حينما تعجز عن تسيير الدولة وفق الأعراف الديمقراطية الكونية، وتنفضح أمام الداخل والخارج –وقد أصبحا مطبخا واحدا – فمارس هواية صنع الدول وفق المقاييس التي تروق لك؛ ومنها: ألا يمشي أحد في دولتك الملفقة إلا بأحذية ثقيلة. وألا يكون ورش الصناعة في خرائطك الأصلية؛ حتى لا ينقلب السحر على الساحر؛ وتظهر أعناق أخرى قبائلية وطارقية وحتى أباضية خارجية. حتى وأنت تتمتع بغنيمة تندوف، وتدعيها لك؛ تقر من حيث لا تقصد بأنها ليست لك. السياسة خداعة وحمالة أوجه. مارس هواياتك كما تشاء، أيها النظام العسكري المتعفن؛ ما دمتَ بغير أخلاق الفرسان. لكن التاريخ يشاء أيضا، وله منطق لا تعرفه؛ وهو يشاء ما لا تشاء.. ولا بأس أن أعيد تذكيركم، من جديد، ببعض خرائط هذا التاريخ؛ كما رسمها المستعمر، وأفسد بها التاريخ والجغرافيا معا. العنف الذي لا ينحني إلا للعنف ستظل جزائر الأحذية الثقيلة، الجاثمة بكلكلها فوق الجسد الشعبي الجزائري المثخن، ترفع في وجه المطلب الحدودي المغربي –وقد شُبه لها أنها قتلته ودفنته في الصحراء الشرقية-اعتراضها الخبيث والغادر: استقرار ا لحدود الموروثة عن الاستعمار؛ وهو القرار الذي تبنته منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1964، لتقطع به دابر الصراعات الحدودية بين الدول الإفريقية الحديثة العهد بالاستقلال. إن كون هذا القرار جنب القارة الكثير من الحروب الحدودية لا يعني أنه سليم. ومهما يكن فان ما كان بين المغرب والجزائر من انصهار قديم، وما هو قائم بينهما من روابط عديدة، ولو نائمة؛ ومعاناتهما من المستعمر نفسه، ومعرفتهما الدقيقة بخرائطهما؛ يضاف إلى هذا تميزهما الحضاري الواضح عن الدول الإفريقية السوداء، التي كانت تعاني من توترات الحدود، والتي استدعت سياسة ارتكاب أخف الأضرار، باعتماد مبدأ جائر؛ يُسكت البنادق لكنه لا يزيل الألغام؛ كل هذا يجعل من إدلاء الجزائر – استكبارا- بخرائط المستعمر خطابا غامضا، يظهر خلاف ما يضمر. ويؤكد هذا الخطاب أن الجزائر العميقة لا تزال تنهل من مدرسة المستعمر التي ما كانت لتغادرها –مكرهة- لولا الدروس التأطيرية ودعم حركات التحرر في العالم، ومنها الحركة الوطنية المغربية، التي نبهت الأشقاء إلى أن قدرهم ليس أن يظلوا مستعمَرين. هم الذين قهرهم الاستعمار التركي، وجفف لقرون كل منابع الوطنية الأصيلة فيهم، والثقافة المغاربية، حتى بدت لهم عساكر فرنسا الكولونيالية وكأنها ملائكة الرحمة حلت بسمائهم. علمتهم مدارس الحاكم العام الفرنسي كيف يقنعون ويفخرون بكونهم فرنسيي الدرجة الثانية؛ واختاروا لنا من الأسماء "لمراركة" حتى ترتسم حدود عالمين منفصلين لا شيء يجمع بينهما. وحينما استعادت الأوكار الاستعمارية بأروبا طيورها الجارحة، تمسكوا هم بدفاتر التربية الاستعمارية، وبمداد الحقد على الجيران المغاربة، الذين بددوا لذتهم – بل وهْمَهم- وأيقظوهم من حلم وردي عمر مائة وثلاثين عاما، وأقاموا للوطنية جامعات لا قبل لهم بها ولأحلامها المغاربية. حقد سيظل متواصلا، تواصل دولة العسكر؛ وما الحدود والصحراء إلا حلقتين في مسلسل طويل ابتدأ سنة 1830، واضطر مخرجه إلى استبدال أبطاله، ومسار أحداثه، في 5 يوليوز 1962. ولعلهم حينما يعضون بالنواجذ على "الحدود الموروثة عن المستعمر" ينساقون – وإن لا شعوريا- مع وهمهم إلى مداه المرضي؛ ويمارسون فرنسيتهم المستنسخة؛ وهم يتمسكون بمدن وصحاري مقتطعة من المغرب؛ يعرفونها كما يعرفون أبناءهم . وقد صدق ابن خلدون حينما أكد أن المغلوب منقاد أبدا للغالب. وهم هنا غير منقادين فقط بل متماهون معه. لم يستفيدوا من فرانتز فانون F.FANON شيئا، على الرغم من فرنسيته ونضاله ضد الكولونيالية، ممارسا نُصرة لم يرغبوا فيها؛ لأنهم يفضلون أن يكونوا مع الأسود – ولو وجبة دسمة- على أن يكونوا مع مغاربيين مستضعفين. "إن الكولونيالية ليست آلة للتفكير، ولا جسدا يحكمه المنطق. إنها العنف في شكله البدائي المتوحش؛ ولا يمكن لها أن تنحني إلا أمام عنف أقوى." فانون: المعذبون في الأرض.1961 غادرت فرنساالجزائر، لكننا ما زلنا نعاني من عنفها الذي يرفع الراية الجزائرية اللاشعبية. متى دخلت فرنسا إلى تندوف المغربية؟ ما زلت مقيما في الأرشيف الرقمي الفرنسي الاستعماري، المدني والعسكري؛ مما مكنني من إصدار كتابي "من أسرار الأرشيف الاستعماري الفرنسي". أرافق العلماء وحملات الاستكشاف والتطويع، ورحلات المخبرين والمغامرين لأكمل ملء بياضات كثيرة في تاريخنا الحديث؛ ولأفهم لماذا يصر قادة الجزائر على أن يتحدثوا معنا بلغة استعمارية ظالمة، حينما يتعلق الأمر بصحرائنا الشرقية، وبلغة حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، حينما يتعلق الأمر بصحرائنا الغربية؟ في إطار محاولة الفهم هذه، رافقت فرقة عسكرية فرنسية، بقيادة قبطان فرنسي، في رحلة استكشاف الصحراء المغربية. أنجزت الرحلة سنة 1925 ومكنت عسكر فرنسا من الوصول –لأول مرة- إلى مدينة تندوف؛ التي سبق أن عثرت بخصوصها على أوراق قديمة لعالم الصحراء تيودور مونود يتحدث فيها عن ثلاث مدن مغربية بتندوف؛ وقد نشرت سابقا موضوعا بهذا العنوان. من 1830، سنة استعمار الجزائر، إلى 1925، قرابة قرن من الزمان، يقوم شاهدا على من يملك تندوف؛ ومن اختطت قوافله مسار مراكش تومبوكتو، المؤثث بعشرات المراكز والآبار؛ وبآلاف الحكايا والقصائد الصحراوية التي ترسم خريطة الثقافة التي لا يمكن أن يملكها المستعمر ولا يمكن أن يورثها حتى لتلامذته النجباء. لنستمع إلى القبطان "لوهيرو"LE HURAUX وهو يتحدث: "في إطار تنسيق الجهود الرامية إلى تهدئةpacification الصحراء الغربية، انعقدت بمراكش, في يناير 1925، ندوة حضرها ممثلو الدول الثلاث المعنية بالمسألة: إفريقيا الغربية الفرنسية، المغرب والجزائر. تقرر في هذه الندوة أن تقوم فرقة الجمالة العسكرية méhariste بحملة استكشاف في منطقة تندوف، التي بقيت إلى يومنا هذا خارج نفوذنا. تمت العملية في أبريل وماي 1925 بمساعدة مفرزة detachement قوامها مائة وثلاثون جنديا تحت قيادة القبطان "ريسوت RESSOT"؛ وتتضمن أيضا ثلاثة ضباط، طبيبا، وجيولوجيا هو السيدMENTCHIKOFF. بعد بلوغ ضواحي "المحجز"، في 9 أبريل، عبرت المفرزة الجزائرية "الداورة"، لتصل إلى "تنفوشي"، التي سبق أن وصلنا إليها، للمرة الأولى، سنة 1920. ومن هناك دخلت منطقة مجهولة تماما من طرفنا، مما جعلها تسلم قيادها لحظها السعيد، ولنباهة دليلها التدجكاني المرافق لها. شرعت المفرزة في عبور جبل الورقزيز محققة، عبر مسارها، تواصلا سلميا مع دواوير قبيلة أولاد عريب. انطلاقا من بئر "زمول" انحدرت الفرقة الاستكشافية صوب النجود العليا لدرعة، لتصل إلى تندوف في 27 أبريل؛ حيث مكثت ما يكفي من الوقت لتجميع – لأول مرة- الوثائق والمعلومات المتعلقة بهذه المدينة الصحراوية الصغيرة التي ظلت بكراinviolée. بعد هذا استكشفت "الضاية الخضراء"؛ لكنها أوقفت مسارها صوب الجنوب الغربي، عند بلوغها بئر "تنوشت"، لأنها وبعد مغادرة تندوف دخلت منطقة بها – دون شك- مضارب كثيرة لقبيلة الركيبات. وقع الاحتكاك مع الركيبات أثناء العودة إلى الضاية الخضراء. لقد استقبل الركيبيون المفرزة بطلقات نارية، لكنهم سرعان ما أوقفوا القتال وفروا مخلفين قطعانهم التي وقعت غنيمة جيدة بين يدي المفرزة. اتجهت الفرقة الجزائرية، بعد هذا، شمالا وبين يديها غنيمة من أربعمائة (400) جمل وناقة؛ لتعبر مرة ثانية جبال الورقزيز/ وصولا إلى "تبلبالة" tabelbalaفي 19 ماي؛ بعد أن قطعت أكثر من 1600 كلم، على مدى 43 يوما. كان لهذه الجولة الاستكشافية الرائعة انعكاس مهم على كل المنطقة التي لم تخضع بعد؛ فإذا استثنينا "تنفوشي" مناطق الورقزيز، النجود العليا لدرعة؛ فإن تندوف والضاية الخضراء لم يحصل أبدا أن استكشفتا من قبل. يضاف إلى هذا أن أعمالا مهمة أنجزت خلال هذا الاستكشاف، من المناسب أذكر منها: تجميع عينات طوبوغرافية، وإنجاز تصميم لتندوف، ودراسة جيولوجية مع تجميع عينات، وكذلك دراسة نباتيةbotanique؛ وأخيرا دراسة حول تندوف والتادجاكنتيين. خلال هذا الربيع نفسه من سنة 1925، أنجزت مجموعة "توات" استكشافا حول الحافة الغربية ل"العرك شاش"؛ معتمدة فرقة متنقلة بقيادة اليوتنان Flye Sainte Marie. على مدى أربعة أشهر، قُطعت فيها مسافة 2000كلم مشيا، عبر الفيلق منطقة "العرك شاش" بالغة الصعوبة، ووقف على آبار "كريزيم" و"الزميلة" وتارمانانت وتوفورين . المرجع: Capitaine Lehureaux : Les français au Sahara ;les grandes reconnaissances. No 16. juiet 1935 Bulletin trimestriel