أدب دون روح أعلن تزفيتان تودوروف (Tzevetan Todorov) أن "الأدب في خطر"، مؤكدا، بأدلة مستقاة من واقع التعليمين الثانوي والعالي في فرنسا، على حقيقة "الاختزال العبثي للأدب". حيث انحصر في دراسة تقنيات ومناهج تحليل وتفسير وتأويل الأعمال الأدبية، وتم إغفال أو تغافل دراسة هذه الأعمال كرصد ل"تجربة انسانية"، وتعبير عن "الشرط الإنساني". إن الأدب في نظر تودوروف يُسهم في إعطاء "شكل" للمشاعر الإنسانية، ويمنح معنى لوجود الإنسان. ينتقد تودوروف الطرق التي أضحى الأدب يدرس بها في المدارس والجامعات، لأن هذه الطرق أفقدت الأدب روحه، وجعلته يكاد يكون أمرا تقنيا. وبذلك صار الأدب صعبا ومملا. وهو ما يجعل التلاميذ والطلبة يكرهونه، وينفرون منه، ويميلون عنه. وتبرز معاناتهم معه خلال أيام الامتحانات. وقد عاش تودوروف نفسه هذا الوضع مع أبنائه، كما يعترف بذلك بنفسه في كتابه الآنف الذكر(La littérature en péril). أتصور حصص الأدب باردة، تجري داخل أقسام باردة، وتراود المتعلمين خلالها مشاعر باردة. وباختصار يمكن القول، لقد افتقد الأدب نشوته وحرارته. هذه النشوة وتلك الحرارة هي التي يحاول فيلم "جماعة الشعراء الموتى" (Dead poets Society) إحيائهما، وإذكاء جذوتهما. إنه محاولة جادة إلى إرجاع الروح إلى الأدب ممثلا هنا في الشعر. الشعر بطل سينمائي أخرج الفيلم "بيتر فيير" (Peter Weir) وقد لعب دور البطولة فيه روبن ويليام (Robin Williams). الفيلم احتجاج قوي على وضع الشعر في العالم المعاصر، وعلى الطرق التي بات يُدْرس بها ويُدَرّس. ومن هنا تأتي راهنية الفيلم، وأهميته، وقيمته. يجري الفيلم داخل أكاديمية تدعى ويلتون (Welton)، التي تعد من أحسن المدارس التحضيرية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما يؤكد على ذلك مديرها، في خطبته المعتادة بمناسبة بداية عام دراسي جديد. وقد أُنشأت الأكاديمية سنة 1859، وأحداث الفيلم تجري بعد مائة عام من ذلك التاريخ، أي في سنة 1959. وهذا يعني أنها أكاديمية عريقة، وهي خاصة بالذكور دون الإناث !! ومن الواضح أن شروط القبول في الأكاديمية صعبة للغاية، ومحددة وفق معايير مضبوطة، لأنها على ما يبدو من المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود. ومن لا تتوفر فيه الشروط المحددة يتم رفضه ببساطة. الشعر حرية يتنفس الشعر حرية، ويموت دونها. يعيش بها وعليها. لكن الجو داخل الأكاديمية خانق وكئيب. الأمر أقرب إلى ثكنة عسكرية منه إلى أكاديمية للتعليم. إن جدول الدراسة صارم. ويجب على الجميع الخضوع له، دون نقاش. لا شيء قابل للنقاش. هناك شيء واحد مطلوب هو العمل على تسريع وتيرة التكيف مع الوضع الجديد داخل الأكاديمية تجنبا للمشاكل. لكن من الصعب جدا، كما هو معلوم، التمكن من التحكم التام في سلوك الإنسان، وبالأخص في فترة المراهقة. وعلى العموم، حياة الطلبة في الأكاديمية لا تعود ملك أيديهم. حياتهم تصبح في يد أطر الأكاديمية، وعلى رأسهم المدير، الذي يبدو متسلطا كفاية. يصبح هؤلاء الأطر هم الساهرين على شؤون الطلبة كلها، صغيرها وكبيرها. وعليه فما يحب الطالب القيام به يجب أن يؤجله إلى ما بعد التخرج. التخرج في هذه الحالة يعني، أولا وقبل كل شيء، التحرر. يعني استعادة الإحساس بالحرية. الشيء الايجابي الذي يمكن أن يجعل هؤلاء الطلبة يقبلون شروط الأكاديمية، ويحاولون العمل بها، وينجح البعض منهم في ذلك ويفشل آخرون، هو ما تعدهم به بعد التخرج. إن الشهادة التي تمنحها الأكاديمية تجعل صاحبها، وكذا عائلته وذويه، مرتاحون لمستقبله، ومطمئنين إلى ما تعده به السنوات الآتية. سمعة الأكاديمية كفيلة بأن تفتح أمامهم كل الأبواب، حتى تلك المغلقة بإحكام. إن الدراسة في الأكاديمية تقوم على الصرامة. فليس هناك تساهل. أدنى تساهل مرفوض تماما. أوقات الخلود إلى النوم، والاستيقاظ، والهندام، وأوقات الحضور إلى الدروس لا يمكن التساهل فيها مع أي طالب، بغض النظر عمن يكون هذا الطالب. يبدو أن المستوى الاجتماعي للطلبة غير مهم في أعراف هذا الأكاديمية، علما أن لا أحد منهم يبدو أنه ينتمي إلى طبقة فقيرة. التساهل مرفوض لأن بابه إذا فُتح قد لا يُغلق أبدا. ومن الممكن أن يجعل مستقبل الأكاديمية في خطر. ولا يبدو أن أحدا من القيِمين على الأكاديمية مستعد لقبول مثل هذا المصير. إن للأكاديمية تقاليدها العريقة، التي يجب احترامها. واحترامها لا يمكن أن يتم إلا من خلال الالتزام بتلك التقاليد، وتصريف هذا الالتزام على شكل سلوك يومي. هل يمكن للعلم أن يزدهر في ظروف مماثلة؟ هل شروط الأكاديمية مناسبة لنجاح عملية التعليم والتعلم؟ هل يمكن للطالب أن يتعلم أي شيء تحت الضغط؟ وحتى وإن تعلم شيئا، ألا يمكن أن يرتبط في ذهنه التعلم بالشقاء والمعاناة؟ وبعد التخرج، هل يستطيع أن يواصل حب التعلم؟ هذه أسئلة من بين أسئلة أخرى كثيرة يمكن أن نطرحها عندما نشاهد الفيلم. شتان بين أن تتعلم حبا في العلم والمعرفة، وبين أن تتعلم من أجل ولوج سوق الشغل. ويمكن الزعم أن توقف التكوين ينتج عن كون المدرسة لا تُعلمنا، منذ دخولنا إليها، حب التعلم، وتغرسه فينا بطرق جميلة، وإنما تفرض علينا أن نتعلم، وتُكرهنا على ذلك. وعليه ليس من المستغرب أن تكون أوقات الاستراحة وأيام العطل هي المفضلة عند التلاميذ والطلبة. وطبعا، عندما تتاح لنا الفرصة نتخلص سريعا من ذلك الحمل الثقيل، أي بالضبط من كل ما كان سببا في شقائنا لسنوات قد تكون طويلة. الشعر نمط حياة ماذا لو صادفنا، مثل أبطال الفيلم، أستاذا، يعرف بالضبط ما يجب عليه فعله. أستاذ يؤدي مهنته بشكل لا يشبهه في أدائها أي أستاذ آخر. أستاذ له وجهة نظر معينة، وموقف محدد، وفلسفة خاصة في الحياة. لابد أننا، في هذا الحال، سنكون محظوظين للغاية. سنعيد معه تعلم أبجدية الحياة. سنتعلم على يديه كيف نحب ذواتنا، والآخرين، والمدرسة، والعالم من حولنا. وماذا لو كان هذا الأستاذ عاشقا للشعر؟ حظنا سيكون أكبر لا محالة. وسعادتنا لن تجد لها حدودا. منذ الحصة الأولى سيكتشف الطلبة أن ما كانوا يتوقعونه كان خاطئا. كل أفكارهم المسبقة ذهبت أدراج الرياح. منذ البداية سيكتشفون في أستاذهم الجديد أستاذا مغايرا لما ألفوه واعتادوا عليه. لقد انبهروا بشخصيته الفريدة، وأحبوا طيبوبته، وبدأوا يتعلقون به، كما لو أنهم يعرفونه منذ أمد بعيد. لقد بدا شخصا مألوفا لديهم. وهذا ما جعل الشروط مهيأة أمامه ليجعلهم يعيدون النظر في ذواتهم، وفي المعنى الذي يضفونه على الأشياء. وقد تأتى له ذلك من خلال تقريب الشعر إليهم. لقد جعلهم يحبون الشعر. ومن يحب الشعر لابد أن يتسع محيط دائرة حبه ليشمل الناس جميعا، والحياة برمتها. في الحصة الأولى سيتعلمون أن الحياة قصيرة، ويجب أن يستغلوا كل يوم فيها، ويعيشونه لحظة بلحظة. وقد وجد في اللغة اللاتينية ما يختزل هذه الدعوة إلى الاحتفاء بالحياة، وإلى استغلال كل يوم فيها، وكل لحظة، في كلمتين سيتكرران طوال الفيلم كما لو أنهما تعويذة سحرية وهما: (Carpe diem) . هذه العبارة المليئة بالمعاني والدلالات مستمدة من إحدى قصائد الشاعر هوراس (Horace). وهي تعني، في اللغة العربية، "الاحتفاء باللحظة الحاضرة"، أو ما يسميه عالم الاجتماع ميشيل مافيزولي (Michel Maffesoli) "اللحظة الخالدة" Instant éternel)). إن الشعر هو الوسيلة المثلى للولوج إلى وجدان الآخرين. وبتغيير الوجدان سيتغير كل شيء في حياة المرء. سيصير الطلبة بفضل الشعر محبين ومحبوبين لبعضهم البعض على الأقل. سيكتشف كل واحد منهم وجود عاشق نائم داخله. ولا يلبث هذا العاشق النائم أن يستيقظ. من الشعر إلى الموسيقى.. الأصل والنسخة إن فكرة الفيلم قد تمت، بشكل ما، "سرقتها" من قبل أفلام أخرى. ولكن عندما نشاهد الفيلم ونسخته نجد تطابقا شبه كلي. لا يبدو أن الأمر يتعلق باستلهام، وإنما بنسخة كاملة من الفيلم. وهي عادة ما تكون نسخة رديئة. وكمثال على ذلك الفيلم الهندي Mohabbatein))، الذي خرج إلى القاعات السينمائية سنة 2000. وهو من إخراج أديتيا شوبرا (Aditya Chopra). الغريب في هذا الفيلم هو أن أبطاله يعتبرون من النجوم اللامعة في السينما الهندية. يعني ذلك أن طاقم الفيلم ليس مبتدئا في السينما. قد نقبل، إلى حد ما، السرقة )أو الاستلهام كما قد يسمى !! ( في حق مخرجين وممثلين مبتدئين، لكن لا يمكن القبول بذلك في حق مخرجين وممثلين يدخلون في خانة ما يطلقون عليهم عادة اسم "نجوم". في الفيلم المذكور يلعب أميتاب باتشون دور مدير معهد يسمى كوروكول (Gurukul). وهو مدير قاس ويسير المعهد بيد من حديد. وشروخان يلعب دور عازف الكمان الذي سيصبح أستاذا للموسيقى في المعهد. يحاول الأستاذ الجديد إدخال تعديلات على التقاليد المعمول بها في المعهد منذ عقود من الزمن. عزفه الشجي على الكمان سيجلب الطلبة إليه. وسيفتح أعينهم على الحب، فيخرجون باحثين عنه، ويجدونه. ويصبح ثلاثة منهم عاشقون متيمون. ويعترف الأستاذ للمدير في النهاية أنه كان بدوره عاشقا، وحبيبته هي بنت المدير التي توفيت منذ مدة. وبسبب هذا الحب تم فصله عن المعهد قبل سنوات، كأنه ارتكب جريمة، وعاد، لأنه أقسم على أن يعود، ليعطي للمدير دروسا في الحب والحياة. !! نقط الالتقاء بين الفيلمين كثيرة جدا بحيث يصعب حصرها في عدد معين ومنها وجود معهد فسيح ومنعزل، له تقاليد صارمة، ومدير جبار، وأستاذ يخرق تلك التقاليد، ولا يلتزم بها، وقد سبق له أن كان طالبا في نفس المعهد، إلخ. إذا كان فيلم جماعة الشعراء الموتى مقنعا، فإن الإقناع لا يتوفر في الفيلم الهندي، رغم لجوئه إلى "التوابل" الكثيرة التي تحفل بها الأفلام الهندية مثل الأغاني والرقص، رغم أن ذلك يبدو في الكثير من الأحيان مقحما، ولا علاقة له بالسياق العام للفيلم، وبالأحداث الجارية. كل ما تم القيام به في الفيلم الهندي السابق الذكر هو استبدال الشعر بالموسيقى، وحصر اهتمام الطلبة في موضوع واحد هو الحب، وذلك حتى يتماشى الفيلم مع الطابع العام المميز للسينما الهندية، التي يبدو أنها تكرر نفسها بشكل يبعث على الاستغراب، خصوصا وأن الصناعة السينمائية في الهند تتوفر على إمكانات هامة يمكن أن تساعد على إيجاد مواضيع وأفكار جديدة تخرج تلك السينما عن نمطيتها، وتفتح أمامها أفاقا جديدة. خلاصة القول، وباختصار شديد: لقد تم "تهنيد" ) من الهند ( الفيلم !!. الأستاذ الشاعر تقمص روبن وليامز دوره كما يجب. لعب دور الأستاذ الشاعر، وكان بارعا. لا يمكن إلا أن تؤيده على الطريقة التي يؤدي بها عمله. في النهاية لا يمكن إلا أن تحبه، وتتعاطف معه، وتتوّحد به. نفس الشيء يمكن أن يحصل معك عندما تشاهد روبرتو بينيني (Roberto Benigni ) وهو يوضح لطلبته معنى الشعر في فيلم "النمر والثلج" (2005). حمل روبن وليامز اسم جون كيتن (John Keating). لم يكن على الإطلاق أستاذا سلطويا ومتسلطا. فهو لا يهدد ولا يعاقب البتة. الابتسامة لا تفارق محياه أبدا. يعامل طلبته كأصدقاء، ويعرف جيدا معنى الصداقة. لقد استطاع في ظرف وجيز أن يكون قريبا منهم ويكونون قريبين منه. جعله هذا القرب يفتح لهم قلبه، ويكشف لهم عن أسراره. لقد كان هو أيضا، ذات مرة، طالبا في نفس الأكاديمية. وقد أنشأ مع طلبة آخرين جماعة أطلقوا عليها اسم "جماعة الشعراء الموتى". وقد كان أعضاء هذه الجماعة يغادرون غرفهم في الليل تجاه كهف يوجد في الغابة، ويقضون ليلهم يقرأون الشعر. كان الشعر، على حد تعبيره، يتدفق على ألسنهم كالعسل، فيغرقون في حلاوته، تاركين إياه ينفث سحره فيهم. لقد كان أعضاء الجماعة يعملون على "امتصاص عصارة الحياة". وكان ثورو (Thoreau) وولت وايتمان (Walt Whitman)وشيلي (Shelley) من الشعراء المحبوبين، والحاضرة قصائدهم على الدوام. روح هذه الجماعة هي التي سيحاول كيتن غرسها في طلبته. ودون علم أحد، بما في ذلك الأستاذ نفسه، سينهج تلامذته نفس السبيل. سيعثرون على الكهف المعلوم، ويشرعون في القيام بطقوس الجماعة الأولى: يقرأون الشعر، ويحكون الحكايات، ويدخنون، ويعزفون، ويرقصون، إلخ. وبكلمة واحدة يعيشون بإبداع. لم يكن الأستاذ يترك شيئا لا يدمج فيه الشعر حتى لعب كرة القدم. منه نعرف أن الشعر ليس قولا يقال، أو مجرد كتابات مقبورة بين دفتي كتاب، وإنما هو نمط حياة. وهذا النمط من الحياة يقوم أساسا على رفض الوصاية، وترك الطلبة يفكرون بأنفسهم. إنه نمط حياة ينبني على الحرية. ولذلك فأول شيء طلبه من طلبته هو تمزيق الكتاب المعتمد من قبل المعهد لدراسة الشعر. كان كيتن يدعو طلبته إلى تغيير موقعهم لرؤية الأشياء بشكل مختلف. فكلما غيرنا زاوية نظرنا للأشياء اكتشفنا فيها معنى جديدا. كما كان يدعوهم إلى عدم الاكتفاء بالتفكير في ما يقوله الكاتب، وإنما الأخذ بعين الاعتبار ما يفكرون هم فيه. كان يحذرهم من خطورة أن يصبحوا نسخة مطابقة للأصل من الآخرين. كان يرغب في أن يجعلهم يشعرون بتميزهم واختلافهم عن بعضهم البعض. وما أحوج المدرسة اليوم للقيام بهذه المهمة العسيرة في زمن عنوانه التشابه والتطابق في الأفكار والأذواق وغيرهما. كان كيتن يرغب في أن يعلم طلبته كيف يختارون طريقهم الخاص، وأسلوبهم الشخصي في التفكير، وفي الحياة. أما هو فواضح أنه اختار طريقه. لقد اختار أن يكون أستاذا لأنه يحب مهنة التدريس. وعلى الصعيد الفكري اختار إعلان الحرب على التقاليد الأكاديمية التي أفرغت الشعر من مضمونه. لقد كان يسعى إلى انقاد قلوب طلبته وأرواحهم قبل أن تعبث بها الكتب الأكاديمية والأساتذة، الذين يتحدثون عن الشعر كما لو أنهم يتحدثون عن أي شيء آخر. يوجد من بين الطلبة من سيتخذ أستاذه كيتن نموذجا يحتذى، ك"نيل"( (Neilمثلا، الذي اكتشف موهبته في التمثيل. وبات يحلم أن يصير ممثلا. وقد استطاع الحصول على دور في إحدى المسرحيات، فكاد أن يطير فرحا. حاول والده المتسلط أن يحول بينه وبين الفن. في النهاية دفع حياته ثمنا لحبه للتمثيل. بعد انتحار نيل ستدخل الإدارة على خط التحقيق. وستدفع الطلبة أصدقاء نيل إلى التوقيع، تباعا وبحضور أولياء أمورهم، على وثيقة، تدين الأستاذ كيتن بشكل مباشر. سيعتبر كيتن هو المسؤول عما وقع لنيل. لم يؤلمه ذلك على الأرجح بقدر ما ألمه موت نيل، إذ بكى عليه طويلا. صحيح لقد خاب أمله في بعض طلبته، لكنه، كأي أستاذ، لابد أنه كان يعرف، بشكل مسبق، أن لا أستاذ في العالم يستطيع أن يكون محبوبا تماما من طرف كل الطلبة. عندما كان يجمع أغراضه بعد أن تم منعه من مواصلة التدريس، وتكلف بالمهمة، بدلا منه، مدير الأكاديمية بنفسه، كان يبدو حزينا للغاية. كان يشعر بأن كل ما فعله، أو حاول فعله، صار هباء منثورا. أي أستاذ في مكانه لابد أن يشعر بالفشل واليأس. عندما تتغلغل الحبة في الأرض لابد أن تنبت ولو بعد حين. لقد غرس في الطلبة، أو البعض منهم على الأقل، أولئك الذين ما تزال قلوبهم وأرواحهم خصبة، قيما ستظل ترافقهم طيلة حياتهم. سيتحدى هؤلاء مدير الأكاديمية ويحيون أستاذهم بطريقتهم الخاصة، فردوا له بذلك اعتباره، معترفين بجميله. بكى تأثرا، وشكرهم على فعلهم، وعلى شجاعتهم. من الجلي جدا أن إدارة الأكاديمية اتخذت من انتحار نيل ذريعة للتخلص من كيتن، الذي كان له "بروفايل" (profil) خاص به. لقد بدا لها مزعجا. وطريقته في التدريس لا تستقيم مع ما هو شائع، ومتعارف عليه في الأكاديمية. وعلى الدوام كان يتعرض لانتقادات، سواء من قبل زملائه في العمل، أو من قبل مدير الأكاديمية نفسه. وكان المبرر الذي يلجأ إليه للهجوم على طريقته في التدريس أن الطلبة صغار السن، ويمكن التأثير فيهم سلبا. لقد كانت الأكاديمية، والساهرين عليها، يرغبون في تكوين تلاميذ بمواصفات محددة. غايتهم لا تختلف في العمق عن غاية شركة معينة ترغب في إنتاج سلعة ما بمواصفات معينة. لم تكن الأكاديمية يعنيها البعد الإنساني في الطلبة. هذا البعد يبقى مستبعدا في الغالب، ولا يحظى بالاهتمام الذي يستحقه. الشعر والنوع الإنساني ما يتم إغفاله في التعليم عادة هو ما سيركز عليه كيتن. لقد كان يعترف بأن كل العلوم كالهندسة والطب والقانون مهمة للحياة، لكن الشعر هو الذي يربطنا بالنوع الإنساني. هذا النوع يتميز، في نظره، عن كل الأنواع الأخرى. فالإنسان لا يعيش من أجل العيش فقط، وإنما يعيش من أجل الجمال والرومانسية والحب. وهذه الأشياء هي مواضيع الشعر الأساسية. لقد كان كيتن يشعر بخطورة الأفكار. كان يعتقد أنها قادرة على تغيير العالم. يعني ذلك أن غرس أفكار معينة في الطلبة لابد أن يثمر يوما ما. هذا يستلزم، من بين ما يستلزمه، إعادة النظر، في كل مرة، في المناهج التعليمية المعمول بها. أما الحفاظ على المناهج المتوارثة والبالية فضررها أكثر من نفعها خصوصا في الوقت الراهن، حيث صارت المدرسة مطالبة بالتجدد المستمر لمواكبة العصر. وهذا التجدد يجب أن يسير في اتجاه إعادة الاهتمام بما هو إنساني في التعليم. وفي هذا السياق يجب إعادة النظر في الطرق التي يُدرس بها الشعر، والأدب بشكل عام، في المدارس والجامعات. وإذا لم يحصل ذلك ظل الأدب بعيدا عن اهتمامات التلاميذ والطلبة، وعن عقولهم وقلوبهم وأرواحهم. ولا غرابة في أن يهجروه عندما تسنح لهم الفرصة بذلك، ولا يعودون إليه أبدا. لم يقترح تودوروف في كتابه السابق الذكر وصفة سحرية لتدريس الأدب بشكل عام، لكنه، ربما لو شاهد فيلم جماعة الشعراء الموتى، سيؤكد أن الطريقة التي يدرس بها كيتن الشعر، حتى ولو لم تك هي الطريقة المثلى، فإنها تبقى أحسن، وبكثير، من الطرق البئيسة التي صار يُدرس بها في كل مكان في عالم اليوم.