف الصحراء من عنق الزجاجة وترسيخه في الوعي العالمي بحق المغرب وباطل غيره؟ 5. ملف الأحزاب السياسية: ولدينا بالمغرب أحزاب متعددة ومختلفة المرجعيات ..لكن أغلب الدول لا تتوفر على رصيد كافي من المعلومات حول الأحزاب المغربية بمختلف توجهاتها ومرجعياتها وبرامجها، فإذا لم تكن سفاراتنا بالخارج قادرة على نشر الوعي بهذا التطور الحزبي المهم بالمغرب خلال الخمسين سنة الأخيرة من تاريخنا الحديث فمن المسؤول ؟ 6. ملف المجتمع المدني : أكثر من أربعين ألف جمعية تنشط وتتحرك و تأثر في تنمية المجتمع ، وتساهم نوعا ما في تطويره . وجب على السفراء العمل التشاركي مع هذه الجمعيات ، والانفتاح على فعاليات المجتمع المدني ، والبحث عن عقد اللقاءات والشراكات بينهم وبين فعاليات المجتمع المدني النشيطة ببلدان اعتمادهم. 7. ملف الثقافة والفن والإبداع : المغرب بلد يزخر بالتعددية الثقافية والفنية، وهو بلد مليء بالإبداع والمبدعين ، في الشعر والأدب و المسرح والغناء... فهل تعمل سفاراتنا على تسويق هذا الفن وعلى ترويج الثقافات المغربية الأصيلة _ كالثقافة الأمازيغية والحسانية والأندلسية ... وغيرها_ في بلدان اعتمادهم. 8. ملف الرياضة و الرياضيين : نحن في حاجة إلى تقوية فرقنا الرياضية ومنتخباتها، لتحقق الدعوة للراية المغربية ، والعمل على رفعها أكثر من مرة في المحافل الرياضية الدولية... وعلى سفرائنا البحث عن شراكات بين فرقنا الرياضية والفرق الموجودة ببلدان اعتمادهم. 9. ملف السياحة: اليوم المحيط الإقليمي يوجد فوق حمم بركانية وتوترات سياسية واجتماعية، تجعل من المغرب بلدا سياحيا بامتياز نظرا لاستقراره السياسي وأمنه الاجتماعي والاستثماري... وهذا يفرض على سفاراتنا بالخارج التسويق السياحي للمغرب كبلد يتوفر على جبال وبحار ووديان وأنهار ومدن تاريخية ومآثر عمرانية ومناظر سياحية وفنادق وشواطئ .. بالإضافة إلى موقعه الجغرافي ومناخه المعتدل خلال فصوله الأربعة.. إنه تعريف وتسويق سيساعد على جلب المزيد من السياح ومن العملة الصعبة للبلد. 10 ملف الاستثمار: نفس التسويق لنعمة الأمن و الاستقرار ، يمكن لسفاراتنا التركيز عليه لإقناع المقاولين و كبار المستثمرين بجدوى الاستثمار في المغرب ... بالإضافة إلى إصلاح منظومة القضاء التي عرفها المغرب مؤخرا .. فيمكن للسفراء خلق لقاءات مع المستثمرين لإخبارهم بجديد العدالة لمحو كل التخوفات التي تنتاب المستثمر أو المقاول حينما يفكر في الاستثمار بالمغرب. ولتحقيق هذه النظرة الشمولية عند سلكنا الدبلوماسي، والنهوض بهذه الملفات الكبيرة الثقيلة الحاسمة في مستقبل دبلوماسيتنا، تحتاج كل سفاراتنا إلى خلق لجان مكلفة لكل ملف على حدة .. حيث تتكلف كل لجنة بالدراسة والتوثيق والتتبع لملفها .. وتوفر المعلومات والبرامج الكافية لتسويقه داخل جميع مؤسسات الدولة التي تعمل بها. والحاجة باتت ماسة داخل سفاراتنا للمزيد من الموارد البشرية والمالية ليتسنى لها النهوض بهذه الملفات على أحسن وجه، ولا بد من الدعم السياسي من قوى المركز لجميع السفراء والعاملين بالسلك الدبلوماسي. وهذا موضوع يتطلب مزيدا من البحث والتنقيب .